الأربعاء، 31 مارس 2021

احتكار اللقاح

لم استغربْ بتاتاً عندما قرأتُ وسمعت خبراً سرياً بثته القناة الإخبارية العريقة بي بي سي، حيث كشفت الـ بي بي سي عن تقرير سري، ووثيقة مسربة حَصلتْ عليها في 20 مارس من العام الجاري، وهذه الوثيقة تؤكد بأن هناك دولاً غربية غنية ومتقدمة من ضمنها بريطانيا العظمى، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي تعمل بشكلٍ جدي على عرقلة تصنيع وإنتاج اللقاحات في الدول النامية، وتقف حجر عثرة أمام الجهود التي تبذلها الدول الفقيرة والنامية عن طريق المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة الدولية لتحويل جزءٍ من إنتاج وصناعة اللقاح إلى دولها من أجل التسريع في الإنتاج، وتلقيح شعوبها قبل فوات الأوان.

 

فشركات صناعة الأدوية الكبرى وغيرها من شركات متعددة الجنسيات هي التي تحكم العالم، وهي التي تسيطر على قرارات الكثير من الدول، وتُعد كجماعات الضغط تُسيِّر سياسات الدول وبرامج أعضاء السلطات التشريعية في البرلمانات نحو سياساتها ومصالحها العليا، ولذلك فإن قواعد هذه الشركات لا تقوم على أسس إنسانية، ولا توجد بها مبادئ أخلاقية سامية تحكم أعمالها وسلوكياتها، فهي تهدف أساساً إلى تحقيق الربح السريع والكبير وعلى حساب كل شيء إرضاءً لأعضاء مجالس الإدارات، وزيادة في أعداد المساهمين. ومن أدوات الربح السريع والعظيم هي احتكار تصنيع المنتجات المتخصصة جداً في مسقط رأس الشركة في الدول الثرية والغنية. وعلاوة على ذلك فإن هذه الشركات تُبرر عدم السماح للدول النامية في إنتاج الأدوية عامة، ولقاح فيروس كورونا خاصة في أنها تمتلك حق الملكية لتقنيات التطوير، إضافة إلى استثمارها لملايين الدولارات في عملية التصميم والتطوير والإنتاج والتصنيع، كما أن لها حقوق براءات الاختراع في هذه التقنيات التي أنفقت الكثير على الأبحاث الخاصة بها. وبهذه الحجة تكون هذه الشركات تقليدياً محتكرة أصلاً للمعلومة العلمية والفنية والتقنية(know-how)، وتتمتع دائماً بحصانة حصرية الإنتاج والتوزيع والتسويق، ووضع السعر المناسب للشركة لكل منتج يصدر منها.

 

وبالتالي لا غرابة أن شركات الأدوية التي تطور وتنتج اللقاح الخاص ضد كورونا ستضغط على حكومات الدول التي تعمل فيها، وبالتحديد الدول الغربية أن تدعمها في "احتكار اللقاح" في المحافل الدولية تحت أي مبرر والمبررات كثيرة، وأن تساندها في عرقلة ومنع كافة المقترحات ومشاريع القرارات الخاصة بتقديم المساعدة للدول الفقيرة والنامية لإنتاج اللقاح محلياً، أي في هذه الدول المستضعفة من أجل التسريع في توزيعها على شعوبها.

 

وقد نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية تحقيقاً في 21 مارس من العام الجاري تحت عنوان: "شركات الأدوية تدافع عن اتهامها باحتكار اللقاح"، حيث ألقى هذا التحقيق الضوء على عدة نقاط تؤكد واقعية سعي شركات العقاقير وإنتاج اللقاح إلى تأمين إنتاجها تحت إمرة شركاتهم وفي دولهم دون ترحيلها إلى دول العالم الثالث. ومن هذه النقاط أن شركات من بنجلادش، ومنها بالتحديد "إنسبتا"(Incepta) أرسلت عدة خطابات إلى كبريات الشركات المصنعة للقاح مثل موديرنا، وجونسون أند جونسون، ونوفافاكس(Novavax) تُقدم فيها الشركة البنغالية قدرتها الفنية والتقنية على إنتاج 600 مليون إلى 800 مليون جرعة في السنة لتوزيعها في القارة الآسيوية، ولكنها لم تتلق أي رد من هذه الشركات الغربية.

والنقطة الثانية التي وردت في التقرير هي إرسال الشركات الأمريكية الكبرى المنتجة للقاح خطاباً إلى الرئيس الأمريكي بايدن تضغط فيه على الرئيس لتفهم وجهة نظرهم بالنسبة لعدم الموافقة على إنتاج اللقاح في الدول الفقيرة، ودعوتهم للرئيس على الوقوف معهم رسمياً لمنع منظمة التجارة العالمية أن تتخذ قراراً دولياً لرفع الحماية عن براءات الاختراع للقاحات الجديدة في الحالات الطارئة، مما يسمح عندئذٍ الدول النامية إلى إنتاجها محلياً في دولهم.

وفي هذا الإطار حاولت منظمة الصحة العالمية كسر احتكار هذه الشركات الجشعة التي تلهث وراء جمع المال ومساعدة الدول النامية لإنتاج اللقاح في الدولة نفسها، فطرحت مبادرة دولية وأنشئت برنامجاً دولياً لإشراك كافة الدول في تقنية إنتاج اللقاح، تحت مسمى الاتاحة الجماعية لتقنية كوفيد_19(COVID-19 Technology Access Pool) ولكن، كما هو متوقع، لم تتجاوب الشركات المنتجة للقاح بصورة إيجابية، ولم توافق  في الانضمام إلى هذه المبادرة والمشاركة في البرنامج الإنساني.

كذلك قامت المنظمة بمحاولة أخرى لوضع قيود غير مباشرة على هذا الاحتكار، وتتمثل في طرح مبادرة أممية تساعد الدول النامية والفقيرة على الحصول على اللقاح تحت مسمى كوفاكس، أو الوصول العالمي للقاحات فيروس كورونا(Vaccines Global Access Facility)(Covax)، أي أن يكون اللقاح ميسراً ومتاحاً بشكلٍ عادل ومنصف للجميع، وبخاصة لشعوب الدول النامية والفقيرة، من خلال الشراء الجماعي للقاح، ويدير هذا البرنامج تحالف اللقاحات الدولي(Global Vaccines Alliance) أو جافي(Gavi). وهذه المبادرة أيضاً لم يكتب لها النجاح المشهود لسببين رئيسين. الأول عدم توافر المال الكافي لشراء اللقاحات لجميع الدول المعنية، حيث أن هناك الكثير من الدول التي لم تحصل حتى اليوم على جرعة واحدة من أي نوع من اللقاح وعليها الانتظار طويلاً وتجرع كأس الموت من هذا الفيروس العقيم، وثانياً عدم وجود اللقاح في الأسواق، حيث إن الدول المتقدمة حجزت حصة الأسد مقدماً لجميع اللقاحات ودفعت قيمتها وبأسعار تفضيلية رخيصة، حتى قبل إنتاجها، ومنهم من اشترى لقاحات أكثر من حاجة السكان، كما حدث في كندا الولايات المتحدة الأمريكية حسب المقالين المنشورين في مجلة الأمة الأمريكية(The Nation) في 22 مارس تحت عنوان: "عدم عدالة النزعة القومية للقاح"، وفي 25 مارس من العام الجاري تحت عنوان: "لقاح كوفيد: شركات الأدوية الكبرى تربح بينما دول الجنوب تنتظر".

 

وقد حذرت منظمة الصحة العالمية قبل أشهر من وقوع هذه الكارثة الإنسانية الأخلاقية التي ليست هي الأولى من نوعها، حيث إن الدول الغنية والمتقدمة نفسها هي التي رفضت في التسعينيات من القرن المنصرم السماح لدول العالم الثالث إنتاج اللقاح ضد فيروس الإيدز لمنع موت عشرات الآلاف من البشر في أفريقيا خاصة، ففي 18 يناير 2021 نبه مدير المنظمة قائلاً: "أحتاج أن أكون حاداً، فالعالم على حافة كارثة الفشل الأخلاقي، وثمن هذا الفشل سيدفعه الناس بأرواحهم في الدول الأشد فقراً"، فكما هو واضح ومشهود هو أن الدول الغنية المتطورة احتكرت توزيع اللقاح من خلال تبني سياسة قومية وأنانية هي "أنا أولاً"، أي أن صحة الغني والثري تأتي قبل صحة الفقير والضعيف وربما الأكثر حاجة للقاح!

 

فعلى شعوب دول العالم الثالث أن تنتظر دورها في مؤخرة القائمة، وربما سيطول انتظارها كثيراً حتى تفرغ الدول الغنية والمتقدمة من تلقيح شعوبها، ومثل هذه الحالات المأساوية المتكررة من المفروض أن تلزم الدول النامية إلى الاهتمام بالعلماء والبحث العلمي والتوجه نحو التصنيع والإنتاج المحلي حتى لا نظل عالة نمد أيدينا إليهم.

الاثنين، 29 مارس 2021

القاتل الصامت مازال يقتل بصمت

عدة حوادث قَتْل وقعتْ في الأيام الماضية ومرَّت على الناس مرور الكرام، منها حوادث ذهب ضحيتها أفراد، ومنها سقوط جماعات مسمومة أو ميتة بسبب التعرض لقاتلٍ صامت يعمل بسرية تامة، فيقتل دون أن يترك أثراً، أو أية بصمة مشهودة، ودون أن يحس الميت نفسه بهذا القاتل، ودون أن يراه عندما يسقط صريعاً يلفظ أنفاسه الأخيرة.

 

فالكارثة التي نزلت على بعض الولايات الأمريكية الجنوبية وأودت بحياة أكثر من 25، وبخاصة في ولاية تكساس من العواصف الثلجية المهلكة، والريح الصرصر الشديدة البرودة العاتية، وانقطاع في الكهرباء، وشح في الماء والغذاء والغاز، صاحبتها في الوقت نفسه كارثة أخرى، ولكن لم تك مشهودة للعيان كالكارثة الأولى التي رأيناها جميعاً ولم تخف على أحد، وهي موت الناس وتسممهم ببطء وبهدوء شديدين من ملوثٍ عديم اللون، وعديم الطعم والرائحة، وهو ملوث تقليدي قديم معروف لدينا منذ مئات السنين، وهذا الملوث نفسه متهم في عشرات الآلاف من حالات التسمم والموت في كل أنحاء العالم بدون استثناء، بما في ذلك مملكتنا الغالية، وهو غاز أول أكسيد الكربون.

 

فالتقرير المنشور في 18 فبراير من "شبكة مركز تكساس للسموم"، أكد عن تسجيل أكثر من 450 حالة تسمم واختناق في ولاية تكساس فقط، مات منهم اثنان حتى تلك اللحظة في مدينة هيوستن النفطية العريقة، وهناك حالات كثيرة أخرى لم تُسجل رسمياً لعدم قدرة المستشفيات على استيعاب المزيد من مثل هذه الحالات.

 

وهذا القاتل الصامت، غاز أول أكسيد الكربون، ينبعث من أية عمليات احتراق غير كاملة لأي وقود أحفوري، أي عندما يكون الاحتراق في جوٍ غير مشبع بالأكسجين، سواء عند احتراق الجازولين في السيارة، أو احتراق الديزل في المولدات الكهربائية، أو احتراق الغاز الطبيعي في محطات توليد الكهرباء والشوايات والسخانات، أو احتراق الفحم في محطات الطاقة وأدوات شي الطعام وأجهزة التدفئة. فمن كل هذه المصادر ينطلق هذا الغاز الصامت ويسبب مشكلات صحية تهدد حياة الإنسان بالموت، وهذه المشكلات تتعاظم وتتفاقم عندما يكون انبعاث الغاز في بيئات مغلقة لا يتجدد هواؤها، فيتراكم الغاز في هذه البيئات الضيقة المغلقة ويرتفع تركيزه، ويستنشقه الإنسان دون أن يشعر بوجوده، أو يحس بتأثيره على جسمه حتى يسقط صريعاً مغشياً عليه فينتقل إلى مثواه الأخير.

 

ويرجع السبب في سمية هذا الغاز الخانق في أنه في الحالات العادية الطبيعية عندما يستنشق الإنسان الهواء النقي غير الملوث، ينتقل الأكسجين إلى الرئتين فيتفاعل مع هيموجلوبين الدم ويكون الأُكسي هيموجلوبين، فينتقل إلى كافة خلايا الجسم ويزودها بالأكسجين اللازم، ولكن عند وجود أول أكسيد الكربون في الهواء الجوي، فإن الهيموجلوبين يتفاعل أكثر مع هذا القاتل الصامت بدلاً من الأكسجين ويكون مُركباً ساماً هو الكربكسي هيموجلوبين الذي يعتبر المؤشر الحيوي على التسمم بالغاز، فيمنع وصول الأكسجين إلى خلايا الجسم، فتختنق وتموت رويداً رويداً حتى يلفظ الإنسان أنفاسه الأخيرة ويلقى نحبه.

 

ففي الحالات السامة والموت في ولاية تكساس كانت لعدة أسباب. الأول هروب بعض الناس من الموت بسبب البرد القارس العقيم وانقطاع التيار الكهربائي من خلال الجلوس في السيارات وهي واقفة في الكراج المغلق، ثم تشغيل المحرك والتدفئة في السيارة، فأول أكسيد الكربون الذي ينبعث عند احتراق الوقود يتراكم في الكراج، ثم في السيارة فينتقل إلى جسم الإنسان ويؤدي مع الوقت إلى إضعاف جسمه رويداً رويداً دون أن يحس بذلك حتى تنهار قواه كلياً فيموت من الاختناق وهو جالس في السيارة. والسبب الثاني فيتمثل في استخدام مولدات الديزل أو غاز البروبين اليدوية للتدفئة بالقرب أو في البيئات المغلقة، أو استخدام الفحم للتدفئة والتسخين وشوي الطعام في المنازل، مما ينجم عنها انطلاق القاتل الصامت في هذه البيئات المغلقة، وإصابة الناس بالتسمم والاختناق.

 

 وفي الوقت الذي تساقط الناس مرضى وموتى من التهديد لحياتهم من هذا القاتل الصامت في تكساس، تعرض 63 صينياً في 18 فبراير في مدينة (Dongyang)شرق الصين وهم يتمتعون بمشاهدة أحد الأفلام في دور للسينما في مجمع تجاري أيضاً لهذا القاتل الصامت، وأُدخلوا جميعاً إلى الطوارئ وهم يعانون من الصداع، والقيء، وآلام في الصدر، والغثيان.

 

ولي شخصياً صولات وجولات مع هذا القاتل الصامت من خلال العديد من الأبحاث التي نشرتُها حول مصادر هذا الغاز الملوث للهواء الجوي في البحرين، إضافة إلى دراسة تركيزه في دم المواطن البحريني من خلال قياس تركيز مركب الكربكسي هيموجلوبين. فأول دراسة كانت حول تركيز هذا المركب في دم المتبرعين بالدعم، حيث أكدتُ بأن الفرد المدخن أكثر عرضة لهذا الغاز القاتل الصامت من غير المدخن، سواء من يدخن السجائر التقليدية أو الشيشة، فعند التدخين ينبعث هذا السم القاتل ويدخل في جسم الإنسان، كذلك أفادت دراستي بأن الذين يعملون في وظائف يتعرضون فيه لعوادم السيارات ترتفع عندهم نسبة أول أكسيد الكربون. وفي دراسة أخرى جاءت نتائج البحث بأن الذين يعملون في المطاعم التي تقدم وجبات مشوية تزيد في دمائهم تركيز الكربكسي هيموجلوبين، حيث إن أول أكسيد الكربون ينطلق عند حرق الفحم المستخدم في شواء الطعام. وعلاوة على هذا، فإن هناك عدة حوادث مميتة وقعت في البحرين، منها وفاة بحرينيين في السيارة أثناء وقوفها في الكراج والمحرك يشتغل وهم بداخلها يستنشقون أول أكسيد الكربون دون علمهم بوجوده، إضافة إلى حوادث موت أخرى بسبب ترك "المنقلة" التي تعمل بالفحم وهي مشتعلة في الخيمة، أو في غرفة مغلقة.

 

ومع الأسف فكل هذه الحوادث المميتة مازالت تقع مراراً وتكراراً منذ عقود طويلة من الزمن في كل دول العالم، وكأن الإنسان لا يريد أن يتعظ بها، أو يتعلم منها، فيُجنب نفسه شر السقوط في التعرض لهذا الملوث القاتل الصامت. 

 

الأربعاء، 24 مارس 2021

أيهما أشد فتكاً بالصحة، كورونا أم تلوث الهواء؟

العاصفة الهوجاء التي ضربت البحرين يومي الجمعة والسبت، 12 و 13 مارس، وبلغت ذروتها يوم الجمعة مساءً وصباح يوم السبت، ألزمت الناس واضطرتهم إلى البقاء في منازلهم وتجنب الخروج كلياً هرباً من هذا التلوث الطبيعي، إلا عند الحالات الضرورية الملحة. فهذه الريح الصرصر العاتية التي نزلت علينا حملت معها الأتربة والغبار من صحراء الربع الخالي، فالأتربة ذات الجسيمات الكبيرة انتقلت مسافات قصيرة وترسبت على الأرض، وأما الأتربة التي جسيماتها صغيرة وبعضها متناهية في الصغر، فحملتها الرياح مسافات طويلة، وعبرت معها الحدود الجغرافية للدول حتى وصلت البحرين، فغطت البلاد كلياً بالغبار الأصفر اللون المسبب للأمراض والموت في بعض الأحيان.

 

ففي مثل هذه الحالات المغبرة، تؤكد التجارب والخبرات السابقة أن الكثير من الناس يصابون بأعراض مرضية متعلقة بالجهاز التنفسي، مثل السعال والكحة، وارتفاع نسبة البلغم، والتهاب الجهاز التنفسي العلوي والسفلي، وازدياد نوبات الربو لمن يعاني من الربو، والتهاب الجيوب الأنفية، وزيادة الحساسية الناجمة عن هذه الجسيمات الدقيقة، وفي حالات حادة يصاب الإنسان بضيق التنفس وآلام في الصدر فيؤخذ إلى المستشفى للحالات الطارئة، وقد ينتقل البعض إلى مثواهم الأخير بسبب شدة الإصابة وحدتها على الجهاز التنفسي، وبخاصة بالنسبة للأطفال، وكبار السن، والذين يعانون من أمراض في الجهاز التنفسي.

 

فما حدث لنا في البحرين يُعد مثالاً صارخاً على ما يفعله التلوث بالإنسان، ويؤكد بأن تلوث الهواء خاصة قادر على تحطيم الصحة العامة والموت المبكر، وفي هذا المثال نُطلق عليه بالتلوث الطبيعي، أي الناجم عن التغيرات المناخية الموسمية الطبيعية، مع العلم بأن أيدي الإنسان لها دور في تفاقم وازدياد شدة مثل هذه الحالات المناخية. فالملوثات التي يُطلقها إلى الهواء الجوي منذ أكثر من مائتي عام، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما قد أدت إلى حدوث ظاهرة التغير المناخي على المستوى الدولي، وهذه الظاهرة من مردوداتها انخفاض مستوى الأمطار، وارتفاع درجة حرارة الأرض وسخونتها، وهذه تؤدي بدورها إلى جفاف التربة السطحية، وتفككها، وسهولة تحركها وحمل الرياح لها، ونقلها إلى مسافات طويلة.

 

وفي الوقت نفسه هناك التلوث الذي صنعه الإنسان كلياً، فارتكبت يداه تعديات لا تعد ولا تحصى على حرمات البيئة من هواء، وماء، وتربة، ومن أشد هذه التعديات فتكاً بالصحة العامة هو الملوثات التي سمح الإنسان بإطلاقها إلى الهواء الجوي منذ نحو قرنين، فالملوثات تنطلق من محطات توليد الكهرباء في كل مدن العالم، والسموم تنبعث من ملايين السيارات في كل حي وفي كل مدينة على كوكبنا، والملوثات تنبعث من عشرات الآلاف من الطائرات التي تحوم في سمائنا، والسموم المهلكة للبشر نسمح لها بالخروج من مداخن الملايين من المصانع دون رقابة حقيقية أو مكافحة صارمة.

 

فهذا الخليط السام من الملوثات التي نطلقها إلى الهواء الجوي لا تنتهي، ولا تزول، وإنما تحولت إلى مظاهر واقعية نراها أمامنا ونشاهدها بأم أعيننا، مثل ظاهرة المطر الحمضي نتيجة لتحول ملوثات حمضية مثل أكاسيد الكبريت والنيتروجين والكربون التي تتفاعل مع الماء في أعالي السماء فتنزل مطراً حمضياً، او ثلجاً حمضياً، أو ضباباً حمضياً يهلك البشر والشجر والحجر، كما أن هناك ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي الأصفر البني اللون الذي نراه واضحاً في السماء في الكثير من المدن الحضرية المكتظة بالسيارات. وكل هذه المظاهر ليست صوراً نشاهدها أمامنا وإنما تتحول إلى حالات مرضية تقتل البشر، ومن أكبر الأمثلة التاريخية الواقعية المعاصرة التي قرأنا عنها هي الكارثة البيئية الصحية القاتلة التي وقعت في أيام الأعياد في مدينة لندن العريقة في ديسمبر 1952 عندما مات أكثر من أربعة آلاف لندني بسبب تلوث الهواء الجوي.

 

فإذن نحن نقف أمام عدوٍ حقيقي وواقعي، وليس عدواً وهمياً أو مرتقباً، وأصبحت لدينا خبرة طويلة في المعاناة منها في الكثير من مدن العالم، ولذلك هناك عشرات الآلاف من الدراسات والأبحاث التي تُوثق هذه المعاناة وتؤكد واقعية الضرر الحادث من تلوث الهواء على صحة البشر، كما اهتمت منظمات الأمم المتحدة المعنية بالبيئة والصحة العامة بهذه القضية المزمنة. 

 

ومن آخر الأبحاث حول هذه القضية البحث الذي سينشر في مجلة "تلوث البيئة" في أبريل 2021، تحت عنوان: "الوفيات على المستوى الدولي بسبب الجسيمات الدقيقة من حرق الوقود الأحفوري"، فهذه الدراسة قدَّرت بأن عدد الموت في عام 2012 ارتفع عن المعدل فبلغ 10.2 مليون بسبب الغبار أو الجسيمات الدقيقة المنطلقة من السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع، كما أفادت بأن 62% منهم في الصين، أو قرابة 3.9 مليون، وفي الهند2.5 مليون. كما أن منظمة الصحة العالمية وصفت تلوث الهواء بأنه يشكل "حالة طوارئ صحة عامة"، وأَطلقت عليه "القاتل الصامت"، حيث قدَّرت بأن تلوث الهواء يتحمل مسؤولية موت قرابة 8.8 مليون سنوياً، أي أكثر مما يسببه التدخين سنوياً.

 

والآن لو قارنا أعداد الموتى من تلوث الهواء ومن فيروس كورونا حسب تقارير منظمة الصحة العالمية في الحالتين، لوجدنا بأن الذين يلقون حتفهم بسبب التعرض للهواء الملوث أكثر بنسبةٍ كبيرة جداً. فآخر الإحصاءات والتقارير تفيد بأن عدد الوفيات الإجمالي من فيروس كورنا على مستوى سكان الأرض لم يتجاوز 2.7 مليون منذ أن أُعلن رسمياً عن هذا المرض في ديسمبر من عام 2019. وبالرغم من هذا الفارق الكبير بين العاملين المؤدين إلى موت البشر، تلوث الهواء مقارنة بفيروس كورونا، فإن حالات الوفيات بسبب كورونا حظيت بالتغطية الشاملة والواسعة والفورية كل ساعة، وأعطت جميع دول العالم جُل اهتمامها وأولوياتها لمكافحة مرض كورونا، كما وجهت دول العالم كل الإمكانات المالية، والبشرية، والأجهزة والمعدات لعلاج هذا المرض، في حين أن تلوث الهواء الذي يُعد عالمياً من الأسباب الرئيسة المستمرة لعقود طويلة لموت البشر، مازال قضية هامشية تستجدي من يرعاها ويهتم بها على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

 

ولذلك لو وفرنا جزءاً يسيراً من هذه الطاقة والإمكانات والنفقات التي قدمناها لعلاج كورونا ووجهناها لمكافحة الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء لنجحنا فعلاً في أن نخفض من أعداد الوفيات من تلوث الهواء التي تتراوح بين 8.8 إلى 10.2 سنوياً.

 

الجمعة، 19 مارس 2021

تقرير للأمم المتحدة: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا


عندما أُشاهد في وسائل الإعلام صور الأطفال والرجال والنساء وهم يبحثون عن فتات الطعام ليسدوا بها جوعهم في مواقع دفن المخلفات، أو في المواقع التي تُرمى فيها القمامة المتعفنة قبل نقلها إلى مثواها الأخير، فيفتشون ليلاً نهاراً وسط حاويات وبراميل القمامة الفاسدة والمخلفات المتحللة المرضية لعلهم يجدون لقيمات بسيطة يقمن صلبهم، فمثل هذه المناظر والصور المؤلمة غير الإنسانية تحزنني وتحيرني كثيراً، وتُثير عندي التساؤلات التالية: هل هناك نقص في إنتاج الطعام على المستوى الدولي بحيث لا يكفي لكل البشر حول العالم؟ أم أن هناك سوء إدارة وتوزيع غير عادل للطعام والمواد الغذائية عامة، أو أن هناك هدراً مفرطاً، وإسرافاً شديداً، واستنزافاً مبذراً للطعام من بعض فئات المجتمع على حساب باقي الفئات الأخرى؟

 

والإجابة عن بعض هذه الأسئلة لم تتأخر كثيراً، فقد جاءت فوراً من التقرير الصادر من برنامج الأمم المتحدة للبيئة في نيروبي بكينيا في الرابع من مارس 2021، تحت عنوان:"مؤشر مخلفات الطعام، تقرير 2021حيث توصلت الدراسة الأممية إلى استنتاجٍ عامٍ واحد ملخصه بأن هناك هدراً كبيراً، وإسرافاً شديداً في استهلاك المواد الغذائية التي يُنتجها البشر في كل دول العالم بدون استثناء، والذي ينعكس بدوره مباشرة على كمية وأحجام مخلفات الأطعمة، وبقايا المواد الغذائية التي يرميها الإنسان في حاويات القمامة يومياً.

 

وأما الاستنتاجات والدلائل الأخرى الخاصة التي تمخضت عن التقرير، فيمكن تقديمها في النقاط التالية:

أولاً: بلغت كمية مخلفات الأطعمة التي ألقاها البشر في سلات المخلفات في عام 2019 قرابة 931 مليون طن، وقد كانت لمنازلنا حصة الأسد في إنتاج هذه المخلفات وبنسبة قدرها 61%، مما يؤكد ظاهرة الإسراف والتبذير في الاستهلاك وهدر الطعام، كما يثبت بأن أحد الحلول التي تُسهم في مواجهة هذه الظاهرة الاجتماعية السلوكية غير المستدامة هو تنفيذ التوجيهات الربانية المتمثلة في الآية الكريمة التي تدعو إلى الترشيد وتجنب التبذير والتنطع في الأكل والشرب، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: "وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا، إنَّه لا يحب المسرفين".

ثانياً: أكد التقرير بأن هذا الإسراف في توليد مخلفات الأطعمة ليس مرتبطاً بالضرورة بالحالة الاقتصادية والاجتماعية للدول ودخلها القومي، وإنما هو ظاهرة تم رصدها في الدول الفقيرة على حدٍ سواء. فهذا النمط الاستهلاكي غير الرشيد للمواد الغذائية كان موجوداً في معظم دول العالم، فعلى سبيل المثال، المواطن البحريني يُضيع سنوياً 132 كيلوجراماً، أي 146 ألف طن في السنة من مخلفات الطعام تلقى مصيرها في حاويات القمامة وفي مقبرة المخلفات(هذه المخلفات تزيد بشكل ملحوظ في شهر رمضان)، والهندي يُهدر فيُنتج 50 كيلوجراماً من مخلفات الأطعمة سنوياً أي قرابة 68.7 مليون طن سنوياً، والباكستاني يُضيع سنوياً 74 كيلوجراماً من الطعام، والأفغاني 82، والبنجالي 65، في حين أن الإنسان الأمريكي يلقي 59 كيلوجراماً من الأطعمة سنوياً في القمامة، أي نحو 19.4 مليون طن مقابل الإنسان الصيني الذي ينتج من مخلفات الأطعمة قرابة 64 كيلوجراماً، أي 91.6 مليون طن من بقايا الأطعمة والمخلفات الغذائية.

 

وفي الوقت الذي كان الإنسان يُضيع ويرمي بهذه الكميات العظيمة من مخلفات الأطعمة في القمامة، كان هناك وفي العام نفسه، عام 2019، أكثر من 690 مليون إنسان يتضور جوعاً ولا يحصل على قوت يومه، وهذا العدد تفاقم وازداد كثيراً بعد نزول فيروس كورونا، فعمَّت المجاعة في الكثير من مدن العالم الغنية والثرية، والفقيرة والمستضعفة على حدٍ سواء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نَشرتْ منظمة اجتماعية أمريكية تهدف إلى إطعام الجوعى وتوزيع الطعام على المحتاجين من الأفراد والأسر وهي (Capital Area Food Bank) تقريراً في العشرين من يوليو عام 2020 بعنوان: "الجوع موجود في كافة مناطق العاصمة"،  ونقلته صحيفة الواشنطن تايمس في 22 يوليو في تحقيقها تحت عنوان: "كورونا يسبب مجاعة لنحو ربع مليون إنسان في العاصمة واشنطن"، وجاء فيهما بأن نحو 450 من بنوك الطعام، أو أماكن توزيع الطعام قد أُغلقت بسبب كورونا، ومع ازدياد أعداد العاطلين عن العمل والذين خسروا مصادر رزقهم وبلغ عددهم نحو 30 مليون أمريكي، زاد الأمر سوءاً وزاد النقص في قدرة توزيع الطعام، حيث زاد الطلب على الطعام بنسبة تتراوح من 30 إلى 400%، فعدد الجوعى والمعوزين والفقراء الذين يحتاجون إلى المساعدة للحصول على الطعام والوجبات المجانية سيرتفع حسب التقرير ما بين 48 إلى 60% في السنوات القادمة.

ثالثاً: هذا الهدر غير المنطقي وغير المقبول للطعام يكلف العالم قرابة 940 مليون دولار سنوياً، وهذه الكلفة الباهظة جاءت نتيجة للانعكاسات البيئية والاجتماعية الناجمة عن الاستهلاك والتبذير في إدارة المواد الغذائية عامة، سواء من المنزل، أو المطعم، أو الفندق، أو أثناء إنتاج المواد الغذائية، أو أثناء عملية التخزين والنقل. أما من الناحية البيئية، فكما أن الإنسان يُطلق ملوثات غازية إلى الهواء الجوي، أو مخلفات سائلة إلى المسطحات المائية، فهو في الوقت نفسه يطلق ويرمي مخلفات صلبة متمثلة في بقايا الطعام على التربة فيلوثها، ويشكل عبئاً كبيراً لإدارتها والتعامل معها بأسلوب صحي وبيئي مستدام.

 

وعلاوة على ذلك، فعملية الإنتاج الزراعي للمواد الغذائية التي يتم تضييعها جزئياً لها مردودات بيئية كثيرة منها استخدام المبيدات السامة بكافة أنواعها وتلويث البيئة والإنسان والحياة الفطرية البرية والبحرية، ومنها استعمال الأسمدة الكيميائية الملوث للتربة والنبات والماء والإنسان، ومنها انبعاث الغازات الملوثة للهواء الجوي والمسببة لظاهرة التغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض، ومنها أيضاً خفض درجة التنوع الحيوي بشقيه النباتي والحيواني من خلال تحويل الغابات الفطرية الشديدة التنوع الحيوي وإزالتها لإقامة المزارع والحقول للمحاصيل الزراعية، ومنها استنزاف المياه العذبة ونضوب المياه الجوفية، ومنها كذلك الاستهلاك الشديد للوقود ومصادر الطاقة الشديدة التلوث للبيئة.

 

كذلك فإن هذا الهدر والتبذير في استهلاك المواد الغذائية لا يصب في نهاية المطاف في تحقيق أهداف التنمية المستدامة على المستويين الوطني والدولي بحلول عام 2030، وبخاصة الهدف الثاني المتعلق بالقضاء التام على الجوع وتوفير الأمن الغذائي لسكان الأرض جميعهم.

 

فهذا التقرير المنشور من إحدى منظمات الأمم المتحدة يؤكد على وجود ظاهرة الاستهلاك غير الرشيد للمواد الغذائية في كل دول العالم المتقدم منها والغني، والمتأخر منها والفقير، كما يشير إلى أن هناك إسرافاً مشهوداً في هذا الاستهلاك الذي نراه رأي العين بكل وضوح في حاويات القمامة وفي مواقع دفن المخلفات المنزلية. ويكمن الحل في العلاج الجذري لهذا السلوك الاجتماعي غير المستدام في العمل بشكلٍ جماعي مشترك على مستوى الأفراد، والجمعيات، والشركات الخدمية وغير الخدمية الكبرى، والدول، فهو مسؤولية جماعية لا تسقط عن أي إنسان أو دولة، سواء من ناحية الترشيد في استهلاك الطعام وخفض إنتاج المخلفات، أو من ناحية تحويل مخلفات المواد الغذائية إلى كمبوست وسماد عضوي، أو وقود حيوي، أو أية تقنية ووسيلة تؤدي إلى تدوير وإعادة استخدام هذه المخلفات والاستفادة منها.