الأربعاء، 30 يونيو 2021

محكمة الجنايات "البيئية" الدولية

اجتمع 12 محامياً حقوقياً من ذوي الخبرة والعلم والكفاءة على المستوى الدولي في مجال قوانين الجرائم الدولية الجماعية من مختلف دول العالم، ليناقشوا قضية واحدة فقط، وقد تكون هذه القضية عند الكثير من الناس سهلة وبسيطة، ولا يستغرق إنجازها سوى أياماً معدودات فقط. ولكن هذه القضية بالتحديد استغرقت الكثير من الجهد الذهني العقلي، وانتهتْ مهمة هذا الفريق المستقل من الخبراء(The Independent Expert Panel) بعد قرابة الستة أشهر.

 

فقد كان الهدف من اجتماع هؤلاء المحامين الدوليين، والذي استغرق هذه الأشهر الطويلة هو فقط وضع تعريف لمصطلح إبادة البيئة(ecocide)، أو جريمة الإبادة الواسعة النطاق لثروات وموارد البيئة الحية وغير الحية، على غرار مصطلح الإبادة الجماعية للإنسان(genocide). فبعد جهدٍ جهيد، وعمل دؤوب طويل، وولادة عسيرة ماراثونية تمخض تعريف خاص في يونيو من العام الجاري لهذا المصطلح، ويتكون فقط من 165 كلمة باللغة الإنجليزية، وهو "قيام الإنسان بأعمال وتصرفات غير قانونية ووحشية وعدم وضع أي اعتبار للبيئة وارتكابه لهذه الأعمال التخريبية بعلم ومعرفة مسبقة بأن هذه الأعمال تؤدي إلى حدوث تدميرٍ شديد، إما على نطاق واسع، وإما تأثير طويل الأمد على حياة الإنسان، أو البيئة، وعلى الموارد الثقافية والاجتماعية"، أي بمعنى آخر الإبادة والفساد الشامل لكافة عناصر البيئة من ماءٍ وهواء وتربه، إضافة إلى الإنسان والحياة الفطرية بشقيها الحي وغير الحية.

 

فهذا المصطلح يعادل جريمة الإبادة الجماعية للبشر على المستوى الدولي، حيث يمكن اعتبار فساد البيئة وخرابها وتدميرها جريمة دولية مثلها مثل الأربع جرائم المعتمدة دولياً، وهي أولاً جرائم الإبادة الجماعية للإنسان، وجرائم الحروب، ثم الجرائم ضد الإنسانية، وأخيراً جرائم العنف، وهذه الجرائم تختص بها المحكمة الجنائية الدولية(International Criminal Court).

 

وانطلاقاً من هذا التعريف الجديد لإبادة البيئة يمكن استخلاص عدة عناصر، أو اشتراطات تجعل عملية الاعتداء على حرمات البيئة ومكوناتها جريمة "بيئية" دولية يمكن قبولها والتداول فيها عند محكمة الجنايات "البيئية" الدولية، وهي:

أولاً: أن تكون عملية تلويث وتدمير البيئة والأضرار التي ألحقها بالإنسان والحياة الفطرية النباتية والحيوانية والنظام البيئي بشكلٍ عام قد قام بها أفراد، أو جماعات، أو منظمات، أو حتى حكومة أية دولة بعلمٍ ودراية مسبقة بانعكاسات هذا العمل والتصرفات التي ارتكبت ضد البيئة.

ثانياً: أن تكون تداعيات وأضرار هذه العمليات التخريبية والتدميرية لمكونات البيئة قد نزلت وأفسدت منطقة جغرافية واسعة، وأثرت بدرجة مشهودة ولفترة زمنية طويلة وبدون رجعة على صحة الإنسان وسلامة وأمن البيئة وعناصرها، إضافة إلى تأثيراتها المعمقة والشديدة على الموارد الاجتماعية والثقافية.

 

والآن وبعد الانتهاء من الخطوة الأولى وهي طرح تصور لتعريف الجرائم البيئية الدولية، تأتي الخطوات القادمة والتي من المتوقع أن تكون شاقة، ومعقدة، وقد تكون طويلة جداً تستغرق سنوات، أو حتى عقود من الزمن. فالخطوة الثانية تتمثل في تقدم إحدى الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية بتقديم مقترح التعريف إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ثم طرح هذا التعريف في أحد اجتماعات الجمعية العمومية للمحكمة للتفاوض حولها، والخطوة الأخيرة تكون موافقة الدول والتوقيع والتصديق عليه.

 

وهناك عدة أمثلة لجرائم بيئية دولية قد وقعت في السنوات الماضية، ويمكن أن ينطبق عليها هذا التعريف. فعلى سبيل المثال، هناك حرب فيتنام التي نفذ فيها الجيش الأمريكي عملية خاصة أُطلق عليها(Operation Ranch Hand)، وفي هذه العملية المدمرة للحرث والنسل، والشجر والحجر استخدم فيها الجيش الأمريكي مجموعة من المبيدات الشديدة السمية المحتوية على مجموعة مركبات خطيرة جداً هي الديكسين، وعُرفت في الجيش الأمريكي بمبيدات قوس قزح (Rainbow herbicides)، لأنها كانت توضع في براميل ملونة هي البرتقالي والوردي والأخضر والأبيض والأزرق والأرجواني.

 

وكان استخدام هذه المبيدات يهدف إلى إزالة ومحو الملايين من الهكتارات من الغابات والأحراش وأشجار القرم الساحلية والمحاصيل الزراعية من أجل تجويع الشعب الفيتنامي الشمالي المقاوم للإحتلال الأمريكي من جهة، وكشف ملاجئ ومساكن المقاومين الذين كانوا يختبؤون فيها من جهة أخرى. وهذه المبيدات استخدمت في الفترة من 1965 إلى 1970، واستعملت عدة وسائل لرشها، منها يدوياً في المناطق القريبة، ومنها بالشاحنات، ومنها من أعلى بالطائرات، حتى أن حجم هذه المبيدات المستخدم تم تقديره بأكثر من 72 مليون لتر، فلوثت الأرض، والبحر، والسماء، وقضت على أنظمة بيئية منتجة ومثمرة، وأصابت الإنسان الأمريكي والفيتنامي على حدٍ سواء بأمراض مستعصية، مثل السرطان وأمراض الجلد الغريبة، علماً بأن الإصابة بهذه الأمراض مازالت مستمرة بالرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً على توقف الحرب.

 

والمثال الآخر الذي يمكن أن يرقى إلى مستوى الجرائم البيئية الدولية هو اختفاء واحدة من أكبر البحيرات في العالم وهي بحيرة آرال(Aral Sea) التي تقع بين كازاخستان وأوزبكستان والتي كانت مساحتها قرابة 68 ألف كيلومتر مربع، حيث كان يصب فيها نهران عظيمان يزودانها بالحياة والماء الوفير، ولكن مع تحريف مجرى النهرين لزراعة القطن من قبل الاتحاد السوفيتي، انخفضت أحجام المياه التي تصب في البحيرة، فتحول الجزء الأكبر من البحيرة إلى صحراء جافة وقاحلة وتسبب في نزول كوارث بيئية، واقتصادية، واجتماعية، وصحية، وتدمير شامل للنظام البيئي في المنطقة وللبشر والحياة الفطرية النباتية والحيوانية.

 

ولذلك فإن هذه المبادرة التي تبنتها مؤسسة وقف الإبادة البيئية (Stop Ecocide Foundation) منذ عام 2017 يجب أن تحظى باهتمام ورعاية الدول، وبخاصة الدول الكبرى التي تتمتع بوزن ثقيل، ونفوذ قوي في المجتمع الدولي وفي المنظمات الدولية حتى نستطيع أن نحمي بيئتنا من التعدي على حرماتها، ونقيها من أيدي العابثين والمفسدين، ونمنع أية إبادة شاملة لبيئتنا وصحتنا.

 

 

الاثنين، 28 يونيو 2021

أول استراتيجية أمريكية لمواجهة الإرهاب الداخلي


حادثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 الرهيبة وجهتْ أنظار العالم عامة، والولايات المتحدة الأمريكية خاصة نحو الإرهاب، وبالتحديد الإرهاب الذي أُطْلقَ عليه بالإرهاب الإسلامي، وإرهاب الجماعات والتنظيمات الإسلامية الدولية، حيث ركزت أمريكا بشكلٍ كلي وشامل بعد هذه الحادثة على التنظيمات الإسلامية عامة بكل مسمياتها، ووجهت بوصلتها كلياً نحو هذه الجماعات بصفةٍ خاصة، والدين الإسلامي بشكلٍ عام، كما إنها شمَّرت كل جهودها ومواردها البشرية والمالية نحو متابعتها ومراقبتها والدخول في المعارك ضدها في كل أرض وفي كل دولة، إضافة إلى إرسال الرسائل إلى الحكومات والدول الإسلامية نحو غربلة المناهج والمقررات الدراسية والتعليمية وخطب الجمعة وغيرها لإفراغها تماماً من آيات الدعوة إلى الجهاد والقتال، كذلك تجفيف المنابع المالية لهؤلاء الجماعات. ولذلك فأثناء العقدين الماضيين انشغلتْ أمريكا بمواجهة هذا التهديد الإرهابي الإسلامي القادم من الخارج، وتصدت لها من خلال شد الرحال عسكرياً وثقافياً وفكرياً ومالياً، والذهاب إلى عقر دارها ومسقط رأسها.

 

ولكن في الوقت نفسه نزلت على الولايات المتحدة الأمريكية كارثة أخرى جعلتها تُصحح قليلاً من بوصلتها الأمنية التي انحرفت كلياً طوال أكثر من عشرين عاماً نحو الإرهاب الخارجي المتمثل حصرياً وكلياً في التنظيمات الإسلامية، كما اضطرتها إلى إجراء إصلاحٍ طفيف في مسارها واستراتيجيتها، وهذه الكارثة هي اقتحام بيت الديمقراطية الأمريكي واحتلال مبنى الكونجرس لعدة ساعات ووقوع حوادث قتل، وعنفٍ، وشغب في السادس من يناير 2021، أي قُبيل تسليم السلطة رسمياً بشكلٍ ديمقراطي وسلمي إلى الرئيس المنتخب جو بايدن.

 

فهذه الكارثة الفريدة من نوعها في أمريكا والتي قد لم تشهد مثيلاً لها، إضافة إلى حوادث انقلابية أخرى تم الكشف عنها قبل وقوعها من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالية(إف بي آي) في أكتوبر 2020، كالمحاولة الانقلابية في ولاية ميشيجن، جعلت الأجهزة والوكالات الأمنية تُعيد حساباتها من جديد بالنسبة لمصدر الإرهاب، وتغير نظرتها ورؤيتها حول التهديدات التي يجب أن تحظى بأولوية الاهتمام بالنسبة لأمن واستقرار أمريكا داخلياً.

فآخر التصريحات الرسمية من أعلى المستويات حول هذه القضية الأمنية، وبالتحديد من رئيس الولايات الأمريكية جو بايدن، كان بعد مرور مائة يوم على دخوله في البيت الأبيض واستلامه لمقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ألقى خطاباً للكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب في 28 أبريل من العام الجاري، وبيَّن فيه أمراً مهماً جداً وهو أن شبكات الإرهاب الدولي انتقلت حالياً خارج البلاد، كما حذَّر بأن جماعات تفوق العرق الأبيض تمثل تهديداً أكبر من الجماعات الأجنبية، بل ويفوق هذا التهديد كثيراً الإرهاب من الجماعات التي تدَّعي الإسلام، كالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، فقال الرئيس: "لا تخطئ. خلال العشرين سنة، الإرهابيين _ الإرهاب ازداد في حجمه. التهديد انتقل إلى خارج أفغانستان"، كما أضاف قائلاً: "الذين يعملون في اللجان الاستخباراتية، لجنة العلاقات الخارجية، اللجان الدفاعية، أنتم تعلمون جيداً، فعلينا أن نبقى يقظين أمام التهديدات للولايات المتحدة من أي مكان تأتي منها"، ثم ركز اهتمامه على التهديدات الإرهابية الداخلية، حيث قال:" نحن لن نتجاهل ما حددته وكالاتنا الاستخباراتية بالتهديد الإرهابي الأشد على أرضنا اليوم: جماعات تفوق العرق الأبيض يُعد إرهاباً، ولن نتجاهل هذا أيضاً".

 

واليوم وبالتحديد في 15 يونيو، تحولت التصريحات والأقوال إلى أعمال تتسم بوضوح الرؤية ورغبة صادقة نحو الدخول في مرحلة التنفيذ ضد المجموعات الإرهابية الداخلية، فدشن البيت الأبيض، ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية خطة شاملة لمواجهة الإرهاب الداخلي من اليمين المسيحي المتطرف بشكلٍ خاص، ونشر "مجلس الأمن القومي"(National Security Council) هذه الخطة تحت عنوان:" الأستراتيجية القومية لمواجهة الإرهاب الداخلي(National Strategy for Countering Domestic Terrorism)، ثم جاء الإعلان الرسمي لهذه الخطة من قبل النائب العام، ميريك جارلند( Merrick Garland).

وقد تكونت الاستراتيجية من 32 صفحة وخمسة بنود هي: المقدمة، والتهديدات الحالية، ومَدْخَلُنا، ثم أركان الاستراتيجية، وأخيراً البند الخاص بالطريق للمستقبل. وقد كتب الرئيس بايدن كلمة في صفحة الافتتاحية قال فيها: "في أول يوم لي في الحكم، وجهتُ فريق الأمن القومي لمواجهة نمو الإرهاب الداخلي بكل الموارد الضرورية وحله. اليوم، أنا أُدشن أول استراتيجية قومية لمواجهة الإرهاب الداخلي". كما قال: "هذه الاستراتيجية تُقدم مدخلاً شاملاً لحماية أُمتنا من الإرهاب الداخلي، وفي الوقت نفسه حماية الحريات والحقوق المدنية.....فلا نستطيع تجاهل التهديد أو أن نتمنى زواله...فمنع التهديد الداخلي وخفض العوامل التي تمثل وقوداً له يحتاج إلى مواجهة متعددة الأوجه من خلال الحكومة الاتحادية وخارجها".

وأما البند المتعلق بأركان الاستراتيجية فقد تم تقسيمه إلى أربع نقاط، الأولى هي جُهودنا لفهم والمشاركة في المعلومات المتعلقة بتهديدات الإرهاب الداخلي من جميع مصادره، والثانية جهودنا لمنع الإرهاب الداخلي من خلال منع التجنيد، والتحريض، وتحريك الأمريكيين للعنف، وأما الثالثة فتتمثل في جهودنا لمنع الأنشطة الإرهابية قبل وقوعها، ثم يأتي الركن الرابع والأخير للاستراتيجية وهو مواجهة القضايا طويلة الأمد والتي تسهم في الإرهاب الداخلي في بلادنا من أجل خفض درجة التهديد الإرهابي عبر الأجيال اللاحقة.

وهناك نقطتان أود التركيز عليهما لعلنا نستفيد منهما عند قراءة وتحليل هذه الاستراتيجية. أما النقطة الأولى فهي أن الاستراتيجية تشير إلى أنها لن تستطيع كلياً القضاء على الإرهاب الداخلي دون مواجهة ومعالجة جذور الأسباب التي تؤدي إلى وقوعها، فلكل عملية إرهابية أسبابها، ومبرراتها، ودوافعها، فيجب دراسة كل هذه الأسباب والتصدي لها من أعماق جذورها حتى لا تتكرر. فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة بعض أسباب وقوع العمليات الإرهابية تكمن في تنامي العنصرية والكراهية ضد السود، والأقليات، والأديان الأخرى، ومنها أيضاً توافر السلاح بسهولة مما يشجع استعماله والقيام بارتكاب المذابح الجماعية، إضافة إلى عدم وجود التشريعات التي تتعامل مع العمليات الإرهابية الداخلية، ومنها كذلك السماح لنشر الكراهية والتمييز في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بحجة حرية الرأي والتعبير. وفي دولنا ربما قد تكون أسباب الإرهاب والتطرف مختلفة بعض الشيء، فمنها الفقر، وضعف تنفيذ مبادئ العدالة الاجتماعية، إضافة إلى فقر تطبيق أسس الديمقراطية ونزاهة الانتخابات، ولذلك عند محاربة الإرهاب يجب في الوقت نفسه معالجة كل هذه العوامل التي قد تؤدي إلى وقوعها، قبل المعالجة العسكرية والأمنية.

والنقطة الثانية فهي أن الاستراتيجية الأمريكية عند تطبيقها لا تُركز على أفكار ومبادئ مرتكب العملية الإرهابية، حتى تتجنب الاستراتيجية تسيسها، أي تكون خارج دائرة السياسة والأهواء والمصالح الحزبية، وإنما تركز على العنف المرتكب وحجم هذا العنف عند المحاكمة وتحديد العقاب. فاليوم ما نشاهده هو أن من يقوم بطعن إنسان واحد وجرحه جروحاً طفيفة فقط وهو يدَّعي الإسلام، ويقول الله أكبر عند قيامة بعملية الطعن، يقوم المجتمع الدولي بتصنيف العملية إرهابية، وتغلظ عليه العقوبة، في حين أن الذي يقتل العشرات إعداماً أمام الناس، فإن العملية لا تكون إرهابية ولا يحاكم ضمن قانون الإرهاب.

الأربعاء، 23 يونيو 2021

أجيالنا القادمة ستفتقد تراثنا الطبيعي

كما أن الدول تعتز وتفتخر بتراثها التاريخي العريق وثقافتها العميقة وحضارتها القديمة التي ضربت أطنابها في جذور التاريخ، فهناك نوع آخر من التراث الذي يمثل أيضاً تاريخ كل دولة، بل وكل مدينة في تلك الدولة، وهو يكُونُ من أنواع التراث الفريد من نوعه في بعض الدول، فلا يوجد مثيل له، أو ما يشبهه في أية دولة، بحيث إنه يصبح رمز تلك الدولة، وهو التراث الفطري الطبيعي بشقيه النباتي والحيواني، إضافة إلى البيئات الطبيعية الجميلة والخلابة التي تجذب الناس من داخل تلك الدولة ومن خارجها لمشاهدتها والتمتع بها.

 

وعلاوة على الناحية التراثية والتاريخية للحياة الفطرية وموائلها الطبيعية، فإن هذا التراث يعد جزءاً رئيساً وحيوياً من الموارد والثروات الطبيعية التي تتمتع بها بعض الدول، وتعتبر عملة نادرة وثرية تعتمد عليها اقتصادياً، واجتماعياً، وسياحياً، فهي صيدلية طبيعية عامة تُستخلص منها العقاقير النادرة المستخدمة لعلاج الأمراض المستعصية، وهي في الوقت نفسه المصدر الرئيس للغذاء لهذه الدول، إضافة إلى أنها مواقع سياحية بيئية يَشد الناس إليها الرحال لزيارتها والتعرف عليها وعلى الكائنات النادرة والغريبة التي تعيش فيها.

 

ولذلك فقد اعترفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة(اليونسكو) بهذه النوع من التراث الفطري الطبيعي في كل دول العالم، واتخذت الإجراءات والأدوات القانونية الدولية لحمايتها وصيانتها لنا وللأجيال اللاحقة. ومن أهم الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية هذا النوع من التراث هو اتفاقية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972. وتهدف هذه الاتفاقية أساساً إلى حماية ورعاية التراث الفطري في كافة دول العالم والتي تتميز بطبيعة خاصة تتفرد بها تلك الدولة عن سائر دول العالم، ولها قيمة بارزة ورمزية عالية، مما يستوجب وقايتها والاهتمام بها ونقلها للأجيال القادمة دون المساس بهويتها، وصحتها، وقدرتها على الإنتاج والعطاء.

 

وفي السنوات والعقود الماضية زادت أهمية هذه الاتفاقية، وأصبحت الحاجة إليها ماسة أكثر، وأشد إلحاحاً بسبب التهديدات التي يواجهها هذا التراث الفطري الطبيعي، المتمثل في البيئات والموائل الطبيعية الفريدة، إضافة على التنوع الحيوي في تلك المناطق والحياة الفطرية النباتية التي تعيش عليها.

 

فالكائنات الحية وموائلها تواجه تحديات كبيرة على المستويين القومي والدولي تجعلها عرضة للتدهور المباشر في صحتها وسلامتها من الناحيتين النوعية والكمية، بل وفي الكثير من الحالات انقرضت موائل غريبة وفريدة من نوعها وذهبت مع الريح وبدون رجعة الكائنات الحية التي كانت تعيش عليها، وأصبحت جزءاً من التاريخ البيئي وتاريخ التراث الطبيعي.

 

فهناك تهديدات على المستوى القومي للدول، كما أن هناك تهديدات للتراث الطبيعي على المستوى الدولي، فأما التهديدات القومية فتتمثل في عمليات حفر ودفن السواحل البحرية التي تقضي كلياً على البيئات الساحلية، كما تقضي في الوقت نفسه على الحياة الفطرية البحرية في تلك المواقع المدفونة. كذلك من التحديات على مستوى الدول هي الإفراط الكبير والاستنزاف الشديد في المياه الجوفية التي تظهر على شكل عيونٍ عذبة في البر والبحر فتؤدي مع الوقت وبشكلٍ تدريجي على جفاف هذه العيون وتدميرها وكل ما حولها من موائل وحياة فطرية مثمرة وثرية. كما أن التوسع العمراني وتمدد المدن إلى البيئات الطبيعية العذراء أدى إلى تدميرها والقضاء على الحياة الموجودة فيها.

 

وأما على المستوى الدولي، فهناك الصيد الجائر للثروة السمكية واستخدام أدوات الصيد الجماعي غير الشرعية، كذلك هناك مشكلات بيئية لها تأثيرات على كوكبنا برمته كالتغير المناخي وارتفاع سخونة الأرض ومستوى سطح البحر، والانعكاسات التي سببتها هذه الظاهرة على البيئات الطبيعية وكل كائن حي يعيش على سطح الأرض. 

 

فكل هذه العوامل جعلت الكثير من الحيوانات والنباتات تعيش في حالة يائسة ومريضة نقلتها إلى غرفة العمليات والإنعاش وهي تقاوم الانقراض والموت، فمنها من كان مصيرها الموت والزوال من على سطح الأرض بدون رجعة، ومنها من ينتظر دوره فأصبح مهدداً بالموت والانقراض.

 

ولذلك فالجيل الحالي والأجيال اللاحقة ستفتقد مشاهدة والتمتع بالكثير من أنواع الكائنات الفطرية والمخلوقات الغريبة والعجيبة التي انمحتْ من كوكبنا في البر، والبحر، والجو، سواء في البحرين، أو في دول أخرى.

 

أما في البحرين فقد افتقدنا وخسرنا وللأبد وبدون رجعة واحد من أهم الأنظمة البيئية الغنية والفريدة من نوعها، وهو نظام العيون البرية والبحرية التي كانت تشتهر بها البحرين على المستوى الإقليمي، فكانت بيئة خصبة تحيطها الكائنات الحية في مياه تلك العيون، إضافة إلى الكائنات البرمائية وغير البرمائية التي كانت تزدهر بها الأنهار الصغيرة والمتفرعة التي تخرج من بطن العيون، والتي كانت في الوقت نفسه تُغذي الأراضي الزراعية حولها فتكون غابات كثيفة من النخيل وغيرها من الأشجار، فتحوم حولها الطيور الجميلة المغردة والغناء، وبخاصة طائر البلبل المهدد بالانقراض في بلادنا.

 

ولكي تصدِّقوا وصفي لهذا النظام البيئي المنتج والمثمر لهذه العيون الفذة، فألقُوا نظرة على الصور القديمة الخاصة بهذه العيون، وعلى رأسها عين عذاري، وقصاري، وأبوزيدان، والرحى، وأم شعوم، والسفاحية، والشيخ، والتي بلغ عددها حسب بعض التقديرات قرابة 153 عيناً في البر، و 20 عيناً بحرية. وعلى رأس هذه العيون جمالاً، وروعة، وثراءً وحيوية هي عين عذاري، والتي قد لا يسمع عنها هذا الجيل، وبالتأكيد الأجيال اللاحقة. فعين عذاري التي ربما نسمع عنها الآن، فأُطلق عليها "بركة عين عذاري"، فهي فقدت البيئة الحيوية المحيطة بها، كما انتهت كلياً الحياة الفطرية التي تحوم حولها، فلا تعتبر بتاتاً نظاماً بيئياً كما كانت عليها. فذاكرتي عن عين عذاري عندما كنتُ صغيراً هي تلك العين السياحية الجميلة التي يتمتع بها سكان البحرين وزوراها سباحة وترفيهاً وقضاء وقت ممتع مع الأهل والأصدقاء، وذاكرتي عن عين عذاري هي البساتين الخضراء الكثيفة ذي النخيل الباسقة المثمرة والغناء التي تحيط بالعين من كل جانب، وذاكرتي عن العين هي الأنهار الصغيرة التي تسقي هذه البساتين، ويعيش فيها كائنات برمائية انقرضت الآن في البحرين كسلاحف المياه العذبة والضفادع.

 

وعلاوة على النظام البيئي للعيون التي انقرض كلياً من البحرين وانمحت وأُزيلت معظم آثارها ومواقعها، فهناك بعض أنواع الطيور المهاجرة والنادرة التي لن يراها الجيل الحالي وطبعاً الأجيال اللاحقة، حيث كانت تأخذ فترة استجمام وراحة أثناء رحلتها الطويلة، فتنزل "ترانزيت" في بيئات محددة تتغذي عليها أثناء فترة الشتاء، وتتكاثر فيها، ثم تواصل مسيرتها إلى دول أخرى، مثل طائر الخناق الرمادي الذي تَوَقفْ النزول في البحرين لتدمير بيئتها من بساتين النخيل في قريتي مُقابه وسار.

 

فهذه أمثلة معدودة من بيئات كثيرة وحياة فطرية نباتية وحيوانية قد انتهت كلياً من البحرين، فأصبحنا نقرأ عنها في الكتب القديمة حول الحياة الفطرية في البحرين، فمع الأسف فإن الجيل الحالي والأجيال اللاحقة ستفتقد كل هذا التراث من التنوع الحيوي في بلادنا، وبدون رجعة.

الاثنين، 21 يونيو 2021

قانون أمريكي جديد يهُم المرأة


قانون جديد تم طرحه على مجلس الشيوخ الأمريكي تحت عنوان: "منع مركبات بِي إِف أي إس في مستحضرات التجميل"( No PFAS in Cosmetics Act)، وهذا القانون لأهميته من الناحية الصحية بشكلٍ خاصة للمواطن الأمريكي عامة، فقد نال ثقة بعض الأعضاء المنتمين للحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث تم إعداده وتقديمة إلى الكونجرس من قبل عضوين هما سوزان كولينز(Susan Collins) من ولاية مَين(Main) من الحزب الجمهوري، وريتشارد بلومنثال(Richard Blumenthal) من الحزب الديمقراطي من ولاية كونيتيكت. وعلاوة على ذلك فقد تم عرض القانون أيضاً في مجلس النواب من النائبة الديمقراطي من ولاية ميشيجن ديبي دينجل(Debbie Dingell).

وبالرغم من أن هذا القانون سيصدر في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن له علاقة بكل إنسان، سواء يعيش في أمريكا أو خارجها، كما أن انعكاساته وفوائده تهم كل البشر الذين يعيشون على سطح الأرض بدون استثناء، وبخاصة المرأة، سواء أكانت تعيش في البحرين، أو في أية دولة من دول العالم، فقيرة كانت أم غنية، ومتقدمة كانت أم نامية.

 

فهذا القانون الذي طال انتظاره يتناول مجموعة واسعة من الملوثات الحديثة التي دخلت في كل مكونات بيئتنا، بل وتحولت إلى جزءٍ لا يتجزأ من أعضاء أجسادنا، فسببت لنا الكثير من المشكلات الصحية، حيث أشارت مجموعة من الأبحاث بأن لهذه الملوثات علاقة بالإصابة بالسرطان، وأمراض الغدة الدرقية، وتلف الكلية، ونقص الخصوبة، واضطرابات في الهرمونات.

 

فهذه المجموعة من الملوثات تتكون، حسب آخر الدراسات، من أكثر من 9000 مادة كيميائية دخلت منذ الخمسينيات من القرن المنصرم في منتجات كثيرة لا تُعد ولا تحصى ونستعملها يومياً أينما كُنا، منها أدوات الطبخ والمعروفة بالتِيفَال، ومنها الأثاث المنزلي والمكتبي، ومنها مواد إطفاء الحريق، ومنها معجون الأسنان، إضافة إلى معظم منتجات التبرج والزينة من أحمر الشفاه، والمسكرة، وأنواع الكريمات المستعملة للعناية بالجلد والعينين والرموش، والمرطِبات، والعطور، كذلك تدخل هذه الملوثات في أغشية الأوراق الخاصة والعُلب.

 

فخواص هذه المركبات وصفاتها "الفريدة والمميزة" جعلت الإنسان يُفرط في استخدامها في تطبيقات كثيرة وفي مجالات متعددة، فهي عبارة عن مركبات عضوية تحتوي على أعدادٍ كبيرة من عنصر الفلورين، ويُطلق عليها اسم بي إف أي إس(PFAS)، وهذا العنصر عندما يرتبط بالكربون يُكوِّن رابطة قوية جداً لا تتحلل، ولا تنكسر، ولذلك فهذه المواد عندما تدخل في البيئة لها القدرة على الثبات والاستقرار وعدم التحلل، مما يجعلها تتراكم وتتضخم مع الوقت في السلسلة الغذائية، ويزيد تركيزها في أجسام الكائنات الحية، حتى أن العلماء أطْلقُوا على مثل هذه المركبات بالكيماويات الأبدية(forever chemicals).

 

وهناك الكثير من الدراسات التي أُجريت حول وجود هذه الملوثات الجديدة في مكونات البيئة برمتها وفي جسم الإنسان والحياة الفطرية على حدٍ سواء، إضافة إلى بعض المنتجات الاستهلاكية التي نستخدمها بشكلٍ يومي، كما أشارت هذه الأبحاث إلى أن التركيز في ارتفاع مطرد مع الزمن. ومن آخر هذه الدراسات تلك المنشورة في مجلة "رسائل علوم وتقنية البيئة" في العدد الصادر في 15 يونيو 2021 تحت عنوان: "مركبات الفلورين في منتجات التجميل في أمريكا الشمالية"، وهذه الدراسة بالتحديد هي التي شجعت أعضاء الكونجرس الأمريكي وأعطتهم المبرر العلمي والصحي والبيئي على تقديم القانون حول حظر هذه المواد في منتجات الجمال والزينة والتبرج. فقد قامت هذه الدراسة بتحليل مخبري لـ 231 نوعاً من أنواع المساحيق التجميلية والمكياج(مَيك أَبْ) المتوافرة في الأسواق الأمريكية والكندية ومن كبريات الشركات المعروفة في عالم التجميل مثل لوريال(L’Oréal)، وكلينيك(Clinique)، ونارس(Nars)، وكَفَرْ جَيرْلْ(Cover Girl)، مَاكْ(Mac)، إضافة إلى إسْتي لُودَر(Estée Lauder)، وأَلتا(Ulta).

وقد أكدت التحاليل التي أُجريت على هذه العينات بأن هذه الملوثات موجودة في 56% من عينات منتجات تجميل والعناية بالعينين، و 48% من منتجات العناية بالشفاه، و 47% من عينات المسكرة المستخدمة في تجميل والعناية بالرموش، علماً بأن التركيز تراوح بين 22 إلى 10500 نانوجرام من مركبات الفلورين العضوية في الجرام الواحد من المنتج، وبمعدل وصل إلى 264.

فمشكلة هذه الملوثات التي تدخل في تركيب منتجات الزينة والجمال وآلاف المنتجات الأخرى تكمن في أنها تهدد صحة الإنسان من خلال دخولها إلى أعضاء أجسامنا، إما بطريقة مباشرة عن طريق الاستنشاق والتنفس ثم إلى الجهاز التنفسي، أو عن طريق الفم ثم الجهاز الهضمي، أو عن طريق القنوات الدمعية، أو من خلال الامتصاص الجلدي والانتقال إلى الدم والدورة الدموية ومنها إلى كل خلية من خلايا أبداننا.

كما أن هذه الملوثات تنتقل بطريقة غير مباشرة إلينا من خلال صرفنا لهذه المنتجات إلى مياه المجاري التي تنتقل بعد المعالجة إلى المسطحات المائية أو من خلال الحمأة الجافة إلى التربة الزراعية، ومنها إلى الكائنات الحية النباتية والحيوانية في البر والبحر، وأخيراً تصل إلينا.

كذلك هناك دراسة مخيفة تسبب القلق للإنسان، وتثبت تهديد هذه المجموعة من الملوثات لصحة هذا الأجيال والأجيال اللاحقة، حيث وُجدت تراكيز مرتفعة منها في حليب الأم، حسب الدراسة المنشورة في مجلة علوم وتقنية البيئة في 13 مايو من العام الجاري تحت عنوان: "المركبات العضوية متعددة الفلور في حليب الأم". فقد تم تحليل 50 عينة من حليب الأم في الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت المفاجأة غير السارة والمؤلمة هي اكتشاف هذه الملوثات في جميع العينات، وعلاوة على ذلك فإن تركيز هذه الملوثات في حليب الأم كان مرتفعاً جداً تجاوز المعايير الخاصة بذلك بنحو 2000 مرة، أي تراوح التركيز من 52 إلى 1850 جزءاً من هذه الملوثات في التريليون جزء من حليب الأم.

 

فكل هذه الأبحاث العلمية الميدانية والمخبرية اضطرتْ المشَرِّع الأمريكي إلى العمل على وقف مَد وتوسع وتغلغل هذه الملوثات في شرايين عناصر بيئتنا وفي أعضاء أجسامنا، والبداية كانت من سحبها كلياً ومنعها من مئات المنتجات التي تستخدمها كل امرأة، وبعضهن بكميات مفرطة جداً وغير صحية، فهذا القانون يهدف في نهاية المطاف إلى حماية صحتنا جميعاً من الأمراض المستعصية. 

 

 

الخميس، 17 يونيو 2021

الحزام الرأسمالي في مواجهة الحزام الشيوعي


بدأ قطار الصين في التحرك بثباتٍ وببطء منذ أن دقت ساعة الصفر في أكتوبر عام 2013، وهو يجوب دول العالم بدءاً بدول شرق آسيا ثم القارة الأوروبية، وهذا القطار الصيني وهو يسير في طريقه الممنهج الطويل حَمَل معه حتى الآن نحو مائة دولة.

 

وقد أطلق الصينيون على هذا القطار "مبادرة الحزام والطريق" (Belt and Road Initiative)، وباختصار بي آر آي( BRI)، وسيكون هذا القطار مماثلاً لطريق الحرير التاريخي القديم الذي ربط بين دول العالم في الشرق، والشرق الأوسط، وأفريقيا، والغرب، ولكن هذا القطار الجديد سيكون تركيزه على الربط بين الدول عن طريق إنشاء ممرات تجارية آمنة جديدة تربط بين الصين وأفريقيا وباقي الدول، وتعبر القارات، من شرق آسيا إلى أوروبا، وذلك من خلال تطوير وإنشاء البنية التحتية للدول الفقيرة خاصة، من طرق سريعة وممهدة، وموانئ بحرية، وسكك الحديد، وخطوط الأنابيب، وخطوط السفن البحرية، إضافة إلى مناطق صناعية مشتركة.

 

وهذه المبادرة التي دشنتها الصين ظاهرها الرحمة وباطنها السيطرة الناعمة على هذه الدول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبخاصة بالنسبة للدول النامية الفقيرة والمستضعفة التي تفتقر إلى الموارد المالية والبشرية الفنية والخبرات العالية، حيث تقوم الصين بتمويل ودعم مشاريع البنية التحتية في هذه الدول المحتاجة عن طريق قروضٍ حسنة وميسرة طويلة الأمد، ومن خلالها تكون هذه الدول رهن إشارة الصين في أية لحظة، وتحت هيمنتها المباشرة، وتأثيرها الناعم والقوي سياسياً وفكرياً وثقافياً، بل ويمنحها النفوذ على هذه الدول دون نزاعات أو حروب، وبخاصة عندما تكون هذه الدول غير قادرة على سداد ديونها الكبيرة، فتغرق رويداً رويداً في بحر هذه الديون التي تتراكم عليها سنة بعد سنة. وعلاوة على ذلك فإن القطار الصيني وصل إلى دول الخليج في أبريل 2021 عندما كان على متنه وزير الخارجية الصيني حيث وقف القطار في ست محطات في الشرق الأوسط منها السعودية والإمارات وتركيا وإيران والبحرين وعمان، بهدف التعاون في إنشاء وبناء الحزام والانضمام إليه، إضافة إلى النمو الاقتصادي في هذه الدول ومحاربة وباء كورونا العظيم.

 

فهذا القطار الصيني الشيوعي الذي يسير تحت غطاء التنمية وتعزيز الاقتصاد الدولي، والشراكة مع الدول النامية وتحسين وازدهار حياة شعوبها، أيقظ المعسكر الغربي الرأسمالي من غفوته بعد قرابة تسعة سنوات من تدشينه، وأحيا فيه روح المنافسة والمواجهة لهذا القطار، فكان لا بد من البديل الأكثر جاذبية وإغراءً للدول النامية والفقيرة لكي تركب أيضاً في الوقت نفسه القطار الرأسمالي، أو أن تنزل من القطار الصيني الشيوعي وتركب في القطار الأمريكي الغربي.

 

فجاء القطار الأمريكي الغربي الذي تم تقديمه إلى العالم من البيت الأبيض في 12 يونيو أثناء قمة الدول السبع الكبرى(جي 7) التي عُقدت في مدينة كورنوال(Cornwall) الساحلية في بريطانيا في الفترة من 11 إلى 13 يونيو من العام الجاري، من خلال البيان تحت عنوان: "الرئيس بايدن وقادة الدول السبع يدشنون شراكة في مبادرة "إعادة بناء عالم أفضل". فقد أَطلقَ البيت الأبيض على هذا القطار باسم قطار "إعادة بناء عالمٍ أفضل"(Build Back Better World)، أو باختصار بي 3 دبليو(B3W)، وسماه بالمبادرة الخضراء النظيفة( Clean Green Initiative). فمن مواصفات هذا القطار البديل التي تختلف عن القطار الصيني هي أنه، كما ورد في نشرة البيت الأبيض، يعكس القيَّم والمبادئ الغربية، وأنه أكثر التزاماً بالأسس والمعايير البيئية، وأشد وضوحاً من ناحية الشفافية والمحاسبة، وأكثر استدامة مالياً، وبيئياً، واجتماعياً.

 

وتم تدشين هذا القطار رسمياً من قادة الدول السبع وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، واليابان، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، وجاء ذلك في الإعلان والبيان الختامي للقمة تحت عنوان: "إعلان قمة كاربيس باي(Carbis Bay)، جدول الأعمال المشترك لعمل دولي من أجل إعادة بناء أفضل".  والبند رقم (67) قدَّم تفاصيل هذا القطار الرأسمالي الغربي، حيث جاء فيه بأن هناك حاجة لبناء بنية تحتية في الدول محدودة ومتوسطة الدخل والتي تضررت كثيراً من الوباء، كما سيكون مَدْخَلُنا وأسلوبنا في تمويل البنية التحتية مختلفاً من حيث نوعية وجودة البنية التحتية وأدوات الاستثمار، وسنقوي ونعزز من شراكتنا مع الدول النامية ومساعدتهم ودعمهم لتلبية احتياجاتهم من البنية التحتية، وسنقوم بالعمل سوياً من أجل إعادة بناء أفضل للعالم، وبالتحديد في مجالات أربعة هي مواجهة تأثيرات التغير المناخي، والأنظمة الصحية والأمن، وتطوير حلول رقمية، والمساواة بين الجنسين والتعليم. ومن بين هذه المجالات ستكون الأولوية لمبادرة النمو الأخضر والنظيف لتحقيق تحول مستدام وأخضر وبما يتوافق مع اتفاقية باريس للتغير المناخي، وجدول الأعمال 2030. ومدخلنا في تحقيق هذه الأهداف وتنفيذ المبادرة سيعتمد على المبادئ الرئيسة التالية وهي رؤية مبنية على القيَّم من ناحية تنمية البنية التحتية بنظام شفاف ومستدام مالياً، وبيئياً، واجتماعياً، ثم التعاون الشديد والتنسيق مع الشركاء ومنهم الدول النامية، كذلك وضع معايير حازمة ذات جودة عالية  لإنشاء البنية التحتية من جميع النواحي البيئية والاجتماعية والمالية والعمالية، كذلك تعزيز التمويل متعدد الأطراف والشراكة الاستراتيجية بين كافة الدول المعنية.

وخلاصة نجد أن مبادرة الدول السبع تدَّعي بأنها أفضل من مبادرة الصين في أنها مستندة على قيم ومبادئ ذات شفافية عالية، وجودة مرتفعة في التنفيذ، كما أنها مستدامة بيئياً، واجتماعياً، ومالياً، وأن هذه المبادرة هي البديل الديمقراطي للمبادرة الصينية الدكتاتورية الشيوعية التي تستغل حاجة الشعوب الفقيرة للتنمية.

وفي تقديري فإن كلتا المبادرتين، الرأسمالية الغربية الديمقراطية من جهة، والصينية الشيوعية من جهة أخرى لا تهمها صحة الشعوب، ولا تأخذ في الاعتبار ازدهار الحكومات، وتطوير العمليات التنموية في الدول الفقيرة والنامية، فالدول الغنية المتقدمة في الغرب والشرق لا يوجد في قاموسها وفي مبادئها: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً"، فهي جميعها تعمل لتنمية وتوسيع دائرة مصالحها وقدراتها، وتعزيز هيمنتها، وتقوية نفوذها، تارة باستخدام القوة العسكرية واحتلال واستعمار الدول وسرقة مواردها كما كان في السابق، وتارة باستخدام أدوات ووسائل القوى الناعمة الحديثة تحت إسم المساعدات المالية، والدعم الفني والتقني، وتقديم الأدوية واللقاحات.

 

ولذلك عند اختيارنا لهاتين المبادرتين علينا أن نتبع ونشترك في ما هو أصلح لديننا، ودنيانا، وآخرتنا، سواء من الغرب أو الشرق.

 

الثلاثاء، 15 يونيو 2021

غاز وديع يُشعل أزمة عالمية

غاز آمن ووديع ومستقر لا لون له وموجود في الهواء الجوي النظيف والسليم الذي خلقه الله سبحانه وتعالى باعتدال، وتوازن دقيق، وبقدرٍ محدود ومعلوم، ولا يمكن للإنسان أن يعيش بدونه، كما أن حياة الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية تعتمد عليه، واستدامة كوكبنا مرتبطة بوجوده، ولكن في الوقت نفسه تسبب هذا الغاز في انفجار أكبر أزمة عالمية عرفها الإنسان وواجهها حتى يومنا هذا، وهي من أشد الأزمات تنكيلاً بالبشرية جمعاء، وأكثرها تعقيداً، ومستعصية على الحل.

 

هذا الغاز هو ثاني أكسيد الكربون الذي لا يزيد تركيزه في الهواء الطبيعي غير الملوث والصافي والنظيف عن 250 جزءاً من هذا الغاز في المليون جزء من الهواء الجوي، وخلقه الله جلَّتْ قدرته في الهواء ليؤدي مهمات كثيرة وحيوية ضرورية لاستدامة حياة الإنسان والكائنات الأخرى على سطح الأرض، إضافة إلى وظيفته الكبرى في استدامة عطاء وإنتاجية كوكبنا. فهذا الغاز هو مصدر الحياة للنباتات التي تقوم بامتصاصه لإنتاج الغذاء، أو ما يُطلق عليه بعملية التمثيل الضوئي، وهو في الوقت نفسه يحدث التوازن المطلوب والمعتدل للمناخ ودرجة الحرارة على سطح الأرض.

 

ولكن خلال العقود القليلة الماضية تحول هذا الغاز النافع من عامل بناءٍ واستقرار للإنسان وكوكب الأرض إلى عامل هدمٍ وفساد، وتحول من نعمة على البشرية إلى نقمة وبلاء، كما تحول من غاز ضروري للإنسان والمخلوقات الأخرى إلى غاز ضار ملوث للبيئة والهواء الجوي ومهلك للحياة على الأرض، بل ودخل الإنسان منذ أكثر من ثلاثين عاماً على المستويين القومي والدولي في معارك محتدمة وماراثونية بسبب هذا الغاز.

فما الذي حدث لهذا الغاز حتى يسبب كل هذه التحولات السلبية العصيبة؟

 

مشكلة هذا الغاز تكمن في أن أي نشاط يقوم به الإنسان منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، فإنه يُطلق هذا الغاز إلى الهواء الجوي، فمصادر انبعاث هذا الغاز لا تعد ولا تحصي وموجودة في كل دول العالم بدون استثناء، الغنية منها والفقيرة، والمتقدمة منها والنامية، والأحجام التي تدخل إلى الهواء الجوي من هذه المصادر هائلة ولا يمكن تصورها وحسابها، ولم تخطر على بال أحد، حتى إنها حسب آخر التقديرات بلغت قرابة 40 بليون طن متري سنوياً. أما على مستوى الدول، فجميعها يستخدم الفحم، أو الغاز الطبيعي، أو مشتقات النفط لتوليد الكهرباء، أو تشغيل المصانع والمعامل والورش، أو استخدام الطائرات، وأما على مستوى الأفراد فكل إنسان يعيش على سطع الأرض يحتاج إلى الكهرباء، والكثير له سيارته الخاصة، وفي كل هذا المصادر يحترق الوقود الأحفوري ويطلق غاز ثاني أكسيد الكربون، ولذلك مع مرور مئات السنين وبسبب عدم تحلل الغاز وتراكمه في الغلاف الجوي لمئات السنين، ارتفع تركيز هذا الغاز إلى مستويات عالية جداً سبب القلق الشديد للإنسان، وأدى إلى وقوع ظواهر مدمرة للبشرية على رأسها ظاهرة التغير المناخي، أو ما تعرف أيضاً بالاحتباس الحراري، والبيت الزجاجي. وهذه الظاهرة من تداعياتها سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حمضية المياه السطحية، وغيرها من الانعكاسات شديدة الوطء على الإنسانية وعلى كوكبنا من الناحية البيئية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، وعندها انطبق المثل الشعبي على هذا الغاز، والذي يقول "اللي يزيد عن حده ينقلب ضده".

 

فمستويات هذا الغاز الوديع تغيرت بشكلٍ جذري وارتفع بأحجام مطردة على مدى العقود الماضية. فلو اعتبرنا أن تركيز ثاني أكسيد الكربون في الهواء البكر الذي خلقه الله كان 250 جزءاً في المليون، فإن هذا التركيز ارتفع الآن بشكلٍ تدريجي متسارع. فحسب محطة ماونا لوا المرجعية الموجودة في أعلى قمة جبل في هاواي(Mauna Loa Atmospheric Baseline Observatory) والتي بدأت قياس تركيز ثاني أكسيد الكربون منذ عام 1958 فإن المعدل السنوي لمستوى الغاز، على سبيل المثال كان في عام 2014، 400 جزء من غاز ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء الجوي، وفي عام 2019 بلغ 409.8، ثم ارتفع في يونيو عام 2020 إلى 417.1، وأخيراً في السابع من يونيو من العام الجاري حطم الأرقام القياسية السابقة فبلغ 419.1 جزء في المليون.  

 

فهذه الأنماط المتزايدة من تركيز ثاني أكسيد الكربون المهددة لأمن الإنسان والحياة الفطرية ولسلامة الكرة الأرضية جمعاء، حرَّكت المجتمع الدولي لمواجهة هذه الظاهرة العالمية العقيمة وإيجاد الحلول الجماعية المشتركة لكي تدخل كل دولة حسب إمكانياتها ومواردها لمواجهة هذا العدو الجديد غير المتوقع للبشرية. وأول تحرك فاعل قام به المجتمع الدولي تمثل في الموافقة على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي في عام 1992 في قمة الأرض التاريخية التي عقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية. ثم بعد خمس سنوات من المفاوضات الدولية نجح المجتمع الدولي في الوصول إلى بروتوكول كيوتو في عام 1997 والذي يلزم الدول الصناعية المتقدمة ولأول مرة إلى تحديد أهداف معينة واضحة والالتزام بها لخفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون.

 

ولكن هذه النجاحات الدولية واجهت إخفاقات عظيمة جعلتها ترجع إلى النقطة التي بدأت منها، حيث رفض الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن المصادقة على البروتوكول. فأعاد المجتمع الدولي الكرَّة مرة ثانية، وأجْمَع بعد عشرين عاماً على تفاهمات باريس لعام 2015، والتي وقع عليها أوباما في أغسطس 2016، فجاء ترمب ونسفها كلياً بانسحابه من الاتفاقية في الأول من يونيو 2017، ثم رجع إليها أخيراً الرئيس الأمريكي بايدن.

 

وهذا الغاز الوديع جعل المجتمع الأمريكي في حد ذاته يدخل معركة أخرى موازية، وتتمثل في تصنيف هذا الغاز. فهل هو ملوث للهواء الجوي أم لا؟ وهل يضر هذا الغاز بصحة الإنسان؟ وهل يجوز وضع هذا الغاز ضمن قائمة الملوثات التي حدَّدها قانون الهواء النظيف وهو أول أكسيد الكربون، وغاز الأوزون، وأكاسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، والجسيمات الدقيقة بأنواعها، والرصاص. وقد تم حسم هذه القضية عندما أصدرت المحكمة العليا حُكماً في عام 2007 في القضية المعروفة بماساشوستس ضد وكالة حماية البيئة بأن ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى المتهمة بالتغير المناخي تُعد "ملوثات"، أي تدخل ضمن قائمة الملوثات التي وردت في قانون الهواء النظيف. وهذا الجدل الكبير الذي أشغل المجتمع الأمريكي يكمن في أن وضع ثاني أكسيد الكربون ضمن قائمة الملوثات يعني وضع مواصفات مُلزمة لهذا الغاز في انبعاثات المصانع ومحطات توليد الكهرباء، إضافة إلى مواصفات ومعايير ثانية لتركيز وجوده في الهواء الجوي، وكل ذلك يعني وضع أعباءٍ اقتصادية كبيرة على الشركات المعنية بكل مصادر انبعاث الغاز من مصانع، وسيارات، وطائرات، وغيرها.

 

فهذا الخلل البسيط الذي أحدثه الإنسان في النظام البيئي للهواء الجوي، والذي تمثل ليس في إضافة ملوثات جديدة إلى الهواء، وإنما فقط في "زيادة" تركيز إحدى المواد الموجودة أصلاً وطبيعياً في الهواء، خلق أزمة خانقة مستمرة، لا يستطيع الخروج منها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فمتى سيتعلم الإنسان على ألا يعبث في بيئته إلا بعلمٍ وسلطان وخبرة طويلة؟

الخميس، 10 يونيو 2021

المرض الغامض الخاص بالدبلوماسيين الأمريكيين


نشرتُ مقالاً في صحيفة أخبار الخليج في 29 أكتوبر 2017  تحت عنوان:" ماذا حَدثَ لموظفي السفارة الأمريكية في كُوبا؟"، أي قبل قرابة أربع سنوات. وفي هذا المقال حاولتُ التعرف على مرضٍ غامض وجديد تعرض له الموظفون الدبلوماسيون الذين يعملون في السفارة الأمريكية في مدينة هافانا في كوبا، والذي يتمثل في أعراض غير محددة وغير واضحة، وتتلخص في سماع أصواتٍ غير عادية مرتفعة، وذبذبات مؤذية وقوية، ثم الشعور بآلام في الرأس والأذن، وصداع شديد، وصعوبة في النوم، وعدم القدرة على التركيز، والشعور بالإرهاق والتعب والغثيان، إضافة إلى الإصابة بمشكلات في الرؤية، وخلل في التوازن، وفقدان تدريجي في السمع.

 

ومنذ ذلك الوقت لم يستطع الأطباء والعلماء من كشف ملابسات هذا المرض الغامض والأعراض غير المعروفة التي أصابت حتى الآن 130 دبلوماسياً يعملون في السفارات الأمريكية في كوبا والصين، ولم ينجحوا من فك رموز هذا اللغز الصحي المحير، فعجزوا حتى الآن من تحديد هوية المرض، ومصدره، وأسبابه، فهذا المرض الذي كان غامضاً عندما كتبتُ عنه، مازال غامضاً وأنا أكتبُ عنه اليوم.

 

وهذه القضية الصحية التي لم يشهدها الأطباء من قبل، ولم يسمعوا عن أعراضٍ لمرض مشابه لهذا المرض، تخرج فوق السطح بين الحين والآخر من قبل الأطباء والمختصين حيناً، ومن قبل وسائل الإعلام الأمريكية حيناً آخر، واليوم، في السابع من يونيو من العام الجاري، جاء إحياء القضية من جديد من السلطة التشريعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد من مجلس الشيوخ، حيث وافق المجلس بالإجماع على قانون يُقدم الدعم والمساعدة المالية للذين يعانون من "ظاهرة هافانا" الغامض(Havana Syndrome)، وجاء التشريع الذي أُطلق عليه قانون هافانا تحت عنوان: "مساعدة الضحايا الأمريكيين المتأثرين بالهجمات العصبية"( Helping American Victims Afflicted by Neurological Attacks).

 

وهناك عدة روايات، أو نظريات تفسر هذه الظاهرة الصحية، فأما الرواية الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية حسب البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في 29 سبتمبر 2017، فقد أكد على تعرض الموظفين لنوعٍ من السلاح أُطلق عليه "الهجوم الصوتي"، أو "الهجوم السمعي"(sonic attack)، ولكن دون تقديم التفاصيل والبراهين العلمية، سوى نشر هذه الأصوات في 14 أكتوبر 2017 في وسائل الإعلام.

 

وأما النظريات العلمية التي حاولت تفسير هذه الحالة الصحية الغريبة فهي قليلة جداً، منها الدراسة التي أُجريت في جامعة بنسلفانيا الأمريكية على الدبلوماسيين القادمين من كوبا، وبتكليفٍ من وزارة الخارجية، حيث أشارت إلى أن حالة المصابين تشبه حالات وقوع "الارتجاج البسيط في المخ" عند حدوث أية صدمة خفيفة يتعرض لها المخ، ولكن لم يصلوا إلى أية نتيجة واضحة وقوية، ولم يقدموا دليلاً دامغاً على أسباب ومصدر ظهور هذه الحالة، علماً بأن هذا البحث نُشر في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين في 15 فبراير 2018. وأما الباحثون في جامعة متشجن الأمريكية فأرجعوا سبب هذه الظاهرة الصحية النادرة في كوبا إلى الأمواج الصوتية، أو الهجوم الصوتي، ولكن السبب مازال مجهولاً.

 

كذلك هناك دراسة نُشرت في 20 مارس 2018 في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين حول "بيانات عصبية للمسؤولين الحكوميين الذين أفادوا لتعرضهم لظواهر صوتية وحسية في كوبا"، حيث تم فحص وتقييم 21 دبلوماسياً أمريكياً كانوا يعملون في كوبا، وأشارت الدراسة إلى أن شكوى هؤلاء العاملين في السفارة الأمريكية في كوبا لها علاقة بفقدان الذاكرة، وضعف القدرة على التركيز، وفقدان التوازن البدني، ومشكلات في الرؤية، والصداع وعدم القدرة على النوم، وفسرت الدراسة هذه الحالة بتعرض هؤلاء الأفراد لخلل في شبكات المخ، وأفادت بأن هذه الأعراض تشبه من تعرض لحادثة ارتجاج في المخ جراء حادثة سيارة، أو السقوط من مكان مرتفع، أو حدوث انفجار، ولكن الدراسة لم تحدد مصدر وأسباب هذه الحالة المرضية.

 

وهناك تفسير طريف لهذه الحالة المرضية الغامضة ونقلته صحيفة يو إس أيه توداي في السابع من يناير 2019، حيث أفاد تقرير الصحيفة بأن بعض العلماء يعتقدون بأن هناك "صراصير"( crickets)، تُصدر أصواتاً عالية وشديدة الحدة تُشبه إلى حدٍ كبير الأصوات التي سمعها الوفد الدبلوماسي الأمريكي في كوبا، ويعرف علمياً تحت إسم صرصور(Anurogryllus celerinictus )، علماً بأن وزارة الخارجية الأمريكية نشرت لوسائل الإعلام في عام 2017 تسجيلاً صوتياً لما سمعه فعلياً الوفد الأمريكي. وهذا النوع من الصراصير ذي الذيل القصير( Indies short-tailed cricket)موجود في جاميكا وفي كوبا، علماً بأن هؤلاء العلماء عرضوا نتائج دراستهم في الرابع من يناير 2019 في المؤتمر السنوي لجمعية الأحياء المقارنة والمتكاملة.

 

وآخر تفسير لهذه الظاهرة الصحية الغريبة، وحتماً لن يكون الأخير، تم اكتشافه مؤخراً من خلال فحص الأعصاب وإجراء تقييم وتحليل شامل لبناء وتركيبة كافة أجزاء المخ من خلال أخذ صور محددة للمخ باستخدام جهاز الرنين المغنطيسي المعروف(إم آر آي)، حيث نُشرت تفاصيل نتائج الدراسة في 23 يوليو 2019 في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين تحت عنوان: "اكتشافات بعد التحليل العصبي لموظفي الحكومة في كوبا".

 

فقد قامت هذه الدراسة بمقارنة حالة أربعين من الدبلوماسيين الأمريكيين الذين يعانون من بعض الأعراض المرضية التي تحدثنا عنها مع 48 أمريكياً أصحاء من غير المصابين، وأفاد الباحثون إلى وجود فروقٍ جوهرية بين العينتين في المخ من ناحية حجم الجزء الكلي الأبيض، وحجم المنطقة البيضاء والرمادية، والبناء الميكروسكوبي للمخ، إضافة إلى اختلافات في الجزء المختص بالسمع والبصر. فعلى سبيل المثال، معدل الحجم الكلي للمادة البيضاء كان أصغر في المرضى مقارنة بالأصحاء، فالمرضى كان الحجم 542.22 سنتيمتر مكعب والأصحاء 569.61، أي أصغر بنحو 5%، كذلك كانت هناك اختلافات وفروق بين عينة المرضى والأصحاء بالنسبة حجم المادة البيضاء والرمادية.

كذلك أفادت الأكاديمية القومية للعلوم، والهندسة، والطب في ديسمبر 2020 بعد إجراء التحقيق في هذه القضية، وبتكليف من وزارة الخارجية في عام 2020، بأن هؤلاء الدبلوماسيين قد تعرضوا لأشعة الميكروويف، وهي أيضاً تُعرف بترددات الراديو(radio frequency) المستخدمة في أفران الميكروويف المنزلية.

وفي الثالث من يونيو من العام الجاري نشرتْ صحيفة الواشنطن تايمس مقالاً نقلت فيه شهادات أحد العاملين في المخابرات الأمريكية(سي آي إيه) الذي أفاد بأنه سافر إلى موسكو عام 2017، وعند استيقاظه من النوم أُصيب بحالة من الدوار ولم يتمكن من الوقوف على رجليه، كما أحس بشعور غريب في أذنيه، وأشار التقرير بأن هذه الحالة تشبه الحالة التي تعرض لها الدبلوماسيون الأمريكيون في كوبا والصين. 

وكل هذه الدراسات والتقارير لا تُقدم الدليل العلمي الكافي، ولا تعطي البرهان الشافي عن أسباب ومصدر هذه الحالة المرضية الغريبة والغامضة للدبلوماسيين الأمريكيين، فهل هذه فعلاً حالة صحية مرضية جديدة، أم ورقة سياسية تستغلها أمريكا لحاجة في نفس يعقوب؟