الخميس، 24 مايو 2018

سياحة من نوعٍ جديد


في عام 1992 عندما زرتُ اليابان كُنت حريصاً جداً وأتوق شوقاً ورغبة إلى زيارة موقعٍ تاريخي عظيم سمعتُ عنه الكثير في وسائل الإعلام، وقرأتُ حوله المئات من الدراسات والأبحاث العلمية التي بيَّنت مكانة هذا الموقع الأثري في قلوب ونفوس اليابانيين خاصة، والبصمات العميقة التي تركها في أرشيف المجتمع الدولي عامة.

هذا الموقع الأثري البيئي كان في منطقة بحيرة ميناماتا المشهورة التي نزلت عليها كارثة بيئية صحية في الخمسينيات من القرن المنصرم، ومازالت آثارها وتداعياتها بارزة وماثلة أمام الشعب الياباني، فقد أصبحت هذا الطامة الكبرى مخلدة في ذاكرة وكتب التاريخ الياباني المعاصر كالحروب العالمية التي دخلت فيها اليابان، فانعكاساتها لم تعد بيئية وصحية فحسب وإنما تحولت إلى حدثٍ سياسي سنوي يُحتفل به كل سنة منذ أكثر من خمسين عاماً، وشيِّد من أجلها نُصب تذكاري خاص بضحايا هذه الكارثة العصيبة.

فقد تمثلت هذه المصيبة العصيبة في صرف أحد المصانع لمخلفات الزئبق في البحيرة، ومع الزمن بدأ الزئبق السام في التراكم في مكونات البحيرة بدءاً من الكائنات النباتية العالقة، ثم الكائنات الحيوانية الصغيرة، ومنها انتقل هذا العنصر الخبيث الخطر إلى الأسماك بحيث بلغ عندئذ مستويات مرتفعة حرجة، ووصلت أخيراً إلى الإنسان الذي أكل هذه الأسماك السامة، فتعرض جسمه لمرض غريب قاتل لم يعرفه الطب من قبل، وزاد مع الزمن أعداد هؤلاء المرضى عندما انتقل السُم من الآباء إلى الأبناء والأحفاد، أي من جيلٍ إلى آخر، حتى إنك ونحن في عام 2018 تجد بعض اليابانيين الذي يحملون هذا السم في أعضاء أجسامهم بعد مرور أكثر من ستين عاماً.

فقد أصبح الآن زيارة مواقع الكروب العظيمة والحوادث البيئية المؤلمة نوعاً مهماً ومستجداً من أنواع السياحة التي تجذب الناس عامة، والمهتمين والمختصين بالشأن البيئي والصحي عامة. فهناك اليوم موقع احتراق المفاعلات النووية في مدينة تشرنوبيل في أوكرانيا التي عانت، بل وكل دول العالم عانت من أكبر وأوسع تسربٍ نووي للمواد المشعة في العالم في 26 أبريل من عام 1986، فآثارها وانعكاساتها مازالت باقية حتى يومنا هذا، وستظل باقية آلاف السنين. فهذا الموقع الأثري البيئي تحول الآن إلى مزارٍ سياحي يقصده عشرات الآلاف من البشر، حيث أكدت التقارير المنشورة في مايو من العام الجاري بأن عدد زوار منطقة كارثة تشرنوبيل بلغ نحو 50 ألف زائر في عام 2017، وبارتفاع مشهود بلغ 35% عن عام 2016، وهذه الأعداد المتزايدة من السياح أنعشت الاقتصاد المحلي وخلقت العديد من الوظائف وفرص العمل الجديدة لسكان المدينة، إضافة إلى شركات الطيران التي فتحت خطوطاً جديدة خاصة لزيارة هذا الموقع.

فكما أن الإنسان يزور الحدائق والمنتزهات والبحار والأسواق للترفيه عن النفس وقضاء وقت ممتع، أو أنه يزور الآثار التاريخية الثقافية للتعلم والاستفادة من الحضارات القديمة الغابرة، فإن السائح يمكنه زيارة الآثار والمواقع التي نزلت عليها كوارث تلوثٍ بيئي، فيتعظ منها، ويعتبر من الوقوف قريباً أمامها.
 

ماذا ننتظر؟


مرجعية دول العالم الرسمية حول القضايا الصحية، أو أية قضية أخرى لها مردودات وانعكاسات على الصحة العامة والصحة المهنية هي منظمة الصحة العالمية التي تُعد الجناح الصحي للأمم المتحدة، فهي المخولة رسمياً على المستوى الدولي في الإفتاء في الهموم والشؤون الصحية على مستوى العالم، وتقديم النصح والإرشاد حول إدارة المشكلات الصحية، ووضع القوانين والأنظمة الدولية الخاصة بها.

ولذلك فالتقارير التي تصدر من منظمة الصحة العالمية ووكالاتها التابعة لها يجب أن تؤخذ على محمل الجد، فتعمل جميع الدول على الاطلاع عليها بدقة وتمعن، والاستفادة منها، وتنفيذ ما يتمخض عنها من استنتاجات وتوصيات. 

وتقرير منظمة الصحة العالمية المنشور في الثاني من مايو من العام الجاري حول التأثيرات القاتلة لتلوث الهواء يُقدم أدلة دامغة وبراهين علمية حاسمة على أن تلوث الهواء يقضي رويداً رويداً على البشرية ويدخلها في القبر في سنٍ مبكرة، وقد لخص المدير العام للمنظمة استنتاجات وتوصيات هذا التقرير الأممي الواضح الذي لا لبس فيه عندما قال بأن "تلوث الهواء يُهددنا جميعاً، ولكن الفقراء والمهمشين هم الذين يقع عليهم العبء الأكبر من تداعيات هذا التلوث، وهم الذين يتحملون تباعاتها الصحية، وإذا لم نتخذ إجراءات عاجلة لمواجهة تلوث الهواء فلن نتمكن من تحقيق التنمية المستدامة"، فحسب هذا التقرير نحو 95% من سكان الأرض، أو تسعة من بين عشرة من سكان الأرض يستنشقون هواءً مسموماً لا يُعينهم على الحياة والعيش الصحي السليم والمستدام، وهذا الهواء الملوث السام يقضي على أكثر من سبعة ملايين من سكان الأرض سنوياً وهم في سنٍ مبكرة قبل أن يصبحوا شيوخاً.

وهذا التقرير الأخير يقع ضمن سلسلة التقارير التي تصدرها المنظمة بشكلٍ دوري حول المسؤولية المتزايدة والمتفاقمة لتلوث الهواء في إصابة الإنسانية بأمراض مزمنة غير معدية وغير سارية كأمراض القلب، والجهاز التنفسي، وسرطان الرئة، حيث شمل التقرير الحالي قياسات ميدانية لجودة الهواء في 4300 مدينة يمثلون 108 دول، وبالتحديد ركزت هذه القياسات على الدخان، أو ما نُطلق عليه علمياً بالجسيمات الدقيقة بأحجامها المختلفة. ويُعزي السبب في هذا الاهتمام بالجسيمات الدقيقة لأنها الأخطر والأشد تهديداً وفتكاً بالصحة العامة، فهي المتهمة في إيقاع الإنسان في أمراض القلب وسرطان الرئة وأمراض الجهاز التنفسي الأخرى، فهذه الجسيمات تكون متناهية في الصغير، وقد لا ترى بالعين المجردة، وتستطيع الزحف مع الوقت إلى أعماق الرئة فتستقر وتتراكم في الحويصلات الهوائية، أو تنتقل إلى الأوعية الدموية القلبية ثم إلى خلايا المخ، فتعرضها للسكتات القلبية والدماغية والموت المبكر. وعلاوة على صغر حجمها، فإن خطورتها تكمن أيضاً في أنها تحمل في بطنها الملوثات السامة والمسرطنة التي تمتصها من الهواء الجوي، فيكون تأثيرها على المدى البعيد تراكمياً ومعقداً ومُركباً وشديد الضرر بصحة الإنسان.

وإضافة على تلوث الهواء في البيئات الخارجية من وسائل النقل المتعددة، ومن محطات توليد الكهرباء والمصانع، فإن هناك تلوث الهواء في البيئات الداخلية الذي يودي بحياة قرابة 3.8 مليون إنسان، معظمهم من النساء والأطفال، فهناك الكثير من الدول الفقيرة التي لم يُنعم عليهم رب العالمين، كما أنعم علينا، بمصادر الوقود النظيف ومنخفض التلوث نسبياً للاستخدام المنزلي في طهي الطعام وفي التدفئة، فهم يستخدمون أكثر أنواع الوقود تلوثاً وتدميراً لجودة الهواء في المنزل وأشدها ضرراً وتنكيلاً بصحة الإنسان، مثل بقايا مخلفات الحيوانات الصلبة، أو الفحم، أو الأخشاب، أو الكيروسين.

ولذلك بالنسبة لنا في البحرين علينا أن نرُكز بشكلٍ كبير ومباشر وفوري على مصادر تلوث الهواء في البيئات الخارجية، وبخاصة الملوثات التي تنبعث من السيارات أولاً، ثم من محطات توليد الكهرباء ثانياً، وأخيراً من ناحية الأولوية في التعامل والاهتمام من المصانع.

فلا بد من إعطاء الأولوية في برامجنا التنفيذية المتعلقة بحماية الهواء الجوي من الملوثات إلى عوادم السيارات، حيث إن أعداد السيارات قد تصبح في القريب العاجل أكثر من عدد السكان، ففي عام 2015 بلغ عدد السيارات المسجلة 545 ألفاً، ثم ارتفع ليصل إلى 653 ألفاً عام 2016، وأخيراً في عام 2017 بلغ 686150 سيارة، وكل هذا العدد الضخم من السيارات تعمل كمصنع متحرك يلقي إلى الهواء الجوي آلاف السموم الخطرة والمسرطنة التي يتعرض لها الإنسان مباشرة، مثل البنزين، والبنز وبيرين، والفورمالدهيد، والدخان الدقيق، وغيرها من الملوثات الأخرى. وهذه الملوثات تُكَون مع الوقت سُحباً قاتلة بُنية صفراء اللون تظهر في الأفق، ويُطلق عليها بالضباب الضوئي الكيميائي، وهذا الضباب عندما ينكشف في الكثير من مدن العالم تدق أجراس الإنذار وترتفع أصوات الأجهزة الإعلامية محذرة الناس من تجنب الخروج إلى البيئات الخارجية.

ولذلك أتساءل ما هي الخطط والبرامج التنفيذية التي وضعتها الجهات المعنية لمواجهة هذا التحدي العصيب القاتل الذي نبهتْ إليه منظمة الصحة العالمية؟  

السبت، 19 مايو 2018

"بَودرة" تَلْكْ للأطفال والإصابة بالسرطان


كثر الحديث في العقدين الماضيين عن منتجٍ مشهور استخدمه الجميع في كل أنحاء العالم من المهد إلى اللحد ومنذ أكثر من مائة عام، فلا أظن بأن هناك إنساناً يعيش على وجه الأرض، صغيراً كان أم كبيراً، شاباً أم شيخاً هرماً إلا وقد استعمل هذا المنتج السحري المثير مرة أو أكثر طوال سنوات حياته، ولا أظن بأن هناك بيتاً في أصغر القرى على وجه الأرض إلا ودخله هذا المنتج.

 

هذا المنتج العريق يقف منذ سنوات في قفص الاتهام ليدافع عن نفسه، ويدافع عن سلامة استعماله للإنسان، فقد ارتفعت أصوات المشككين الذين يتهمون هذا المنتج بأنه مضر لصحة الإنسان، وأن استعماله لسنوات طويلة يوقع الإنسان في السقوط في شباك مرض السرطان، وبالتحديد سرطان المبايض.

 

هذا المنتج المعروف والواسع الإنتشار هو مسحوق أو "بَوْدرة" تَلْكْ البيضاء للأطفال الذي تصنعه عدة شركات في مقدمتها شركة جونسون وجونسون منذ زهاء قرنٍ من الزمان. فما هو حقيقة هذه الاتهامات الموجهة لهذا المسحوق؟ وما هو الرأي العلمي المتعلق بتأثير هذا المنتج على الإنسان؟

 

فقد بدأت الشكوك تثور حول هذا المنتج منذ السبعينيات من القرن المنصرم عندما فتح فريق من العلماء الملف حول الأخطار التي قد يسببها هذا المسحوق للنساء بشكلٍ خاص، حيث قاموا بدراسة العلاقة بين سرطان المبايض واستعمال بودرة تلك البيضاء واكتشفوا جسيمات مجهرية صغيرة جداً منها في خلايا الأورام السرطانية الموجودة في المبايض، ثم في عام 1982 أجرى باحثون من جامعة هارفرد العريقة دراسة شملت 400 امرأة للدخول بشكلٍ أدق وأعمق حول هذه القضية المستجدة، وخلصوا إلى أن استخدام مسحوق تلك في الأعضاء التناسلية للمرأة بدرجةٍ مفرطة يزيد من احتمال التعرض لسرطان المبايض، ثم تبعتها دراسات وأبحاث لسبر غور هذه العلاقة وتقديم أدلة علمية دامغة ومؤكدة لحسم وجود هذه العلاقة. ولكن هذه الدراسات لم تُجمع على نتيجة واحدة، فمنها ما أفادت إلى مخاطر الإصابة بالسرطان عند استعمال هذا المسحوق، ومنها الأبحاث التي لم تجد أية علاقة سببية بين سرطان المبايض ومسحوق تلك.  

 

وبالرغم من عدم وضوح الرؤية بشكلٍ قاطع بالنسبة للأدلة العلمية، إلا أن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان، وهي الجناح العلمي المتعلق بأمراض السرطان لمنظمة الصحة العالمية، أعلنت وصنَّفت في عام 2006 بأن مسحوق تلك للأطفال"من المحتمل أن يكون مسرطناً للإنسان" كخطوة احترازية واستباقية.

 

واليوم انتقلت المعركة من الوسط العلمي والبحثي ومن بين العلماء إلى الوسط القضائي بين رجال القانون والمحاماة ورفع الدعاوى ضد الشركات المصنعة لهذا المسحوق وعلى رأسها شركة جونسون و جونسون، حيث توجد اليوم في أروقة المحاكم في الولايات الأمريكية فقط أكثر من 4800 دعوى مرفوعة من نساء يعانين من سرطان المبايض، ويوجهن أصابع الاتهام نحو بوردة تلك.

 

وفي المحاكم أيضاً، كما هو الحال بالنسبة للدراسات والأبحاث العلمية، فلا يوجد هناك حسم في القرار في هذه القضايا، فمنها قضايا تم الحكم فيها لصالح المرضى الذي يعانون من سرطان المبايض ويدَّعون أن السبب هو هذا المسحوق، ومنها قضايا لم يجد فيها المحلفون الدليل العلمي والطبي الدامغ الذي يؤكد ويثبت وجود العلاقة بين المسحوق والإصابة بالسرطان. ولذلك فالمعارك حول هذه القضية مازالت مشتعلة في المحاكم، وستبقى مشتعلة لا تنطفئ لعشرات السنوات القادمة.

 

والآن بعد أن تأكدنا عدم وجود إجماعٍ طبي وقضائي حول العلاقة بين المسحوق والتعرض للسرطان، فماذا نحن فاعلون؟ وهل نستخدم هذا المسحوق الذي مازال يباع في الأسواق أم لا؟

 

ففي تقديري ومن خلال خبرتي المتواضعة في مثل هذه القضايا البيئية الصحية الخلافية، فإنني أُنبه وأحذر مما يلي:

أولاً: لا يمكن كلياً الوثوق بإدعاءات الشركات العملاقة، فهي شركات هدفها الربح السريع وجني المال الوفير بكافة الطرق والوسائل الشرعية وغير الشرعية، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، ولو كان هذا الربح على حساب صحة الإنسان أو صحة البيئة، وقد كتبتُ عدة مقالات أثبتُ فيها أن تحقيق هذا الهدف بكل الوسائل من "ثقافة" وسياسة هذه الشركات، وقدمتُ أمثلة كثيرة لأثبت هذه الحقيقة، منها شركات التبغ والسجائر ومنها مؤخراً شركة فوكس واجن للسيارات التي اعترفت بعملية الغش المتعمد عند صناعة أجهزة التحكم في الملوثات التي تنبعث من السيارات.

ثانياً: هذه الشركات الكبيرة، ولو كانت تعرف الحقيقة، فهي لا تعترف إذا كان هذا الاعتراف سيسبب لها أية خسائر مادية. فعلى سبيل المثال، استغرق اعتراف شركات التبغ بأن السجائر "قاتلة" أكثر من خمسين عاماً من القضايا التي رُفعت ضدها حول علاقة التدخين بالسرطان، وبخاصة سرطان الرئة. ولذلك لا أتوقع من شركة جونسون و جونسون وغيرها أن تستسلم بسهولة في الجولة الأولى في المحاكم، فهي ستبقى تقاتل حتى الجولة 15 لعلها تخرج منها رابحة، أو في الأقل تقلل من الضرر والخسائر المالية التي ستتكبدها، وبخاصة عند فقدان الإجماع العلمي.  

ثالثاً: مسحوق تلك الأبيض عبارة عن معدن طبيعي يستخرج من باطن كباقي المعادن، وهو معدن ناعم جداً ويتميز بقدرته الخارقة على امتصاص الروائح والعرق ويستخدم في منتجات كثيرة تتراوح بين العلكة ومواد البناء والبلاستيك، وقد استبدلت بعض الشركات مسحوق تلك بمادة نشا الذرة. فهنا أريد أن أؤكد على نقطة مهمة جداً لتجنب الآثار السلبية والضارة لمسحوق تلك، وهي أهمية الاستخدام الرشيد والمعتدل من جهة وتجنب استخدامه في الأعضاء التناسلية من جهة أخرى، كما إنه من المهم تجنب استنشاق هذه المادة الناعمة لمنع دخولها في الرئة.  

 

والسنوات القادمة حتماً ستكشف لنا المزيد حول مسحوق تلك العظيم.

 

الأربعاء، 9 مايو 2018

هل نعاني من شُح الغذاء أم سُوء الإدارة؟


مع اقتراب شهر رمضان المبارك في كل عام نشهد ظاهرة رمضانية غريبة على آداب الإسلام وتوجيهاته المستدامة، وبعيدة عن التعاليم الراسخة التي جاءت في صلب الآيات القرآنية، ولا تنسجم مع هدي النبي عليه الصلات والسلام وممارساته الحياتية اليومية، كما أن هذه الظاهرة تتنافي مع سلوكنا الفطري وعادات الآباء والأجداد التي عاشوا عليها، وتتمثل هذه الظاهرة في الارتفاع المشهود في كمية المخلفات الغذائية، أو بقايا الأطعمة الزائدة عن حاجة البطن والجسم التي ينتجها الفرد في أيام رمضان الفضيلة، والتي تَلقى مصيرها في نهاية المطاف في مواقع دفن المخلفات، إلى درجة إنني منذ سنوات كتبت مقالاً تحت عنوان:"رمضان شهر المخلفات"!

 

وبالرغم من وجود ظاهرة تفاقم أزمة الإفراط في إنتاج مخلفات الطعام في بلادنا، إلا أنني عندما أطلعُ على الدراسات العلمية الميدانية حول ارتفاع إنتاج الفرد في مختلف دول العالم للمخلفات المنزلية عامة ومخلفات فضلات الأغذية خاصة، أجده ظاهرة عامة في الكثير من الدول، وبخاصة الدول الصناعية المتطورة والمتقدمة، بحيث إن إنتاج الفرد أو المجتمع برمته لمخلفات الأطعمة لا يختلف عن إنتاجنا للمخلفات في رمضان، أو في الأشهر الأخرى غير رمضان.

 

ومما يؤكد عالمية هذه الظاهرة الاستهلاكية المسرفة وعدم التوزيع العادل للموارد الغذائية بين الشعوب في الدولة الواحدة وبين دول العالم ويُثبت السلوك غير المستدام للكثير من شعوب العالم، هذه الدراسة الأمريكية المنشورة في مجلة "بلوس ون"(plos one) في 18 أبريل من العام الجاري تحت عنوان:"العلاقة بين مخلفات الطعام ونوعية الغذاء والاستدامة البيئية". فقد أكدت هذه الدراسة الفريدة من نوعها على أن الشعب الأمريكي يُلقي في القمامة وفي حاوية المخلفات أكثر من  15 ألف طن من مخلفات الطعام، أو بقايا الأكل يومياً أو نحو ستة ملايين طن سنوياً، أي أن المواطن الأمريكي يتخلص يومياً من نحو نصف كيلوجرام من أطيب أنواع المأكولات التي تزيد عن حاجته، كما أفادت هذه الدراسة إلى هدرٍ شديد في كمية الطعام التي تنتج في الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث إن 25% سنوياً من المواد الغذائية المتوافرة للاستهلاك لا تذهب إلى بطون الناس ولكن يكون مصيرها في القمامة، وهذه الكميات تكفي لسد جوع الملايين من البشر داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها الذين ينبشون ليلاً ونهاراً في حاويات القمامة  من أجل لقيمات يُقِمْن صُلبهم.

 

وعلاوة على هذا التبذير في سلوكيات التعامل مع بقايا المواد الغذائية والمردودات الاجتماعية والاقتصادية التي تنجم عنها، فهناك جانب آخر خفي لا يعلمه الإنسان البسيط، أو أنه لا يفكر فيه ولا يخطر على قلبه، وهو أن هذه الفضلات الغذائية التي يتخلص منها في حاويات القمامة ولا يلقي لها بالاً، قد كلَّفتْ البشرية الكثير من عدة نواحي حيوية لإنتاجها وإيصالها إلى المستهلك. أما الناحية الأولى فهي استنزاف الثروة المائية الطبيعية الشحيحة التي اسُتعملت في ري هذه المحاصيل الزراعية من خضروات وفواكه وغيرهما، والتي وبكل بساطة ألقاها الفرد في القمامة دون أن يحس بها أو أن يستفيد منها، والجانب الثاني فهو الأسمدة والمبيدات الخطرة والسامة التي تم استعمالها في الأراضي الزراعية لإنتاج هذه المواد الغذائية التي تم هدرها والتخلص منها. أما الناحية الثالثة فهي الهدر المفرط في استخدام الوقود ومصادر الطاقة لإنتاج الطعام للإنسان، إضافة إلى الملوثات القاتلة التي تنجم عن استخدام هذه المصادر للطاقة. أي أن الفرد عند قيامه بهذا السلوك البسيط في ظاهره والعميق والخطير في مضمونه ومدلولاته وهو رمي بقايا الطعام في حاوية القمامة قد استنزف الموارد المائية العذبة، ولوَّث المياه الجوفية والسطحية باستخدام الأسمدة والمبيدات، وتسبب في ارتفاع استهلاك الوقود وإطلاق السموم للهواء الجوي!

 

فظاهرة هدر الطعام وسوء إدارة وتوزيع هذه الثروة العظيمة تجعل تنميتنا على المدى البعيد غير مستدامة ومجتمعاتنا غير عادلة وغير صُحية. فهناك نشاهد أمامنا موت شعوبٍ برمتها من الفقر الغذائي المدقع ومن شدة الجوع ونقصٍ حادٍ في الطعام نوعاً وكماً، وفي الوقت نفسه نرى موت شعوبٍ أخرى ولكن في هذا الحالة من شدة السُمنة وارتفاع نسبة البدانة المفرطة والتُّخْمة المزمنة.

 

ولذلك إذا أردنا فعلاً أن نحقق هدف التنمية المستدامة في بلادنا، اجتماعياً واقتصادياً وبيئياً، فعلينا الاهتمام بهذا الجانب الأخلاقي والإنساني التنموي والمتمثل في الإدارة البيئية المستدامة لبقايا الموارد الغذائية، سواء من ناحية منع أو خفض التخلص من هذه المواد الغذائية في حاويات القمامة، أو من ناحية الاستفادة منها لمن هو في أمَّس الحاجة إليها. كما إنه من الضروري لمعرفة مدى نجاحنا في إدارة بقايا الطعام وفاعلية الإجراءات التي سنتخذها في الحد من هذه الظاهرة الاستهلاكية غير الرشيدة أن نُضيف البعد المتعلق بإنتاج الفرد أو المجتمع لفضلات الطعام ضمن قائمة "المؤشرات" التي تقيس مدى تحقيق الدولة لأهداف التنمية المستدامة.

الخميس، 3 مايو 2018

الرصاص في شَعْر إسحاق نيوتن!


ربما يتذكر الكثير منَّا العالم البريطاني المشهور إسحاق نيوتن الذي اكتشف الجاذبية الأرضية وقوانين الحركة ومات عام 1727، فسَبب بنظرياته واكتشافاته هزة علمية كبيرة كالزلزال الذي ينزل بالكرة الأرضية، فغير المفاهيم والنظريات العلمية القديمة، وفتح الباب على مصراعيه أمام أبحاث علمية جديدة وفريدة من نوعها، ومهد الطريق لاكتشافات واختراعات كثيرة ننعم بها اليوم ونستفيد منها في حياتنا اليومية.

والآن وبعد مرور أكثر من 291 عاماً على وفاته تم أخذ عينة من شعر رأسه والمحفوظة في أرشيف العائلة لإجراء بعض التحاليل المخبرية العادية الروتينية والتعرف على مكونات الشعر من العناصر الكيميائية المختلفة، وبعد ظهور نتائج التحاليل وقف العلماء مندهشين وحائرين أمام البعض من هذه النتائج، فلم يتوقع أحد من فريق البحث مثل هذا الاكتشاف الغريب والغامض ولم يخطر قط على بال أحدٍ منهم، فقد مكثوا أياماً طويلة يحاولون فك خيوط هذا اللغز المحير، وتقديم تفسيرٍ علمي واقعي لهذا الاكتشاف الجديد المثير للجدل.

فقد أكدت التحاليل وجود مستويات مرتفعة جداً من عنصر الرصاص السام والخطر في شعر إسحاق نيوتن وصلت إلى 93 جزءاً من الرصاص في المليون جزء من الشعر. فهذا الاكتشاف أثار الكثير من الأسئلة حول وجود الرصاص في شعر هذا العالم وفي جسمه بشكلٍ عام.

فكيف دخل هذا الرصاص السام إلى جسم نيوتن وتراكم مع الزمن في شعره؟ وما هو مصدر هذا العنصر الملوث للبيئة والإنسان في تلك الحقيبة من الزمن؟ ومن أين تعرض لهذا السم وما هي الفترة الزمنية؟

واليوم ما يعنيني ويهمني كثيراً من هذا الاكتشاف المقلق، أننا الآن وبعد مُضي أكثر من قرنين ونصف القرن مازلنا أمام المشهد نفسه فنعاني من الظاهرة نفسها وكأنه لم يتغير شيئاً، ونقاسي بشدة من أزمة التلوث من الرصاص ووجود هذا العنصر السام في أعضاء أجسام الملايين من البشر في كل أنحاء العالم، كما عانى منه نيوتن قبل أكثر من 291 عاماً!

فهل فشل الإنسان في التخلص كلياً من هذا الملوث الخطير؟ وهل خسر الإنسان الحرب الضروس ضد الرصاص والمستمرة لمئات السنين؟

ودعوني أُقدم لكم دراسة واحدة فقط من بين عشرات الآلاف من الدراسات والأبحاث التي تؤكد خسارة الإنسان في كل معاركه ضد "الرصاص" طوال هذه السنوات العجاف الطويلة، وتبين عجزه التام في التخلص منه وشل حركته ومنعه من الوصول إلى أعضاء أجسامنا. فقد نشرت المجلة الطبية المرموقة "لانست للصحة العامة" في مارس من العام الجاري دراسة شاملة وجامعة حول الرصاص في دم الإنسان الأمريكي وعلاقته بالموت المبكر من أمراض القلب، حيث شملت عينة الدراسة 14289 أمريكياً من الولايات الخمسين في كل أرجاء أمريكا، وراقبت التغيرات التي تطرأ على حالتهم الصحية لعشرين عاماً، وجاءت نتائج الدراسة كالصاعقة على قلوب الأمريكيين خاصة ونفوس البشر عامة في كل أرجاء المعمورة، حيث وجهت الدراسة أصابع الاتهام إلى "الرصاص" الجاثم في أجسامنا، وحمَّلتُه المسؤولية في إصابة وقتل 256 ألف أمريكي سنوياً بأمراض القلب.

فمصادر الرصاص كثيرة ومتعددة، منها أنابيب مياه الشرب التي يدخل في صناعتها وتركيبها عنصر الرصاص السام، ومنها مركبات الرصاص التي كانت ومازالت في بعض الدول تضاف إلى وقود السيارات التي تعمل بالجازولين، ومنها كذلك الدهان المنزلي وغير المنزلي الذي يوجد فيه الرصاص، ومنها البطاريات بمختلف أنواعها وأحجامها وأشكالها، وبخاصة بطاريات السيارات، ومنها أيضاً بعض المنتجات البلاستيكية ومنتجات التجميل والتبرج والزينة التي تدخل في تركيبها مركبات الرصاص، وهي منتجات استهلاكية يستخدمها الإنسان بشكلٍ يومي.

وبالرغم من أن قوانين بعض الدول منعت استخدام مركبات الرصاص في بعض المنتجات، كدهان المنازل والجازولين المستخدم في السيارات منذ أكثر من أربعين عاماً، إلا أن الرصاص مازال يعيش معنا ودخل في أعضاء أجسامنا وتراكم فيها يوماً بعد يوم، ولذلك الدراسات التي تُنشر اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخرى تؤكد تجذر هذه الأزمة البيئية الصحية في أعماق أجساد المجتمع الأمريكي والمجتمعات البشرية حول العالم، وتثبت الضرر الصحي الذي نزل على الإنسان بسبب استخدام الرصاص.

فتلوث الإنسان بالرصاص منذ عهد إسحاق نيوتن لم ينته بعد، ومعاناة البشر من التلوث بالرصاص ومن التلوث عامة مازالت قائمة وقاتمة ومستفحلة في المجتمع البشري عامة، فهل أستطيع القول بأن الإنسان خسر الحرب ضد التلوث الناجم عن الرصاص خاصة، والتلوث بشكلٍ عام؟