السبت، 19 مايو 2018

"بَودرة" تَلْكْ للأطفال والإصابة بالسرطان


كثر الحديث في العقدين الماضيين عن منتجٍ مشهور استخدمه الجميع في كل أنحاء العالم من المهد إلى اللحد ومنذ أكثر من مائة عام، فلا أظن بأن هناك إنساناً يعيش على وجه الأرض، صغيراً كان أم كبيراً، شاباً أم شيخاً هرماً إلا وقد استعمل هذا المنتج السحري المثير مرة أو أكثر طوال سنوات حياته، ولا أظن بأن هناك بيتاً في أصغر القرى على وجه الأرض إلا ودخله هذا المنتج.

 

هذا المنتج العريق يقف منذ سنوات في قفص الاتهام ليدافع عن نفسه، ويدافع عن سلامة استعماله للإنسان، فقد ارتفعت أصوات المشككين الذين يتهمون هذا المنتج بأنه مضر لصحة الإنسان، وأن استعماله لسنوات طويلة يوقع الإنسان في السقوط في شباك مرض السرطان، وبالتحديد سرطان المبايض.

 

هذا المنتج المعروف والواسع الإنتشار هو مسحوق أو "بَوْدرة" تَلْكْ البيضاء للأطفال الذي تصنعه عدة شركات في مقدمتها شركة جونسون وجونسون منذ زهاء قرنٍ من الزمان. فما هو حقيقة هذه الاتهامات الموجهة لهذا المسحوق؟ وما هو الرأي العلمي المتعلق بتأثير هذا المنتج على الإنسان؟

 

فقد بدأت الشكوك تثور حول هذا المنتج منذ السبعينيات من القرن المنصرم عندما فتح فريق من العلماء الملف حول الأخطار التي قد يسببها هذا المسحوق للنساء بشكلٍ خاص، حيث قاموا بدراسة العلاقة بين سرطان المبايض واستعمال بودرة تلك البيضاء واكتشفوا جسيمات مجهرية صغيرة جداً منها في خلايا الأورام السرطانية الموجودة في المبايض، ثم في عام 1982 أجرى باحثون من جامعة هارفرد العريقة دراسة شملت 400 امرأة للدخول بشكلٍ أدق وأعمق حول هذه القضية المستجدة، وخلصوا إلى أن استخدام مسحوق تلك في الأعضاء التناسلية للمرأة بدرجةٍ مفرطة يزيد من احتمال التعرض لسرطان المبايض، ثم تبعتها دراسات وأبحاث لسبر غور هذه العلاقة وتقديم أدلة علمية دامغة ومؤكدة لحسم وجود هذه العلاقة. ولكن هذه الدراسات لم تُجمع على نتيجة واحدة، فمنها ما أفادت إلى مخاطر الإصابة بالسرطان عند استعمال هذا المسحوق، ومنها الأبحاث التي لم تجد أية علاقة سببية بين سرطان المبايض ومسحوق تلك.  

 

وبالرغم من عدم وضوح الرؤية بشكلٍ قاطع بالنسبة للأدلة العلمية، إلا أن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان، وهي الجناح العلمي المتعلق بأمراض السرطان لمنظمة الصحة العالمية، أعلنت وصنَّفت في عام 2006 بأن مسحوق تلك للأطفال"من المحتمل أن يكون مسرطناً للإنسان" كخطوة احترازية واستباقية.

 

واليوم انتقلت المعركة من الوسط العلمي والبحثي ومن بين العلماء إلى الوسط القضائي بين رجال القانون والمحاماة ورفع الدعاوى ضد الشركات المصنعة لهذا المسحوق وعلى رأسها شركة جونسون و جونسون، حيث توجد اليوم في أروقة المحاكم في الولايات الأمريكية فقط أكثر من 4800 دعوى مرفوعة من نساء يعانين من سرطان المبايض، ويوجهن أصابع الاتهام نحو بوردة تلك.

 

وفي المحاكم أيضاً، كما هو الحال بالنسبة للدراسات والأبحاث العلمية، فلا يوجد هناك حسم في القرار في هذه القضايا، فمنها قضايا تم الحكم فيها لصالح المرضى الذي يعانون من سرطان المبايض ويدَّعون أن السبب هو هذا المسحوق، ومنها قضايا لم يجد فيها المحلفون الدليل العلمي والطبي الدامغ الذي يؤكد ويثبت وجود العلاقة بين المسحوق والإصابة بالسرطان. ولذلك فالمعارك حول هذه القضية مازالت مشتعلة في المحاكم، وستبقى مشتعلة لا تنطفئ لعشرات السنوات القادمة.

 

والآن بعد أن تأكدنا عدم وجود إجماعٍ طبي وقضائي حول العلاقة بين المسحوق والتعرض للسرطان، فماذا نحن فاعلون؟ وهل نستخدم هذا المسحوق الذي مازال يباع في الأسواق أم لا؟

 

ففي تقديري ومن خلال خبرتي المتواضعة في مثل هذه القضايا البيئية الصحية الخلافية، فإنني أُنبه وأحذر مما يلي:

أولاً: لا يمكن كلياً الوثوق بإدعاءات الشركات العملاقة، فهي شركات هدفها الربح السريع وجني المال الوفير بكافة الطرق والوسائل الشرعية وغير الشرعية، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، ولو كان هذا الربح على حساب صحة الإنسان أو صحة البيئة، وقد كتبتُ عدة مقالات أثبتُ فيها أن تحقيق هذا الهدف بكل الوسائل من "ثقافة" وسياسة هذه الشركات، وقدمتُ أمثلة كثيرة لأثبت هذه الحقيقة، منها شركات التبغ والسجائر ومنها مؤخراً شركة فوكس واجن للسيارات التي اعترفت بعملية الغش المتعمد عند صناعة أجهزة التحكم في الملوثات التي تنبعث من السيارات.

ثانياً: هذه الشركات الكبيرة، ولو كانت تعرف الحقيقة، فهي لا تعترف إذا كان هذا الاعتراف سيسبب لها أية خسائر مادية. فعلى سبيل المثال، استغرق اعتراف شركات التبغ بأن السجائر "قاتلة" أكثر من خمسين عاماً من القضايا التي رُفعت ضدها حول علاقة التدخين بالسرطان، وبخاصة سرطان الرئة. ولذلك لا أتوقع من شركة جونسون و جونسون وغيرها أن تستسلم بسهولة في الجولة الأولى في المحاكم، فهي ستبقى تقاتل حتى الجولة 15 لعلها تخرج منها رابحة، أو في الأقل تقلل من الضرر والخسائر المالية التي ستتكبدها، وبخاصة عند فقدان الإجماع العلمي.  

ثالثاً: مسحوق تلك الأبيض عبارة عن معدن طبيعي يستخرج من باطن كباقي المعادن، وهو معدن ناعم جداً ويتميز بقدرته الخارقة على امتصاص الروائح والعرق ويستخدم في منتجات كثيرة تتراوح بين العلكة ومواد البناء والبلاستيك، وقد استبدلت بعض الشركات مسحوق تلك بمادة نشا الذرة. فهنا أريد أن أؤكد على نقطة مهمة جداً لتجنب الآثار السلبية والضارة لمسحوق تلك، وهي أهمية الاستخدام الرشيد والمعتدل من جهة وتجنب استخدامه في الأعضاء التناسلية من جهة أخرى، كما إنه من المهم تجنب استنشاق هذه المادة الناعمة لمنع دخولها في الرئة.  

 

والسنوات القادمة حتماً ستكشف لنا المزيد حول مسحوق تلك العظيم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق