الأحد، 30 أغسطس 2020

تقرير نُشر في الوقت غير المناسب!

مع غرق العالم في هذا البحر اللجي المتلاطم الأمواج، وانشغاله كلياً مع وباء فيروس كورونا العقيم الذي أتلف أعضاء جسد الإنسان ودمَّر جسم أكثر من عشرين مليون، وقضى أكثر من 800 ألف حتفهم ونُقلوا إلى مثواهم الأخير، نَشرتْ منظمة الأمم المتحدة للطفولة(اليونيسف) في 31 يوليو من العام الجاري تقريراً مخيفاً وخطيراً تحت عنوان:" الحقيقة السامة". فهذا التقرير الصادم للإنسان بالرغم من أهميته إلا أنه ضاع مع خضم رياح فيروس كورونا الصرصر العاتية التي لم تُبق ولم تذر، ولذلك لم يهتم به أحد، ولم يُلق الكثير من الحكومات والناس له بالاً، فقد نُشر في وقت غير مناسب جداً، وفي ظروف حرجة وقاسية جداً يمر بها المجتمع الدولي عامة.

 

ولذلك كان لا بد لي من إلقاء الضوء على هذا التقرير وإبراز نتائجه للجميع، لما له من أهمية كبيرة وارتباط وثيق ومصيري بصحة الإنسان وسلامة بيئته، وبالتحديد صحة جيلٍ كامل من فلذات أكبادنا من الأطفال والشباب، الذين هم عماد المستقبل، والركن الأعظم لتنمية المجتمعات وازدهارها وتطورها واستدامة عطائها ونموها.

 

فهذا التقرير المنشور من اليونيسيف عبارة عن دراسة علمية ميدانية أجراها معهد أمريكي متخصص في البحوث على المستوى الدولي هو "معهد تقييم القياسات الصحية"( Institute for Health Metrics Evaluation)، حيث تمخضت عن الدراسة نتائج مقلقة جداً، من أهمها أن واحد من كل ثلاثة أطفال وشباب ممن تقل أعمارهم عن 19 عاماً، أي نحو 800 طفل وشاب على مستوى العالم يعانون من وجود مستويات خطرة من الرصاص في الدم، وهذه المستويات تزيد عن 5 ميكروجرامات من الرصاص لكل ديسيلتر من الدم.

 

وفي الحقيقة فإن هذه النتيجة كانت بمثابة صدمة للباحثين، ومفاجأة غير سارة وغير متوقعة، فالرصاص يُعد من الملوثات القديمة جداً، قِدم الإنسان، فهو يلازمه ويصاحبه دائماً وموجود معه منذ آلاف السنين، وهناك الكثير من الدراسات التي بيَّنت تسمم بعض شعوب الإمبراطوريات القديمة قبل آلاف السنين بالرصاص من خلال استخدام الأواني والمعدات الأخرى المصنوعة من الرصاص، وبخاصة الإمبراطورية الرومانية واليونانية، ولذلك فمن المفروض أن للإنسان تجارب مريرة مع هذا الملوث الخطير، وتراكمت عنده خبرات واسعة في كيفية التعامل معه، والتخلص منه، وتجنب استعماله كلياً.

 

ولكن الواقع، وهذه الدراسة الحالية تؤكدان بأن شر هذا الملوث السام العنيد لم ينته بعد، فقد فشل الإنسان فشلاً ذريعاً بالرغم من تقدمه وتطوره وغزارة علمه وطول خبرته في التخلص منه كلياً وبشكلٍ جذري مستدام.

 

والدليل على فشل الإنسان في استئصال الرصاص من المجتمع البشري ومن بيئته إلى الأبد هو ثباته واستقراره في أغنى دولة في العالم، وأكثرها تقدماً وتطوراً وهي الولايات المتحدة الأمريكية. فبالرغم من العديد من القوانين التي سنَّتها أمريكا للتخلص من الرصاص في السبعينيات من القرن المنصرم، مثل إزالة مركبات الرصاص من وقود السيارات، ومنع استخدام الرصاص في دهان المنازل، إلا أن الأزمة مازالت حاضرة ومتفاقمة حتى يومنا هذا.

 

فعلى سبيل المثال، نَشرت صحيفة اللوس أنجلوس تايمس في 30 ديسمبر 2019 تحقيقاً حول التسمم بالرصاص أثناء تعرض الأطفال للدهان المنزلي القديم، حيث أشار التحقيق إلى أن كل طفلٍ من بين مائة في مدينة صناعة الأفلام يتعرض للتسمم بالرصاص من خلال ارتفاع تركيز الرصاص في دمائهم، أو ما يقارب 2000 حالة سنوياً. كما أفادت دراسة منشورة في 16 يناير من العام الجاري في مجلة علوم وتقنية المياه حول مستويات الرصاص في دم النساء خلال 1976 إلى 2016، بأن الرصاص مازال موجوداً في الكثير من النساء، وتكمن خطورته في أن الرصاص ينتقل من الأم الحامل فيغزو المشيمة بالانتشار السلبي ويصل إلى الجنين، ثم إلى حليب الأم، مما له تداعيات تهدد نمو الجنين من جهة وتعرض المرأة لمضاعفات الحمل، أو الولادة المبكرة، أو الإجهاض، أو التشوه الخَلْقي والخُلقي. وعلاوة على ذلك، فقد أكدت دراسة في مجلة علوم وتقنية البيئة في الثامن من يوليو من العام الجاري حول "سيناريوهات خفض نسبة الرصاص في مياه الشرب" على تعرض الأطفال للرصاص من خلال الشبكات القديمة لنقل وتوزيع المياه، سواء في خارج المنازل، أو في داخل المنازل، والتي مازالت بعضها مصنوعة من مركبات الرصاص، وهناك حادثتان للتسمم الجماعي للرصاص تؤكدان هذه الحقيقة، فالأولى وقعت في العاصمة الأمريكية والثانية في مدينة فلينت في ولاية ميشيجن.

 

كذلك فإن الرصاص لم يلوث الإنسان فحسب وإنما انتقل إلى الحياة الفطرية، وبالتحديد رمز أمريكا، أو النسر الأصلع الذي تحول إلى طائر مهدد بالانقراض لأسباب كثيرة، منها التسمم بالرصاص. فقد نشرت المحطة الإخبارية "سي إن إن" تحقيقاً في 17 فبراير من العام الحالي، ونقلت عن قيام مركز مختص في ولاية نورث كالوراينا بعلاج سبعة نسور خلال شهر واحد فقط نتيجة لتسممها بالرصاص عندما أكلت حيوانات ميتة تم رميها من قبل هواة الصيد بذخائر مصنوعة من الرصاص.

 

ولذلك من الواضح أن ظاهرة التسمم بالرصاص مازالت قائمة وبقوة في معظم دول العالم، سواء أكانت فقيرة أم غنية، أو كانت متقدمة أم متأخرة، أو كانت متطورة أم نامية. وفي الحقيقة هناك الكثير من مصادر الرصاص التي مازالت موجودة في مجتمعاتنا، منها الرصاص في أنابيب المياه، وفي مستلزمات التبرج والزينة كبعض أنواع الكحل وأحمر الشفاه، وفي ألعاب الأطفال، وفي بطاريات السيارات، وفي المواد الغذائية المعبأة في العلب، وفي مضافات بعض الأطعمة كالبهارات، وبالتحديد الكركم.  

 

وقد أجمعت الدراسات التي أُجريت خلال عقود طويلة بأن الرصاص يعتبر من ملوثات الدمار الشامل للجسم البشري برمته، فهو يؤثر على الصحة العقلية والنفسية فيُغير من سلوك الأطفال والشباب ويجعلهم يميلون نحو ارتكاب الأعمال العنيفة والعدائية، ويخفض من قدراتهم العقلية والذهنية، كما يتراكم في العظام فيسبب أزمات صحية مزمنة كثيرة منها تلف الكلية وخلايا المخ وأمراض القلب، فكل هذه الأضرار الصحية الشاملة تجعل من تقرير اليونسف ذي أهمية بالغة لا يمكن تجاهله.  

 

الخميس، 27 أغسطس 2020

التفجير النووي الأول في الولايات المتحدة الأمريكية

ربما لا يعرف الكثير من الناس بأن الانفجار النووي الأول في الولايات المتحدة الأمريكية كان في الولاية الفقيرة والمستضعفة والمهمشة التي يسكنها الأقلية من أصل إسباني ولاتيني، وهي بالتحديد مدينة ألامُوجُوردو(Alamogordo) بولاية نيو مكسيكو في 16 يوليو 1945، أي قبل نحو 75 عاماً، والغريب في الأمر بأن هذا الانفجار الذري الأول المدمر كان من صُنع أيادي أمريكية، ووقع في الأرض الأمريكية، وعلى الشعب الأمريكي نفسه!

 

فهذه التجربة النووية العقيمة التي أُطلق عليها إسم ترنيتي(Trinity) وأُجريتْ على التراب الأمريكي كانت في غاية السرية ولم يعلم عنها الكثير من العلماء والجنود الذي سخَّروا حياتهم لإنتاجها وإنجاحها والذين كانوا يعملون في مختبر "لاس أَلامُوس القومي"، بل والأدهى من ذلك والأمر أن سكان تلك المنطقة القريب منهم والبعيد من موقع الانفجار لم يتم تحذيرهم كلياً عن القيام بهذا الحدث التاريخي، كما لم يتم إصدار أية أوامر أو توجيهات لإخلاء الناس من مساكنهم وكأن هذه المنطقة التي فُجرت فيها هذه القنبلة الذرية المهلكة للحرث والنسل خالية من السكان ولا يوجد بها أحد، سواء من البشر، أو من الأحياء الفطرية النباتية والحيوانية، فالحياة قبيل وبعد التفجير سارت طبيعية كالمعتاد وككل يوم من الأيام السابقة، وكأن شيئاً جللاً لم يقع في تلك المنطقة المنكوبة.

 

والوثائق التاريخية والدراسات التي أُجريت حول هذه الكارثة النووية تصف لنا المأساة البيئية والصحية التي صاحبت هذه الكارثة والمشاهد الحية غير المسبوقة في تاريخ البشر والتي ذكرها شهود العيان الذين عاصروا تلك اللحظة الحاسمة والفاصلة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في التسلح النووي. فقد جاء في المقال المنشور في "نشرة علماء الذرة"(Bulletin of the Atomic Scientists) في 15 يوليو 2020 بمناسبة ذكرى مرور 75 عاماً تحت عنوان: "مشروع ترنيتي: الخطر الأكبر من مشروع منهاتن"، بأن الانفجار وقع فوق سطح الأرض، وتسبب هذا الانفجار النووي الهائل في تكوين حفرةٍ عميقة وخندق رهيب في الأرض وذوبان التربة السطحية من شدة وارتفاع درجة الحرارة، كما أدى إلى  تكوين سحبٍ رمادية رملية مكونة من الرماد التي بلغت عنان السماء وارتفعت أكثر من تسعة كيلومترات فوق سطح الأرض وشاهدها الناس من مسافات بعيدة جداً. وهذه الأتربة المشعة القاتلة التي ارتفعت إلى السماء نزلت على الناس وعلى مساكنهم ومواشيهم وحيواناتهم مرضاً وأسقاماً حادة ومزمنة عانى منها سكان أمريكا في تلك الفترة وفي منطقة واسعة وممتدة بلغت مساحتها أكثر من 3500 كيلومتر مربع، وآثارها الضارة مازالت باقية وتوارثتها الأجيال، جيلاً بعد جيل.

 

وقد نشرت صحيفة النيويورك تايمس في 17 يوليو من العام الجاري تفصيلاً لبعض الحالات الصحية التي تعرض لها الشعب الأمريكي، وبالتحديد بالنسبة لأعداد الموتى من الأطفال بعد أشهر من التفجير مباشرة، حيث كان الأطفال هم الضحية الأولى التي سقطت بسبب التفجير النووي. فقد زادت حالات موت الأطفال بنسبة 52% في الفترة من شهر أغسطس إلى أكتوبر من عام 1945. كذلك أكد على هذه الحالة السقيمة التقرير الذي صدر عن مراكز منع والتحكم في المرض تحت عنوان: "تقييم الوثائق التاريخية المتعلقة بمختبر لوس ألامُوس"، وقد هدف التقرير إلى معرفة وتقييم الآثار الصحية الناجمة عن جميع برامج وأنشطة وعمليات المختبر النووي في الفترة من 1943 إلى 2010، بما في ذلك التفجير النووي الأول، حيث أكد التقرير على أن نسبة الموتى من بين الأطفال في عام 1945 وصلت إلى 100.8 لكل ألف مولود حي، بينما في عام 1944 كانت 89.1، وفي عام 1946 كانت 78.2، علماً بأن النسبة الأعلى لموت الأطفال كانت في سبتمبر 1945، حيث بلغت 187.8.

 

ففي تلك المرحلة التاريخية الحرجة والمفصلية أثناء الحرب العالمية الثانية، كان السباق محتدماً بين ألمانيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية والدول المتحالفة معها من جهة أخرى في تطوير وإنتاج أول سلاح نووي من أجل تحقيق الانتصار الحاسم في الحرب، ولذلك بدأت أمريكا في مشروع منهاتن الشهير لإنتاج قنبلة الدمار الشامل في أسرع وقت ممكن في موقعين، الأول في مدينة هانفورد في ولاية واشنطن، والثاني في مختبر لوس ألاموس القومي في ولاية نيو مكسيكو الصحراوية. ومع هذا السباق الماراثوني المصيري لم يفكر رجال العلم والسياسية إلا في سرعة إنتاج القنبلة، دون أي اعتبار أو اهتمام أو حماية لأمن الشعب الأمريكي أو سلامة البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية. فعندما أُجريت التجربة النووية الأولى لم تكن هناك استعدادات كافية لحماية الجنود العاملين في المنطقة من ناحية الملابس الواقية من الإشعاع أو الأجهزة التي تقيس مستوى الإشعاع في المنطقة، ناهيك عن وقاية الشعب الأمريكي في ولاية نيو مكسيكو الذي تعرض للإشعاع المميت رغماً عن أنفه وبدون علمه أو الشعور به.

 

وبالرغم من انتصار الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب، إلا أنها لم تتوقف عن إجراء تجارب لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، فقد بدأت الحرب الباردة بين معسكر الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومعسكر الشرق بقيادة الاتحاد السوفيتي، حيث قامت هذه الدول النووية بالاستمرار في إجراء هذه التجارب الإشعاعية، فقامت أمريكا وحدها بأكثر من كل دول العالم مجتمعة بتفجيرات نووية بلغت نحو 1030 معظمها في جزر المارشال في المحيط الهادئ، منها ما أُجري فوق الأرض ومنها تحت الأرض. كذلك مع انتهاء الحرب الباردة لم تنته معها التجارب النووية، فقد أعلنت أمريكا في 23 مايو على لسان مستشار ترمب والمختص بالمفاوضات النووية:"نحن نحتفظ بقدرتنا على إجراء تجارب نووية إذا دعت الحاجة إلى ذلك ومهما كان السبب"، كما أن الرئيس ترمب زاد ميزانية إدارة الأمن القومي النووي بأكثر من 50%، إضافة إلى تخصيص مبلغ وقدره 1.7 تريليون دولار لبرنامج تطوير أسلحة نووية جديدة، حسب ما صدر في مجلة العلوم الأمريكية في 17 يوليو من العام الجاري في مقال عنوانه:"التمسك بتعليق إجراء التجارب النووية".

 

فالإصرار على إجراء التجارب النووية ومواصلة إنتاج أسلحة الدمار الشامل يؤكد بأن الدول العظمى والمتقدمة خاصة لا يهمها لا الحجر ولا حتى البشر، فهي تسعى إلى تحقيق التفوق العسكري والسيادة الأمنية من خلال تطوير وتكديس الأسلحة التقليدية والنووية غير التقليدية لإرهاب باقي دول العالم والهيمنة عليها والسيطرة على مواردها وخيراتها بقوة السلاح والعضلات، ضاربين بعرض الحائط كافة المواثيق والمعاهدات الدولية ذات العلاقة وعدم تحمل المسؤولية الأخلاقية المطلوبة منها، ولذلك فالنتيجة النهائية لهذه الحالة الدولية العوجاء هي أن الدول المتقدمة تزداد تقدماً وقوة وسيادة والدول الفقيرة تزداد تأخراً وضعفاً ومذلة.