الخميس، 28 يناير 2021

شُح المصايد السمكية مشكلة أمنية


في الماضي الغابر، ومازال حتى يومنا هذا تتعمق الخلافات وتحتدم بين الدول على الثروة المائية المشتركة، وتتفاقم الأزمات على حصة وحق كل دولة من هذه الثروة العظيمة التي لا حياة بدونها، ولا تنمية، ولا استقرار اقتصادي أو أمني، كما هو الحال أخيراً بالنسبة لسد النهضة القائم على نهر النيل في أثيوبيا، والنزاع السياسي العصيب القائم بين أثيوبيا والسودان ومصر حول تقاسم هذا المورد الحيوي.

 

وفي المقابل هناك صراعات سياسية وأمنية قد تشتعل ثم تتفجر حول الأمن الغذائي المتمثل في الصيد السمكي البحري والخلافات حول مصايد الأسماك الشحيحة المشتركة بين الدول في بحار العالم.

 

فنشهد اليوم، على سبيل المثال صراعاً سياسياً حاداً، وجدلاً واسعاً بين بريطانيا من جهة والاتحاد الأوروبي من جهةٍ أخرى والمتعلقة بمفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبالتحديد في مجال الوصول إلى حصة عادلة ومقبولة لكل دولة من هذه الثروة السمكية البحرية المتجددة التي لها أبعاد كثيرة هامة منها البعد المتعلق بالأمن الغذائي، والسياسي، والأمني، والاجتماعي لكل الدول التي تطل على بحر الشمال. فقد رفض الاتحاد الأوربي في 23 ديسمبر من العام الجاري العرض المقدم من بريطانيا بشأن كافة القضايا المتعلقة بالصيد البحري المشترك بين جميع الدول، وسبل التقاسم العادل لحقوق وحصة الصيد لهذا المورد الطبيعي الحيوي.

 

وهذه الخلافات السياسية الأمنية على المصايد السمكية، والمخزون السمكي المحدود كمياً والمتدهور نوعياً، موجودة ومزمنة منذ زمنٍ بعيد بين بعض الدول في مياه الخليج العربي، وتظهر فوق السطح جلية واضحة، وتنكشف إلى عامة الناس بين الحين والآخر، فتتحول إلى قضية سياسية وأمنية حادة، كما هو الحال هذه الأيام بين البحرين وقطر.

وفي الواقع فإن النزاعات والخلافات بين الدول على الموارد والثروات الطبيعية، كالثروة المائية والثروة السمكية لا تندلع ولا تنشب إلا في حالتين. أما في الحالة الأولى فتبدأ الصراعات عندما يكون هذا المورد الطبيعي شحيحاً وقليلاً أصلاً، فلا يكفي لاحتياجات شعوب وحكومات الدول المجاورة المعنية بهذه الثروة الفطرية الطبيعية، ولذلك كل دولة تحاول أن تسحب النصيب الأكبر من هذه الثروة تجاهها، إما بالمفاوضات الثنائية والتحكيم الدولي والطرق السلمية، وإما بالقوة في بعض الأحيان، فيكون عندئذ للمنتصر نصيب الأسد من هذه الثروة المتنازع عليها. وأما في الحالة الثانية فتنشب المعارك السياسية بين الدول عندما تقوم إحدى الدول المعنية بهذه الثروة بممارسات وسلوكيات تؤذي هذه الثروة من الناحية النوعية ومن ناحية جودتها وصلاحية استعمالها، فتقوم هذه الدولة بتلويث هذا المورد الطبيعي وصرف المخلفات السائلة والصلبة والغازية فيها، مما يصعب استعمالها مباشرة من الدول الأخرى بدون القيام بعمليات مكلفة جداً تتمثل في التصفية والتنقية وإزالة الملوثات والمخلفات منها، فتسبب عندئذٍ أزمات حادة بين كل هذه الدول المعنية، كما هو الحال بالنسبة للهواء الجوي المشترك الذي يعبر الحدود الجغرافية بين الدول، أو تلوث المسطحات المائية المشتركة وتسمم الكائنات الفطرية الحية التجارية والغذائية التي تعيش فيها، كالأنهار والبحيرات والبحار.

 

وأما بالنسبة لشح الموارد كمياً ونوعياً، كالثروة السمكية، على سبيل المثال، ففي بعض الحالات تكون أيدي الإنسان وتصرفاته هي المسؤول الأول والمباشر عن انخفاض أحجامها، وقلة كمياتها، بسب البرامج التنموية أحادية الجانب والمعوقة التي يقوم بها، والتي لا تأخذ في الاعتبار الجوانب المتعلقة بحماية البيئة والحفاظ على ثرواتها الحية وغير الحية لهذا الجيل والأجيال القادمة، فتنصب برامجه نحو تحقيق الجانب الاقتصادي البحت، وإهمال الجوانب الأخرى الحيوية الضرورية لتحقيق تنمية مستدامة عادلة ومتوازنة.

 

ففي البحرين، هناك الكثير من الممارسات غير السليمة التي قُمنا بها في العقود الماضية منذ بدء الحركة التنموية الحديثة في البلاد، وأصبحنا الآن نعاني من سلبياتها، ونشكو من أخطائها. ومن أكثر الأمثلة وضوحاً هو التدهور النوعي والكمي للثروة السمكية، والقضاء على البيئات الطبيعية والموائل الفطرية التي تعيش عليها هذه الثروة السمكية، فتنمو وتتكاثر تحت ظلالها.

 

ومن أشد العمليات وطأة على البيئة البحرية برمتها، ومن أكثرها تدميراً للثروة السمكية ومصائد الأسماك التقليدية المعروفة هم عمليات الحفر البحري لاستخراج الرمل، وعملية دفن السواحل البحرية الأكثر إنتاجاً وعطاءً للثروة السمكية ولاستدامة حياة الأحياء البحرية بشكلٍ عام.

أما عمليات الحفر البحري فكانت تتم لعدة أغراض منها استخراج الرمل لأعمال التشييد والبناء، أو تعميق وحفر القنوات البحرية لتوسعة وتعميق القنوان المائية لمرور السفن العملاقة، وبخاصة بدءاً من الخمسينيات من القرن المنصرم، فقد أُجريت عمليات الحفر بشكلٍ عشوائي غير مستدام وفي معظم سواحل البحرين الشمالية والشمالية الشرقية ثم الشمالية الغربية، حتى تم فقد السيطرة عليها كلياً وعلى أسلوب عملية الحفر والوسائل الجائرة المستخدمة لذلك، فقد أصبحت تداعياتها الخطيرة مشهودة حتى للمواطن البسيط العادي، وكانت هذه المردودات والأضرار السلبية منحصرة في جانبين هامين خطيرين. فالجانب الأول متعلق بالبيئة البحرية وبجودة مياهها والكائنات البحرية التي تعيش في منطقة الحفر، أو بالقرب منها، فعمليات الحفر كانت لها مردودات سلبية طويلة الأمد هددت الثروة البحرية بشكلٍ عام، منها تدهور جودة المياه عن طريق زيادة الرواسب الترابية وارتفاع مستوى عكارة الماء وانخفاض درجة الرؤية، وانعكاس كل هذه السلبيات على الكائنات البحرية التي كانت تعيش في مناطق الحفر أو بالقرب منها، إضافة إلى ارتفاع ملوحة المياه الجوفية الساحلية بسبب عمليات الحفر، وبالتحديد في المناطق البحرية التي كانت تقع تحتها طبقات المياه الجوفية.

 

وأما عمليات الدفان التي بدأت في الخمسينيات من القرن المنصرم، ومازالت مستمرة، فهي أعتبرها عمليات تدمير شامل للبيئة البحرية التي يتم دفنها، فهذه البيئة تنتهي إلى الأبد، وينتهي معها كل كائن حي نباتي أو حيواني، صغير أو كبير عاش في تلك المناطق.

 

ولذلك فإن عمليات الحفر والدفان، إضافة إلى الصيد العشوائي المفرط والجائر لسنوات طويلة، وتلوث البحار من مخلفات المصانع ومحطات معالجة مياه المجاري، كلها تراكمت معاً وتجمعت أضرارها الجسيمة، فأدت إلى تدهور مصايد الأسماك، ونجم عنها انخفاضاً شديداً في أعداد وأنواع الأسماك التي هي الغذاء الرئيس للمواطن البحريني وأساس تحقيق الأمن الغذائي المستدام، فاختفتْ أنواع عدة من الأسماك التجارية المشهورة في البحرين وانخفضت أعداد أنواعٍ أخرى.

 

فهذه الحالة المتمثلة في تدمير وتدهور مصايد الأسماك وشح الثروة السمكية في مياهنا خلقت مشكلة اقتصادية، واجتماعية، وتحولت مع الوقت إلى مشكلة سياسية وأمنية.

الخميس، 21 يناير 2021

جماعات اليمين المتطرف تخترق أجهزة الأمن الأمريكية

 

منذ وقوع المحاولة الانقلابية في السادس من يناير من العام الجاري في مبنى الكونجرس الأمريكي من قبل جماعات تفوق العرق الأبيض واليمين المسيحي المتطرف والعنيف بمختلف أسمائها وأهدافها، بدأت تنكشف الكثير من الحقائق التي ربما كانت غائبة عن وعي وإدراك المجتمع الأمريكي عامة، أو أن السلطات الأمنية والسياسية كانت تتجاهلها وتغض الطرف عنها، ووضعت بذلك عمداً غمامة مُصطنعة على أعينها، وصوبت بوصلتها الأمنية كلياً نحو التطرف الإسلامي والجماعات الإسلامية المتشددة والعنيفة، ولذلك كانت هذه السلطات الأمنية ذات الاختصاص بالإرهاب الداخلي أو الخارجي تُوجه جل وقتها وعنايتها وجهودها ومواردها المالية والبشرية نحو المتشددين من بعض المسلمين في داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو من خارجها، فتركت الساحة مفتوحة على مصراعيها لجماعات اليمين المسيحي، والميليشيات المسلحة لكي تنمو، وتترعرع، وتنشط، وتوحد وتنظم صفوفها، وتخرج إلى العلن في وضح النهار دون حياء، أو خوف، سواء في الداخل الأمريكي أو الخارج.

 

فمنذ سنوات وهذه الجماعات تقليدياً متغلغلة في الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة الأمريكية، سواء في أجهزة الشرطة في المدن والولايات، أو في الحرس الوطني والجيش الأمريكي، ولكنها كانت بمثابة الخلايا النائمة التي تنتظر الوقت المناسب، والجو السياسي الملائم لكي تضرب الضربة القاضية، وتنقض فجأة على فريستها، فطوال العقود الماضية لم تكن الأجواء السياسية مهيئة لهذه الجماعات، ولم يكن لهم الغطاء السياسي الشرعي القوي والمتنفذ الذي يقف مع أفكارهم المتطرفة ومواقفهم المتشددة، فيساندهم ويبرر عملياتهم العنيفة والمسلحة، ويزودهم بالوقود الكافي لاستمرار وجودهم وتنفيذ عملياتهم، حتى جاء الرئيس السابق ترمب فرصف لهم الأرضية المناسبة، ومهد لهم الطريق للخروج إلى العلن بمواقفهم وأفكارهم، وشجعهم على القيام بأعمال العنف المسلحة القاتلة، فلم يقم بانتقادها، أو إدانتها وشجبها.

 

فهذا الاختراق الأمني للوكالات والأجهزة الأمنية بدأ ينكشف يوماً بعد يوم بوضوح أكثر ويظهر فوق السطح بمؤشرات عدة، حتى أن مكتب التحقيقات الفيدرالية(إف بي آي)  انتبه إلى هذه الظاهرة الأمنية النائمة، وتبنى خطوات استباقية للحد من قدرتها، وشل حركتها، ومنعها من القيام بأية أعمال تهدد الأمن القومي، وبخاصة قبيل وأثناء فترة تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن.

 

فعملية تنصيب الرئيس هذه المرة كانت غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، فكانت محفوفة بالصعاب الأمنية، وتحيطها التهديدات الداخلية من احتمال قيام ميليشيات اليمين المسيحي المتطرف الداعم للرئيس السابق ترمب بعمليات انقلاب، أو اغتيال، أو تخريب عملية التنصيب، ولذلك اتخذت السلطات الأمنية إجراءات غير مسبوقة ومشددة، وكلفت أكثر من 25 ألف من الحرس الوطني القادمين من ولايات مختلفة، ومن خلفيات متعددة وثقافات وأفكار قد تكون متطرفة ومتشددة، وتأثرت بنظرية المؤامرة في الانتخابات الرئاسية وبتصريحات ترمب وتعليماته وتوجيهاته المباشرة والواضحة  لمناصريه ومؤيديه من قاعدته الانتخابية التي يعتمد عليها من اليمين المسيحي في الدفاع عن الانتخابات والوقوف في وجه من سرقوا وزوروا هذه الانتخابات.

 

وقد عبَّر وزير الجيش الأمريكي ريان ماكارثي(Ryan McCarthy) في مقابلة مع الأسوشياتد برس(The Associated Press) عن قلقه الشديد واعترافه الضمني من اختراق المتشددين من اليمين المسيحي المتطرف للأجهزة الأمنية عامة وتهديدها للأمن الداخلي عامة ومن احتمال القيام بأعمال عنف أثناء حفل التنصيب، سواء من الجنود والشرطة الموجودين منذ سنوات ويحملون أفكاراً وآراء لها علاقة بتفوق العرق الأبيض، أو من الذين تم تجنيدهم حديثاً وتأثروا بنظرية مؤامرة ترمب في سرقة الانتخابات وتزويرها. فقد أكد وزير الجيش في 17 يناير عن اشتراك بعض الجنود وبعض أفراد الحرس الوطني في مظاهرات اقتحام مبنى الكونجرس في السادس من يناير وتم اعتقال البعض منهم، ولذلك فإن الجهات الأمنية المختصة وعلى رأسها مكتب التحقيقات الفيدرالية، تقوم بعملية تمشيط شاملة ودقيقة للسيرة الذاتية وملفات أكثر من 25 ألف جندي من الحرس الوطني الذين سيشاركون في تأمين عملية التنصيب.

 

كما أبدى وزير الجيش في الوقت نفسه عن تخوفه من الإرهاب الداخلي والتهديدات التي قد تنبع من هؤلاء الجنود القادمين من عدة ولايات والذين قد يكونوا مجندين حديثاً أو ضباط سابقين لهم أفكار متطرفة يستغلها اليمين. وأضاف الوزير قائلاً بأن المسؤولين على وعي وعلم بالتهديدات الداخلية المحتملة التي قد تشكلها جماعات موجودة في الحرس الوطني والتي تؤمن بمثل هذه الأفكار المتطرفة التي بثها ترمب في أن الانتخابات مزورة وأنها قد سرقت من الشعب الأمريكي، وأن على الشعب التحرك لاستعادة هذه الانتخابات، كما حذَّر الوزير كبار الضباط على أن يكونوا مستعدين وفي يقظة تامة من أية مؤشرات، أو تحركات مشبوهة من قبل بعض الأفراد من الحرس الوطني. وبالفعل تم إعفاء 12 جندياً من الحرس الوطني من مهمة تأمين يوم التنصيب، حسب ما ورد في صحيفة الواشنطن بوست في العشرين من يناير.

 

كذلك اعترف السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنثال(Richard Blumenthal) عن قِدم ظاهرة اختراق اليمين المتطرف للجيش الأمريكي عندما قال:"قضية تفوق العرق الأبيض والأفكار المتطرفة داخل الجيش ليست جديدة، ولكن الهجوم على الكابيتول أكد لنا بوضوح على ضرورة مواجهة هذه الظاهرة فوراً".

 

ولذلك نجد بأن عهد الرئيس السابق ترمب قدَّم فرصة ذهبية لا تُعوض لليمين المسيحي المتطرف والميليشيات اليمينية المسلحة، فوفر لها من جهة الغطاء السياسي العميق غير المسبوق بصفته رئيساً للبلاد والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ومن جهة ثانية الغطاء الأمني، فقدم لها تسهيلات لاختراق أكبر وأشمل للأجهزة الأمنية بكافة أنواعها.

الاثنين، 18 يناير 2021

أزمة الرصاص في مياه الشرب عصيَّة على الحل

لو قلتُ لكم بأن البحرين أكثر تقدماً في بعض الجوانب البيئية الصحية من أكثر دولة في العالم تقدماً وتطوراً ورُقياً، فهل تصدقونني؟

 

فهذا الجانب الصحي البيئي الذي تفوقنا فيه على الولايات المتحدة الأمريكية هو المتعلق بالأنابيب المدفونة في مقابر قديمة تحت الأرض، والتي تقوم بنقل وتوصيل مياه الشرب إلى الملايين من البشر، حيث إن بعض المدن في الولايات المتحدة الأمريكية مازالت تستخدم أنابيب الرصاص البالية التي أكل عليها الدهر وشرب منذ أكثر من خمسين عاماً، وأصبحت هذه الأنابيب جزءاً من التراث التاريخي البيئي الصحي، لما كان لها من تداعيات بيئية وصحية خطيرة، تُهلك جسم الإنسان، وبخاصة الأطفال، وتضر بهم عضوياً، وعقلياً، ونفسياً.

 

ففي البحرين تجاوزنا هذه المشكلة البيئية الصحية الملازمة للإنسان منذ قرون طويلة من الزمن، وتخلصنا كلياً من أنابيب الرصاص السامة لتوزيع مياه الشرب إلى المواطنين في كل أنحاء البلاد، فنحن في البحرين عادة ما نستخدم نوعين رئيسين من الأنابيب المعدنية الحديدية لتوزيع ونقل المياه الأقل ضرراً على الصحة العامة، وهما الكربون الفولاذي، أو الحديدي(carbon steelوالنوع الثاني هو الحديد المطاوع(ductile iron)، وهذان النوعان يتكونان من الحديد بشكلٍ رئيس، إضافة إلى العناصر الأخرى التي تضاف إليهما لإعطائهما الخصائص والمميزات المطلوبة، مثل الكربون، والمغنيسيوم، والمنغنيز، والكروميوم، والنيكل، والكوبالت، وغيرها من العناصر الأخرى. كما إن هذه الأنابيب يتم صباغتها وتغطيتها من الداخل بدهان خاص يعرف بدهانِ "الإِيْبُوكْسي" من أجل حمايتها أولاً من الصدأ والتآكل، وثانياً منع نمو الكائنات الحية عليها الفطرية من الداخل، أي منع نوعين من التلوث هما التلوث الكيميائي والحيوي من الوصول والدخول في مياه الشرب التي تصل إلى منازلنا.

 

ولكن في المقابل، الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من دول العالم الصناعية المتقدمة والمتطورة مازالت تعاني من الرصاص في مياه الشرب، ومازال الناس في جميع أنحاء العالم يعانون صحياً من هذه الأزمة الخانقة المستعصية على العلاج، والتي تتمثل في أنابيب الرصاص المدفونة تحت الأرض منذ مئات السنين لنقل وتوزيع مياه الشرب إلى المنازل والمجمعات السكنية وغير السكنية، حسب الدراسة المنشورة في مجلة علوم وتقنيات البيئة في 22 ديسمبر 2020 حول استدامة وجود الرصاص في منازل الشعب الأمريكي بسبب أصباغ الرصاص التي كانت تستخدم لطلاء الجدران، إضافة إلى الرصاص من أنابيب نقل وتوزيع مياه الشرب.

فهذه الحالة الصحية البيئية المهددة للصحة العامة والمتجذرة في الكثير من المدن الحضرية العريقة حول العالم، ألزمتْ الحكومة الأمريكية تحت قيادة الرئيس السابق ترمب، والمتمثلة في وكالة حماية البيئة، إلى تحديث نظامٍ قديم تحت مسمى "نظام الرصاص والخارصين"(Lead and Copper Ruleوالذي تم إصداره في السابع من يونيو عام 1991، حيث نَشرت الوكالة في 22 ديسمبر من العام المنصرم هذا النظام المعدل لحماية صحة الأطفال في المدارس ومراكز رعاية الأطفال من خلال إزالة الرصاص من مياه الشرب.

 

ولكن هذا النظام المعدل مازال ناقصاً، فلم يعالج كلياً وبشكلٍ جذري لا رجعة فيه مصدر وسبب الأزمة المستدامة لنوعية مياه الشرب التي تصل إلى منازل المواطنيين الأمريكيين، وهو ملايين الأنابيب البالية والمتآكلة المصنوعة من الرصاص السام والمدفونة منذ القرن التاسع عشر في المدن الأمريكية القديمة، ولا يعلم عن موقعها أحد بالتحديد، مثل مدينة شيكاغو العريقة التي تحتها نحو 400 ألف خط أنابيب من الرصاص المتهالك الذي يترشح إلى المياه التي يشربها الملايين من الأمريكيين.

 

وهناك الكثير من الكوارث التي نزلت على مدن أمريكا، إضافة إلى الآلاف من الأبحاث والتقارير المنشورة التي تؤكد وتكشف حجم هذه المشكلة العصيبة التي تعاني منها أكبر وأعظم دولة على وجه الأرض وأكثرها تقدماً وتطوراً. فمن الكوارث الحديثة هي أزمة تلوث مياه الشرب التي شهدها سكان العاصمة واشنطن دِي سِي في الفترة من 2001 إلى 2004، والطامة الكبرى التي ألمتْ بالمواطنين الأمريكيين في مدينة فلنت بالقرب من عاصمة صناعة السيارات في مدينة ديترويت بولاية ميشيجن، حيث بدأ المشهد الأول من هذه المأساة الصحية البيئية في 25 أبريل من عام 2014، والتي تسببت في وقوع أزمة صحية وبيئية حادة، إضافة إلى أزمة جنائية وسياسية تَدخَل فيها الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما نفسه، وأعلن حالة الطوارئ الاتحادية عندما زار المدينة المنكوبة، وخصص 450 مليون دولار كمساعدات اتحادية عاجلة لتحسين جودة مياه الشرب التي تصل منازل الناس، كما أن حاكم الولاية السابق ومجموعة من الإداريين أُصدرت ضدهم تهم جنائية في 14 يناير من العام الجاري تتلخص في الإهمال في أداء الواجب.

أما بالنسبة للدراسات والأبحاث والتحقيقات الإعلامية المتعلقة بتلوث مياه الشرب بالرصاص والمردودات الصحية الناجمة عنها، فأذكر منها البحث المنشور في مجلة اللانست الطبية المشهورة في 12 مارس 2018 والذي أفاد بأن عدد الوفيات من الأمراض التي يسببها الرصاص في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ قرابة 412 ألف سنوياً، إضافة إلى البحث المنشور في مجلة "وقائع الأكاديمية الأمريكية للعلوم" في 22 سبتمبر 2020 تحت عنوان: "التهديد المستمر للرصاص في مياه الشرب".

 

كذلك فإن وسائل الإعلام غطت هذه الأزمة الصحية البيئية بشكلٍ واسع وكبير، ومنذ سنواتٍ طويلة، كان آخرها التقرير في مجلة (APM reports) في الخامس من مايو 2020 تحت عنوان: "الرصاص المدفون"، والتحقيق المنشور في مجلة الإيكونومست في الثالث من ديسمبر 2020 تحت عنوان: "ملايين الأمريكيين يحصلون على مياه الشرب من أنابيب الرصاص". ولذلك نجد أنه بالرغم من أن القانون الأمريكي قد منع استخدام أنابيب الرصاص في 19 يونيو عام 1986 ضمن تعديلات قانون "مياه الشرب الآمنة"، إلا أن هناك الكثير من المدن الأمريكية التي تقع تحت مقبرة واسعة من هذه الأنابيب التي مازالت تنقل وتوزع مياه الشرب المسمومة إلى الملايين من الأمريكيين. ويكمن السبب الرئيس في عدم تنفيذ القانون كلياً حتى الآن هو الكلفة العالية جداً لاستبدال الملايين من أنابيب الرصاص، ولذلك على فئة كبيرة من الشعب الأمريكي أن تتجرع لعقود طويلة قادمة من الزمن كأس مياه الشرب المسمومة بالرصاص، حتى تقوم أقوى وأغنى دولة في العالم باستبدالها وتغيير البنية التحتية المتهالكة المعنية بنقل مياه الشرب.

فالمشكلة إذن، كما هو الحال في الكثير من الدول، ليست في سن التشريعات وإنما في تنفيذها وتفعيلها.

الجمعة، 15 يناير 2021

اقتحام مبنى الكونجرس وتوفير الغطاء السياسي


يوم الأربعاء السادس من يناير من العام الجاري، وبالتحديد من بعد الساعة الثانية بعد الظهر، لم يكن يوماً عادياً طبيعياً مرَّ على الشعب الأمريكي، وبخاصة في مدينة واشنطن دِي سِي العاصمة الأمريكية، ولم يكن يوماً روتينياً لجلسة الكونجرس المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ والمخصصة للتصديق على فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية.

 

فقد كانت سويعات عصيبة ومؤلمة لن ينساها الشعب الأمريكي أبداً في هذا الجيل والأجيال اللاحقة، وقد كانت دقائق طويلة جداً عانى منها أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، فحفرت بصماتها خالدة مخلدة ليست في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل وتاريخ الديمقراطية على المستوى الدولي، فأثناء هذه الدقائق توجهت أبصار العالم كلها نحو الولايات المتحدة الأمريكية لترى أمام أعينها هذا الحدث التاريخي غير المسبوق، وبخاصة نحو مبنى الكونجرس(Capitol Hill)، الرمز الشامخ والعريق للديمقراطية الأمريكية، وأثناء هذه الدقائق انصبت أسماع وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم لتنقل وتوثق كل ثانية من هذه الواقعة العظيمة والطامة الكبرى التي نزلت على أمريكا عامة، وبخاصة على الديمقراطية الأمريكية العريقة التي تتفاخر وتعتز بها منذ نحو قرنين من الزمان.

 

فقد وقع هجوم سريع  كاسح كالريح الصرصر العاتية في عقر دار الديمقراطية الأمريكية، وهو مبنى الكابيتل، أو مبنى الكونجرس، حيث تحرك تيار بشري من عشرات الآلاف من الأمريكيين الغاضبين المحتشدين أمام البيت الأبيض بعد سماعهم لخطاب الرئيس ترمب، واتجهوا جميعاً سائرين على أقدامهم نحو مبنى الكونجرس التاريخي، وغير مكترثين بما يصادفهم أمامهم من الحواجز الأمنية، أو رجال الشرطة الحارسين لهذا المبنى الأثري، فاشتبكوا مع الشرطة، واقتحموا أسوار المبنى بالقوة، وتدافعوا بعنف وبأعدادٍ كبيرة أمام بوابة المبنى، فكسروا النوافذ والأبواب، واحتلوا المبنى خلال سويعات قليلة جداً استمرت تقريباً من الساعة الثانية إلى السابعة مساءً، فعاثوا فيها فساداً وسرقة ونهب وتخريب، حتى جاءت الشرطة المختصة وتصادمت معهم وطردتهم من المبنى كلياً، فكانت الحصيلة النهائية الإجمالية حتى الآن موت إحدى المتظاهرات، وقتل رجل أمن وثلاثة آخرين، وجرح نحو 14 واعتقال مائة من المتمردين، كما أكدت تقارير الشرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي(إِف بِي آي) بأن الذين اقتحموا المبنى ويقفون وراء هذا التمرد العنيف هم من جماعات اليمين المسيحي المتشدد، وجماعات تفوق العرق الأبيض، وجماعة "الأولاد الفخورون"(Proud Boys)، إضافة إلى جماعة "النازيون الجدد"، وبعض الجماعات والميليشات المسلحة مثل(Three Percenters)، علماً بأن الغالبية العظمى من المقتحمين كانوا من الرجال البيض، وكان بعضهم يحمل أسلحة يدوية، وعصي، ورذاذات كيميائية، ويلبس الدروع، إضافة إلى اكتشاف قنابل أنبوبية خارج المبنى، وكان الذين هاجموا المبنى يهتفون قائلين: "نحن نريد أن نُري هؤلاء السياسيين بأننا نحن المسيطرون وليسوا هم"، و "نحن لدينا القوة"، و "أقتلوا الإعلام"، وكانوا يُطلقون على الشرطة كلمة "خنازير".

 

ولكن هل وقعت هذه الواقعة فجأة ودون سابق إنذار، وبشكلٍ عفوي وعشوائي غير منظم وغير مدروس، أم أنها كانت تسخن على نارٍ هادئة لفترة طويلة من الزمن، وكان مِن ورائها من يزودها بالوقود لتشتعل وتبقى ساخنة طوال هذه المدة الزمنية، فيوفر لها الغطاء الشرعي والسياسي والأمني اللازم لاستمراريتها دون أن تنطفىء؟  

 

في الحقيقة فإنني أُتابع تصريحات الرئيس الأمريكي ترمب نفسه منذ ولوجه في البيت الأبيض، وأراقب وأقارن في الوقت نفسه تحركات ومواقف اليمين المسيحي المتطرف العنيف أصحاب نظريات المؤامرة، وبالتحديد نظرية مؤامرة كيو أنون التي تؤمن بأن ترمب أرسله الله لإنقاذ أمريكا والبشرية من الدولة العميقة ومن الفاسدين والمنحلين خُلقياً الذين يحكمون هذه الدول، وأن ترمب سيقوم بالتخلص منهم يوم "العاصفة" وزجهم جميعاً في السجون. ولذلك فإنني كُنتُ على يقين بأن مسلسل الأحداث خلال الأربع سنوات الماضية والتصريحات والمواقف التي يتبناها ترمب، تُشير كلها إلى ساعة الصفر التي شهدها العالم أجمع، وأُلخص هذه المؤشرات في النقاط التالية:

أولاً: ترمب يصف كل قضية لا تتوافق مع أهوائه ومصالحه الشخصية أو الحزبية بأنها خدعة(hoax)، وأنها مؤامرة من دولة أجنبية، أو من الحزب الديمقراطي ومن الدول العميقة، مثل قضية التغير المناخي، ووباء فيروس كورونا، والانتخابات الرئاسية التي خسر فيها خسارة مذلة وساحقة، إضافة إلى انتخابات ولاية جورجيا التي سمحت للحزب الديمقراطي من السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ وكافة مفاصل الحكم، وأخيراً حُذف حسابه كلياً من وسائل الاتصال الاجتماعي، سواء من الفيس بوك، والإنستجرام، أو من التويتر، فكل هذه مؤمرات ضده. وفي كل هذه الحالات كان ترمب يفتري ويكذب ويثير الشكوك قائلاً بأن دول العالم تعادي الولايات المتحدة الأمريكية، وأن النظام الانتخابي متحيز وغير سليم ويسود فيه التزوير والفساد. وكان دائماً يشحن الشعب الأمريكي، وبخاصة قاعدته الانتخابية من اليمين المسيحي المتطرف بالتصريحات المتشددة والتي فيها تحد للنظام الديمقراطي، حيث قال مرة بأنه "يرفض النتائج إذا خسر في الانتخابات"، كما قال بأن لديه "شكوك حول الانتخابات والنظام الانتخابي".

ثانياً: تصريحات ترمب دائماً كانت عدوانية تثير الشعب الأمريكي، وتقف دائماً مع الجماعات اليمينية المتطرفة، وجماعات تفوق العرق الأبيض، وتحثهم على التصدي للفساد والدولة العميقة، وتحرضهم على تحويل الأقوال إلى أعمال، كما إنه في الوقت نفسه كان دائماً يرفض انتقاد وإدانة أعمال العنف والإرهاب التي تقوم بها هذه الجماعات، بل ويوفر لهم الغطاء السياسي والأمني والتشريعي لممارساتهم العنيفة المتكررة، مثل اقتحام مبنى عاصمة ولاية ميشيجن من قبل يمينيين مسلحين احتجاجاً على إجراءات الإغلاق بسبب كورونا في العام المنصرم، حيث قال لهم ترمب "حرروا ميشيجن"، والمحاولة الانقلابية التي كشف عنها مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي في أكتوبر من العام المنصرم في ولاية ميشيجن، علاوة على العملية الإرهابية التي كشف عنها المكتب في 22 ديسمبر 2020 حول تخطيط هذه الجماعات لعمليات إرهابية كبيرة، منها مهاجمة محطات توليد الكهرباء. فمثل هذه المواقف والسياسات الداعمة لهذه الجماعات والتي امتدت أربع سنوات، كانت بمثابة الضوء الأخضر لمواصلة أنشطتهم العنيفة وممارساتهم التخريبية.

ثالثاً: بعد أن تأكد ترمب بأنه انهزم في الانتخابات، وبعد أن خسر أكثر من ستين دعوى قضائية رفعها حول نزاهة العملية الانتخابية، قام بطرح ورقته الأخيرة القاضية، وهي دعوة أنصاره للاحتشاد أمام البيت الأبيض ظهر يوم السادس من يناير، قبيل بدء جلسة مجلسي النواب والشيوخ. وهناك خَطَب في الحشد المشحون كراهية وبُغض على النظام الديمقراطي والحكم الفيدرالي لمدة قرابة 70 دقيقة، وكأنه القائد العسكري الميداني الذي يحمِّس جنوده قبل خوض المعركة فيدفعهم للقتال والتضحية من أجل الوطن، ويقوي شوكتهم للقاء العدو، حيث حرضهم على السير قائلاً:"سنمشي معاً وأنا سأكون معكم"، ولكنه ذهب أدراجه إلى البيت الأبيض وترك الحشود تسير وحيدة، ومن أكثر أقواله المحرضة للعنف أثناء هذا الخطاب ما يلي:"أنتُم لن تسترجعوا بلادنا بإبداء الضعف، يجب أن تُبْدوا القوة ويجب أن تكونوا أقوياء... وأن لا تقبلوا بالهزيمة"، "قاتلوا بشراسة"، "انتهى وقت الكلام".

 

وبعد هذه الكارثة التاريخية، لم يقم فوراً وبشكل مباشر بإدانة أعمال العنف والإرهاب، ولم يأمر أتباعه بالتوقف، بل غرَّد قائلاً بأن عليكم أن تبقوا على السلمية، وبارك وجودهم في المبنى، ولكن بعد ضغوط من الجمهوريين، سجل فيديو عبر التويتر فبرر أعمالهم، ودافع عنهم قائلاً:" هذه الأشياء والأحداث تقع عندما يتم تجريد الوطنيين العظماء من الانتخابات التي تم الفوز الساحق فيها، والذين يتم التعامل معهم منذ سنوات بشكلٍ غير عادل وسيء"، كما قال: "أَعْرف ألمكم، أعرف بأنكم مجروحون، "وأعرف كيف تشعرون"، وأضاف قائلاً: "إنها فترة عصيبة...لقد أُخذت منا جميعاً، أخذت مني، ومنكم، ومن بلدنا، نحن نحبكم وأنتم أناس مميزون...ولن يتم اسكاتنا".

 

فجميع هذه المؤشرات القوية كانت أمام الجهاز الأمني الأمريكي، ولكن لم يستبق الأحداث فيقوي من وجوده في الميدان، وكل هذا التقاعس والاتكالية كان بسبب الغطاء والدعم السياسي الكثيف والقوي الذي زود به ترمب هذه الجماعات طوال فترة حكمه، وهذه الظاهرة بدأت تنتشر في دول أوروبية منها ألمانيا، وهولندا، وفرنسا، وبريطانيا، مما يجعلني أدعو إلى التعامل مع هذه الجماعات اليمينية المسيحية العنيفة بالطريقة نفسها التي يتعامل فيها المجتمع الدولي مع الجماعات الإسلامية المتطرفة.