الاثنين، 29 مارس 2021

القاتل الصامت مازال يقتل بصمت

عدة حوادث قَتْل وقعتْ في الأيام الماضية ومرَّت على الناس مرور الكرام، منها حوادث ذهب ضحيتها أفراد، ومنها سقوط جماعات مسمومة أو ميتة بسبب التعرض لقاتلٍ صامت يعمل بسرية تامة، فيقتل دون أن يترك أثراً، أو أية بصمة مشهودة، ودون أن يحس الميت نفسه بهذا القاتل، ودون أن يراه عندما يسقط صريعاً يلفظ أنفاسه الأخيرة.

 

فالكارثة التي نزلت على بعض الولايات الأمريكية الجنوبية وأودت بحياة أكثر من 25، وبخاصة في ولاية تكساس من العواصف الثلجية المهلكة، والريح الصرصر الشديدة البرودة العاتية، وانقطاع في الكهرباء، وشح في الماء والغذاء والغاز، صاحبتها في الوقت نفسه كارثة أخرى، ولكن لم تك مشهودة للعيان كالكارثة الأولى التي رأيناها جميعاً ولم تخف على أحد، وهي موت الناس وتسممهم ببطء وبهدوء شديدين من ملوثٍ عديم اللون، وعديم الطعم والرائحة، وهو ملوث تقليدي قديم معروف لدينا منذ مئات السنين، وهذا الملوث نفسه متهم في عشرات الآلاف من حالات التسمم والموت في كل أنحاء العالم بدون استثناء، بما في ذلك مملكتنا الغالية، وهو غاز أول أكسيد الكربون.

 

فالتقرير المنشور في 18 فبراير من "شبكة مركز تكساس للسموم"، أكد عن تسجيل أكثر من 450 حالة تسمم واختناق في ولاية تكساس فقط، مات منهم اثنان حتى تلك اللحظة في مدينة هيوستن النفطية العريقة، وهناك حالات كثيرة أخرى لم تُسجل رسمياً لعدم قدرة المستشفيات على استيعاب المزيد من مثل هذه الحالات.

 

وهذا القاتل الصامت، غاز أول أكسيد الكربون، ينبعث من أية عمليات احتراق غير كاملة لأي وقود أحفوري، أي عندما يكون الاحتراق في جوٍ غير مشبع بالأكسجين، سواء عند احتراق الجازولين في السيارة، أو احتراق الديزل في المولدات الكهربائية، أو احتراق الغاز الطبيعي في محطات توليد الكهرباء والشوايات والسخانات، أو احتراق الفحم في محطات الطاقة وأدوات شي الطعام وأجهزة التدفئة. فمن كل هذه المصادر ينطلق هذا الغاز الصامت ويسبب مشكلات صحية تهدد حياة الإنسان بالموت، وهذه المشكلات تتعاظم وتتفاقم عندما يكون انبعاث الغاز في بيئات مغلقة لا يتجدد هواؤها، فيتراكم الغاز في هذه البيئات الضيقة المغلقة ويرتفع تركيزه، ويستنشقه الإنسان دون أن يشعر بوجوده، أو يحس بتأثيره على جسمه حتى يسقط صريعاً مغشياً عليه فينتقل إلى مثواه الأخير.

 

ويرجع السبب في سمية هذا الغاز الخانق في أنه في الحالات العادية الطبيعية عندما يستنشق الإنسان الهواء النقي غير الملوث، ينتقل الأكسجين إلى الرئتين فيتفاعل مع هيموجلوبين الدم ويكون الأُكسي هيموجلوبين، فينتقل إلى كافة خلايا الجسم ويزودها بالأكسجين اللازم، ولكن عند وجود أول أكسيد الكربون في الهواء الجوي، فإن الهيموجلوبين يتفاعل أكثر مع هذا القاتل الصامت بدلاً من الأكسجين ويكون مُركباً ساماً هو الكربكسي هيموجلوبين الذي يعتبر المؤشر الحيوي على التسمم بالغاز، فيمنع وصول الأكسجين إلى خلايا الجسم، فتختنق وتموت رويداً رويداً حتى يلفظ الإنسان أنفاسه الأخيرة ويلقى نحبه.

 

ففي الحالات السامة والموت في ولاية تكساس كانت لعدة أسباب. الأول هروب بعض الناس من الموت بسبب البرد القارس العقيم وانقطاع التيار الكهربائي من خلال الجلوس في السيارات وهي واقفة في الكراج المغلق، ثم تشغيل المحرك والتدفئة في السيارة، فأول أكسيد الكربون الذي ينبعث عند احتراق الوقود يتراكم في الكراج، ثم في السيارة فينتقل إلى جسم الإنسان ويؤدي مع الوقت إلى إضعاف جسمه رويداً رويداً دون أن يحس بذلك حتى تنهار قواه كلياً فيموت من الاختناق وهو جالس في السيارة. والسبب الثاني فيتمثل في استخدام مولدات الديزل أو غاز البروبين اليدوية للتدفئة بالقرب أو في البيئات المغلقة، أو استخدام الفحم للتدفئة والتسخين وشوي الطعام في المنازل، مما ينجم عنها انطلاق القاتل الصامت في هذه البيئات المغلقة، وإصابة الناس بالتسمم والاختناق.

 

 وفي الوقت الذي تساقط الناس مرضى وموتى من التهديد لحياتهم من هذا القاتل الصامت في تكساس، تعرض 63 صينياً في 18 فبراير في مدينة (Dongyang)شرق الصين وهم يتمتعون بمشاهدة أحد الأفلام في دور للسينما في مجمع تجاري أيضاً لهذا القاتل الصامت، وأُدخلوا جميعاً إلى الطوارئ وهم يعانون من الصداع، والقيء، وآلام في الصدر، والغثيان.

 

ولي شخصياً صولات وجولات مع هذا القاتل الصامت من خلال العديد من الأبحاث التي نشرتُها حول مصادر هذا الغاز الملوث للهواء الجوي في البحرين، إضافة إلى دراسة تركيزه في دم المواطن البحريني من خلال قياس تركيز مركب الكربكسي هيموجلوبين. فأول دراسة كانت حول تركيز هذا المركب في دم المتبرعين بالدعم، حيث أكدتُ بأن الفرد المدخن أكثر عرضة لهذا الغاز القاتل الصامت من غير المدخن، سواء من يدخن السجائر التقليدية أو الشيشة، فعند التدخين ينبعث هذا السم القاتل ويدخل في جسم الإنسان، كذلك أفادت دراستي بأن الذين يعملون في وظائف يتعرضون فيه لعوادم السيارات ترتفع عندهم نسبة أول أكسيد الكربون. وفي دراسة أخرى جاءت نتائج البحث بأن الذين يعملون في المطاعم التي تقدم وجبات مشوية تزيد في دمائهم تركيز الكربكسي هيموجلوبين، حيث إن أول أكسيد الكربون ينطلق عند حرق الفحم المستخدم في شواء الطعام. وعلاوة على هذا، فإن هناك عدة حوادث مميتة وقعت في البحرين، منها وفاة بحرينيين في السيارة أثناء وقوفها في الكراج والمحرك يشتغل وهم بداخلها يستنشقون أول أكسيد الكربون دون علمهم بوجوده، إضافة إلى حوادث موت أخرى بسبب ترك "المنقلة" التي تعمل بالفحم وهي مشتعلة في الخيمة، أو في غرفة مغلقة.

 

ومع الأسف فكل هذه الحوادث المميتة مازالت تقع مراراً وتكراراً منذ عقود طويلة من الزمن في كل دول العالم، وكأن الإنسان لا يريد أن يتعظ بها، أو يتعلم منها، فيُجنب نفسه شر السقوط في التعرض لهذا الملوث القاتل الصامت. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق