الاثنين، 18 يناير 2021

أزمة الرصاص في مياه الشرب عصيَّة على الحل

لو قلتُ لكم بأن البحرين أكثر تقدماً في بعض الجوانب البيئية الصحية من أكثر دولة في العالم تقدماً وتطوراً ورُقياً، فهل تصدقونني؟

 

فهذا الجانب الصحي البيئي الذي تفوقنا فيه على الولايات المتحدة الأمريكية هو المتعلق بالأنابيب المدفونة في مقابر قديمة تحت الأرض، والتي تقوم بنقل وتوصيل مياه الشرب إلى الملايين من البشر، حيث إن بعض المدن في الولايات المتحدة الأمريكية مازالت تستخدم أنابيب الرصاص البالية التي أكل عليها الدهر وشرب منذ أكثر من خمسين عاماً، وأصبحت هذه الأنابيب جزءاً من التراث التاريخي البيئي الصحي، لما كان لها من تداعيات بيئية وصحية خطيرة، تُهلك جسم الإنسان، وبخاصة الأطفال، وتضر بهم عضوياً، وعقلياً، ونفسياً.

 

ففي البحرين تجاوزنا هذه المشكلة البيئية الصحية الملازمة للإنسان منذ قرون طويلة من الزمن، وتخلصنا كلياً من أنابيب الرصاص السامة لتوزيع مياه الشرب إلى المواطنين في كل أنحاء البلاد، فنحن في البحرين عادة ما نستخدم نوعين رئيسين من الأنابيب المعدنية الحديدية لتوزيع ونقل المياه الأقل ضرراً على الصحة العامة، وهما الكربون الفولاذي، أو الحديدي(carbon steelوالنوع الثاني هو الحديد المطاوع(ductile iron)، وهذان النوعان يتكونان من الحديد بشكلٍ رئيس، إضافة إلى العناصر الأخرى التي تضاف إليهما لإعطائهما الخصائص والمميزات المطلوبة، مثل الكربون، والمغنيسيوم، والمنغنيز، والكروميوم، والنيكل، والكوبالت، وغيرها من العناصر الأخرى. كما إن هذه الأنابيب يتم صباغتها وتغطيتها من الداخل بدهان خاص يعرف بدهانِ "الإِيْبُوكْسي" من أجل حمايتها أولاً من الصدأ والتآكل، وثانياً منع نمو الكائنات الحية عليها الفطرية من الداخل، أي منع نوعين من التلوث هما التلوث الكيميائي والحيوي من الوصول والدخول في مياه الشرب التي تصل إلى منازلنا.

 

ولكن في المقابل، الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من دول العالم الصناعية المتقدمة والمتطورة مازالت تعاني من الرصاص في مياه الشرب، ومازال الناس في جميع أنحاء العالم يعانون صحياً من هذه الأزمة الخانقة المستعصية على العلاج، والتي تتمثل في أنابيب الرصاص المدفونة تحت الأرض منذ مئات السنين لنقل وتوزيع مياه الشرب إلى المنازل والمجمعات السكنية وغير السكنية، حسب الدراسة المنشورة في مجلة علوم وتقنيات البيئة في 22 ديسمبر 2020 حول استدامة وجود الرصاص في منازل الشعب الأمريكي بسبب أصباغ الرصاص التي كانت تستخدم لطلاء الجدران، إضافة إلى الرصاص من أنابيب نقل وتوزيع مياه الشرب.

فهذه الحالة الصحية البيئية المهددة للصحة العامة والمتجذرة في الكثير من المدن الحضرية العريقة حول العالم، ألزمتْ الحكومة الأمريكية تحت قيادة الرئيس السابق ترمب، والمتمثلة في وكالة حماية البيئة، إلى تحديث نظامٍ قديم تحت مسمى "نظام الرصاص والخارصين"(Lead and Copper Ruleوالذي تم إصداره في السابع من يونيو عام 1991، حيث نَشرت الوكالة في 22 ديسمبر من العام المنصرم هذا النظام المعدل لحماية صحة الأطفال في المدارس ومراكز رعاية الأطفال من خلال إزالة الرصاص من مياه الشرب.

 

ولكن هذا النظام المعدل مازال ناقصاً، فلم يعالج كلياً وبشكلٍ جذري لا رجعة فيه مصدر وسبب الأزمة المستدامة لنوعية مياه الشرب التي تصل إلى منازل المواطنيين الأمريكيين، وهو ملايين الأنابيب البالية والمتآكلة المصنوعة من الرصاص السام والمدفونة منذ القرن التاسع عشر في المدن الأمريكية القديمة، ولا يعلم عن موقعها أحد بالتحديد، مثل مدينة شيكاغو العريقة التي تحتها نحو 400 ألف خط أنابيب من الرصاص المتهالك الذي يترشح إلى المياه التي يشربها الملايين من الأمريكيين.

 

وهناك الكثير من الكوارث التي نزلت على مدن أمريكا، إضافة إلى الآلاف من الأبحاث والتقارير المنشورة التي تؤكد وتكشف حجم هذه المشكلة العصيبة التي تعاني منها أكبر وأعظم دولة على وجه الأرض وأكثرها تقدماً وتطوراً. فمن الكوارث الحديثة هي أزمة تلوث مياه الشرب التي شهدها سكان العاصمة واشنطن دِي سِي في الفترة من 2001 إلى 2004، والطامة الكبرى التي ألمتْ بالمواطنين الأمريكيين في مدينة فلنت بالقرب من عاصمة صناعة السيارات في مدينة ديترويت بولاية ميشيجن، حيث بدأ المشهد الأول من هذه المأساة الصحية البيئية في 25 أبريل من عام 2014، والتي تسببت في وقوع أزمة صحية وبيئية حادة، إضافة إلى أزمة جنائية وسياسية تَدخَل فيها الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما نفسه، وأعلن حالة الطوارئ الاتحادية عندما زار المدينة المنكوبة، وخصص 450 مليون دولار كمساعدات اتحادية عاجلة لتحسين جودة مياه الشرب التي تصل منازل الناس، كما أن حاكم الولاية السابق ومجموعة من الإداريين أُصدرت ضدهم تهم جنائية في 14 يناير من العام الجاري تتلخص في الإهمال في أداء الواجب.

أما بالنسبة للدراسات والأبحاث والتحقيقات الإعلامية المتعلقة بتلوث مياه الشرب بالرصاص والمردودات الصحية الناجمة عنها، فأذكر منها البحث المنشور في مجلة اللانست الطبية المشهورة في 12 مارس 2018 والذي أفاد بأن عدد الوفيات من الأمراض التي يسببها الرصاص في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ قرابة 412 ألف سنوياً، إضافة إلى البحث المنشور في مجلة "وقائع الأكاديمية الأمريكية للعلوم" في 22 سبتمبر 2020 تحت عنوان: "التهديد المستمر للرصاص في مياه الشرب".

 

كذلك فإن وسائل الإعلام غطت هذه الأزمة الصحية البيئية بشكلٍ واسع وكبير، ومنذ سنواتٍ طويلة، كان آخرها التقرير في مجلة (APM reports) في الخامس من مايو 2020 تحت عنوان: "الرصاص المدفون"، والتحقيق المنشور في مجلة الإيكونومست في الثالث من ديسمبر 2020 تحت عنوان: "ملايين الأمريكيين يحصلون على مياه الشرب من أنابيب الرصاص". ولذلك نجد أنه بالرغم من أن القانون الأمريكي قد منع استخدام أنابيب الرصاص في 19 يونيو عام 1986 ضمن تعديلات قانون "مياه الشرب الآمنة"، إلا أن هناك الكثير من المدن الأمريكية التي تقع تحت مقبرة واسعة من هذه الأنابيب التي مازالت تنقل وتوزع مياه الشرب المسمومة إلى الملايين من الأمريكيين. ويكمن السبب الرئيس في عدم تنفيذ القانون كلياً حتى الآن هو الكلفة العالية جداً لاستبدال الملايين من أنابيب الرصاص، ولذلك على فئة كبيرة من الشعب الأمريكي أن تتجرع لعقود طويلة قادمة من الزمن كأس مياه الشرب المسمومة بالرصاص، حتى تقوم أقوى وأغنى دولة في العالم باستبدالها وتغيير البنية التحتية المتهالكة المعنية بنقل مياه الشرب.

فالمشكلة إذن، كما هو الحال في الكثير من الدول، ليست في سن التشريعات وإنما في تنفيذها وتفعيلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق