الخميس، 23 سبتمبر 2021

صفحة مثيرة طويت من التاريخ البيئي


في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد قبل 45 عاماً، عندما كنتُ طالباً في جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، كنت ألاحظ في محطات المحروقات، أو محطات تزويد السيارات بوقود الجازولين وجود عدة خراطيم خاصة بالمضخات المستعملة لملء الجازولين في السيارات، ومكتوب على أحدها جازولين بدون رصاص(unleaded gasoline)، أو أن هذه المضخات تكون ذات لونٍ مختلف عن المضخات الأخرى.

 

وفي الحقيقة في ذلك الوقت لم أفهم المقصود من هذا المصطلح العلمي التجاري، ولم أدرك دلالات بيع هذا النوع من وقود السيارات منذ فترة السبعينيات، ولم أستوعب الأبعاد البيئية والصحية والاجتماعية الكبيرة لمثل هذا النوع من الجازولين الخالي من الرصاص، فهذا النوع من الوقود الجديد لم يكن موجوداً كلياً في معظم دول العالم، بل وإن كل دول العالم بدون استثناء لم تكن تعرف أي شيء عن هذا الوقود ومردوداته الإيجابية على الصحة العامة، وبخاصة صحة الأطفال.

ففي مطلع العشرينيات من القرن المنصرم أدخل الإنسان نوعاً جديداً من الجازولين، وأُطلق عليه الجازولين بالرصاص(leaded gasoline)، وكان هذا النوع من الوقود نعمة عظيمة لرفع أداء السيارات من خلال تطوير وتحسين نوعية وقود الجازولين، فإضافة مركبات الرصاص العضوية، مثل رباعي إيثيل الرصاص ورباعي ميثيل الرصاص كانت مهمة جداً لرفع كفاءة الوقود، والمعروف علمياً برقم الأوكتان، وبالتالي تحسين عمل السيارة وأدائها أثناء الطريق.

ولكن لم يعلم الإنسان كعادته بأنه في تلك المرحلة الزمنية التي أدخل فيها الوقود الذي يحتوي على الرصاص، قد غرس في الوقت نفسه بذرة خبيثة في تربة الأرض، ورعاها وحماها فترة من الزمن حتى تحولت إلى شجرة شوكية عقيمة، وأعطت ثمراً حنظلاً فاسداً ومدمراً لصحة الإنسان. فالإنسان عندما أضاف الرصاص إلى الوقود كان شغله الشاغل ينصب فقط نحو تحسين أداء الجازولين في السيارة ورفع كفاءة وأداء المحرك، ونسي كلياً النظر في أداء الرصاص عندما يدخل في الهواء الجوي، وأهمل كلياً الجانب المتعلق بتصرف هذا السم عندما يتعرض له الإنسان بعد انطلاقه من عوادم السيارات، والأضرار الصحية التي تنجم عن ذلك، فهو بذلك حل مشكلة واحدة فقط وخلق في الوقت نفسه مشكلات كبيرة معقدة ومتشابكة منها بيئية، وصحية، واجتماعية.

فبعد سنوات من استخدام هذا النوع من الوقود، وتغلغل الرصاص وتجذره في أعماق الهواء الجوي، وفي التربة، والنبات والحيوان، وتراكمه في أعضاء جسم الإنسان، تأكد للعلماء وأجمعوا على أن أضرار استعماله أكبر من منافعه، وسلبياته تفوق إيجابياته، وأن المفاسد التي تنجم عنه أشد وطأة على الإنسان من المصالح التي يحصل عليها، بل واكتشف الإنسان الآن بأن ملوثات الرصاص التي كانت تنبعث من عوادم السيارات منذ فترة الثلاثينيات من القرن المنصرم مازالت تسرح وتمرح في الهواء الجوي وفي غبار وتربة الشوارع(لمزيد من المعلومات راجع مقالي المنشور في 17 يوليو 2021 في أخبار الخليج تحت عنوان: التلوث لا يموت)، أي أن سموم الرصاص تبقى في مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وتمكث في أجسامنا خالدة مخلدة فيها حتى بعد إزالة الرصاص من جازولين السيارات.

فهذا الوضع الصحي المأساوي أضطر الإنسان إلى التفكير ملياً في وجود الرصاص في وقود السيارات في كل دول العالم، واتفق الجميع من رجال العلم والسياسة والحُكم على العمل سوياً للتخلص من الرصاص في الجازولين إلى الأبد وبدون رجعة، حيث أعلن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، والذي مقره في نيروبي في الثلاثين من أغسطس من العام الجاري بأن آخر شحنة من الجازولين الذي يحتوي على الرصاص كانت في الجزائر في نهاية يوليو، ولذلك صرحت المديرة التنفيذية للبرنامج بهذه المناسبة قائلة: "يُعد نجاح فرض حظر الجازولين المحتوي على الرصاص منعطفاً كبيراً للصحة العالمية والبيئة". كذلك نظراً لأهمية هذا الحدث من الناحية السياسية والأمنية فقد بعث الأمين العام للأمم المتحدة رسالة إلى دول العالم جاء فيها: "نحن نحتفل اليوم بمنعطفٍ للتعددية، ويتمثل في تتويج جهد عالمي مشترك لتخليص العالم من الرصاص في الجازولين الذي كان يعد تهديداً رئيساً لصحة الإنسان والكوكب. هذا النجاح الدولي يأتي بعد عشرين عاماً من قيادة برنامج الأمم المتحدة للبيئة لمبادرة شارك فيها القطاعين العام والخاص"، كما أضاف قائلاً: "إنهاء استخدام الجازولين المحتوي على الرصاص سيمنع موت أكثر من مليون إنسان سنوياً موتاً مبكراً بسبب أمراض القلب والسرطان، كما يحمي الأطفال من التلف الذي سببه الرصاص من الناحية العقلية". كذلك أكد الأمين العام للأمم المتحدة في بيانه المنشور في الثلاثين من أغسطس أنه: " يجب أن نعيد التزامنا هذا لإنهاء الأزمة الثلاثية المتمثلة في التغير المناخي، والتنوع الحيوي، والتلوث".

فبهذا الحدث التاريخي اليوم يكون الإنسان قد طوى صفحة من المعاناة البشرية البيئية والصحية التي استمرت أكثر من تسعة عقود من الزمن، فأدخل الآن وقود الجازولين الذي يحتوي على الرصاص في كتب التاريخ البيئي المعاصر.

ولكن بالرغم من هذا الإنجاز، إلا أنني شخصياً أعتبره انجازاً متأخراً جداً، فقد سمحنا بأيدينا وبمعرفتنا لهذا الملوث العصيب، وهو عنصر الرصاص الذي له خاصية التراكم والتضخم في بيئتنا الحية وغير الحية وفي أجسامنا، أن ينبعث من أخطر مصدر لهذا الرصاص وهو السيارات مباشرة إلى الهواء الجوي، وسمحنا نحن أيضاً لهذا الملوث الخطير أن ينتشر في بيئتنا ويتفشى في كافة أعضاء أجسامنا، وسيبقى معنا حتى بعد قرار التخلص منه فترة طويلة من الزمن لا يعلمها إلا الله، فبالرغم من إجماع العلماء منذ الخمسينيات، أي منذ أكثر من سبعين عاماً، على التهديدات الصحية الكبيرة التي يمثلها الرصاص لنا جميعاً، إلا أننا لم نتمكن من التخلص منه إلا بعد أن أوقع ضحايا بشرية بلغت حسب التقديرات ما لا يقل عن ثلاثين مليون إنسان، وخسارة مالية كُنا نتكبدها سنوياً تقدر بنحو 2.44 تريليون دولار، علماً بأن هذه الخسائر البشرية والمالية لن تنتهي كلياً وإنما ستنخفض تدريجياً مع الوقت. 

فعلى المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة أن يفكر بآليات جديدة أكثر فاعلية، وأشد ضغطاً وتأثيراً على الدول المعنية والمسؤولة عن تلوث وتدمير كوكبنا منذ قرنين من الزمان، وعلى المجتمع الدولي أن يبدع في استحداث وسائل ترفع من سقف محاسبة الدول المتقدمة والصناعية التي تقدَّمت وتطورت على حساب صحتنا وسلامة كوكبنا، ومازالت مستمرة في ذلك دون أي اعتبار مشهود وملموس لصحة بيئتنا واستدامة عطاء مواردنا وثرواتنا الفطرية الطبيعية.

الخميس، 16 سبتمبر 2021

تقرير جديد حول الإرهاب الداخلي الأمريكي


زادت التقارير والدراسات التي تُنشر في الولايات المتحدة الأمريكية حول الإرهاب عامة، والإرهاب الداخلي خاصة، وارتفعت أعداد هذه التقارير الرسمية وغير الرسمية، الحكومية وغير الحكومية التي تكاد تُجمع على ظاهرة واحدة وحقيقة واضحة الآن وهي أنه بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر بالتحديد فإن الإرهاب الداخلي المتمثل في الجماعات المسيحية المتطرفة بمختلف أسمائها وأهدافها أكبر وأشد من الجماعات الإسلامية، أي أن الإرهاب المسيحي المتشدد يتفوق على الإرهاب الإسلامي المتطرف في الداخل الأمريكي.

 

وآخر هذه التقارير نُشر في العاشر من سبتمبر من العام الجاري، حيث أَجرتْ مجموعة فكرية تنظيرية تُطلق على نفسها "أمريكا الجديدة"(The New America thinktank) في العاصمة واشنطن أربع دراسات تحليلية معمقة وشاملة حول الإرهاب عامة وتلك المتعلقة بحوادث القتل الإرهابية التي ارتكبت في داخل الولايات المتحدة الأمريكية بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. 

 

فهذه الدراسة الشاملة المستقلة تأتي تحت عنوان رئيس هو:"الإرهاب في أمريكا بعد 11 سبتمبر"، ونُشرت في سلسلة مكونة من أربعة أجزاء. أما الجزء الأول فعنوانه: "الحالات الإرهابية: 2001 إلى اليوم"، والثاني عنوانه:"من هم الإرهابيين؟، والجزء الثالث فجاء تحت عنوان:"لماذا يدخلون في الإرهاب". والجزء الرابع والأخير فجاء تحت عنوان:"ما هو التهديد للولايات المتحدة الأمريكية اليوم؟"، حيث قام بالدراسة فريق"برنامج الأمن الدولي"(International Security Program). وقد غطت الدراسة حوادث القتل الإرهابية التي ارتكبت في داخل الولايات المتحدة الأمريكية بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر، والتي حسب الدراسة بلغت 251 عملية إرهابية قاتلة، حيث أَجْرت تقيماً موضوعياً لتفاصيل هذه العمليات من ناحية هوية وأفكار الذين ارتكبوا هذه العمليات الإرهابية ضد الأبرياء والجماعات والجهات التي ينتمون إليها. وقد خلصت الدراسة إلى عدة استنتاجات جوهرية هامة جداً منها:

أولاً: جماعات اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية تشمل الجماعات التي لها مواقف ضد الحكومة الاتحادية، والميليشيات المسلحة، وجماعات تفوق العرق الأبيض، إضافة إلى الجماعات التي تقف ضد الإجهاض، وأما جماعات "الجهاديين" فهي التي تؤمن بفكر أسامة بن لادن ولكنها موجودة في الداخل الأمريكي كمواطنين أمريكيين، ولا تحصل على دعم أو تدريب من جماعات إرهابية خارج الحدود الأمريكية.  فجماعات اليمين المتطرفة بمختلف أسمائها وأهدافها قتلت من الأمريكيين أكثر من "الجهاديين منذ كارثة الحادي عشر من سبتمبر قبل عشرين عاماً، حيث ارتكبت أكثر من 36 هجمة عنيفة، وقُتل فيها 114 أمريكياً، وفي المقابل ارتكب "الجهاديين" الموجودون في أمريكا 14 هجمة، مات فيها 107.

 

ثانياً: هناك عدة أسباب تقف وراء انتهاء الهجمات من الجماعات الإسلامية القادمة من خارج الولايات المتحدة الأمريكية، من أهمها المعلومات الاستباقية التي تحصل عليها الأجهزة الأمنية المعنية بالهجمات الإرهابية، فالمخابرات والمعلومات التي تصل إلى الجهات الأمنية من أجهزة المخابرات نفسها ساهمت بنسبة 48%، والمعلومات من أفراد أسر الجماعات الإسلامية ومن المجتمع الذي يعيشون فيه ساهم بنسبة 23%،  ومن عامة الناس ساهمت بنسبة 8%.

 

ثالثاً: الولايات المتحدة الأمريكية تجاهلت بدرجةٍ كبيرة الإرهاب الداخلي من جماعات اليمين المسيحي المتطرفة بالرغم من الكارثة الإرهابية العظيمة التي وقعت في مدينة أوكلاهوما في ولاية أوكلاهوما، حيث قام تيموثي ماكفاي وهو يميني مسيحي أبيض متشدد بتفجير مبنى اتحادي في عام 1995، وقتل على الفور 168 وجرح أكثر من 680. ومن أهم أسباب التجاهل هي كارثة الحادي عشر من سبتمبر التي حرَّفت بوصلة وكالات الأمن الأمريكية كلياً نحو الإرهاب من الجماعات الإسلامية. وهذا التجاهل المتعمد زاد بنسبة كبيرة أثناء حكم الرئيس ترمب، حيث وفر الغطاء السياسي والأمني لهذه الجماعات حتى وقوع كارثة احتلال مبنى الكونجرس في السادس من يناير من العام الجاري. وهذا الاستنتاج يتفق مع التقرير المنشور في الأول من سبتمبر من العام الجاري من "مركز برينان للعدالة"(Brennan Center for Justice) في جامعة نيويورك تحت عنوان: "كيف يمكن مكافحة عنف جماعات تفوق العرق الأبيض"، حيث جاء فيه بأن الحكومة الأمريكية غضت النظر عن إرهاب وعنف اليمين المتشدد، ولم تعيره الاهتمام الذي يتناسب مع عدد وحجم الجرائم التي ترتكبها، وفي معظم الأحيان كانت تعتبرها جرائم بسيطة محلية وليست إرهابية، كما أنها لم تعتبرها تهديداً واقعياً للمجتمع الأمريكي.

 

فمن خلال اطلاعي على التقارير الحكومية الرسمية الصادرة من الوكالات الأمنية المختلفة، إضافة إلى التقارير والدراسات التي تنشرها مراكز الدراسات والأبحاث في الجامعات والجماعات الفكرية التنظيرية، فإنني أرى بأن هناك شبه إجماع اليوم على أن الإرهاب الداخلي من جماعات اليمين المسيحي المتطرف في إزدياد كبير مع الوقت، وأن هذا الإرهاب يشكل تهديداً واقعياً ومتنامياً يهز كيان المجتمع الأمريكي من داخله، كما أن هناك إجماعاً في أن هذه الجماعات المسيحية المتطرفة أشد وطأة وتأثيراً من الجماعات الإرهابية الإسلامية على الولايات المتحدة الأمريكية. وآخر دليل على هذا الإجماع هو التقرير الجماعي المشترك من جميع أجهزة المخابرات وبعض الوزارات الحكومية كوزارة العدل ووزارة الأمن الداخلي والصادر لأول مرة من "مكتب مدير المخابرات القومية"(Director of National Intelligence) في 17 مارس من العام الجاري تحت عنوان: "التهديد المتنامي من التطرف العنيف الداخلي"، حيث جاء فيه بأن "المتشددون المحليون العنيفون"(Domestic Violent Extremists) يُشكلون "تهديداً كبيراً" لأمن واستقرار البلاد، وهؤلاء يمثلون عدة مجموعات منها الجماعات المسيحية اليمينية، وجماعات تفوق العرق الأبيض، والميليشيات المسلحة، إضافة إلى الجماعات المؤمنة بنظرية مؤامرة كُيو أنُون التي تنشر الكثير من المعلومات المضللة والكاذبة والغريبة.

 

 كذلك يؤكد لي وجود هذا الإجماع المتزايد، هو الكلمة التي ألقاها الرئيس الجمهوري السابق المحافظ جورج بوش الإبن في ذكرى كارثة الحادي عشر من سبتمبر في 11 سبتمبر من العام الجاري، حيث قارن بين الإرهاب المسيحي المتطرف الداخلي مع إرهاب منفذي كارثة الحادي عشر من سبتمبر، وقدَّم أوجه التشابه بينهما، فقد حذّر بشدة من تهديد الإرهاب الداخلي قائلاً: "لقد رأينا أدلة متزايدة على أن الأخطار على بلدنا يمكن أن تأتي ليس فقط من خارج الحدود، بل من العنف المتزايد في الداخل... هناك بعض الارتباط بين عنف المتطرفين في الخارج وعنف المتطرفين في الداخل فهما نِتاج الروح البغيضة نفسها، ومن واجبنا المستمر مواجهتها".

 

والآن بعد كل هذه الأدلة الميدانية والدراسات المنهجية والتقارير الأمنية هل ستنحرف البوصلة الأمنية من التركيز على الإرهاب من بعض الجماعات الإسلامية إلى الاهتمام بالإرهاب الداخلي الناجم عن اليمين المسيحي المتطرف والعنيف؟

 

الاثنين، 13 سبتمبر 2021

صراع الأقطاب الدولية الثلاثة (2 من 2)

قضايا كثيرة معلقة حتى يومنا هذا حول فيروس كورونا وسبل معالجته، ولكن القضية الخلافية الكبرى التي انقسم حولها العالم، والتي ربما تحولت إلى صراع سياسي محتدم، ومعركة شديدة أمام العالم أجمع، هي منشأ الفيروس ومسقط رأسه ومكان ولادته، وطرق انتقاله إلى بني البشر.

 

وهذه المعركة الدولية تدور رحاها بين ثلاثة أقطاب دولية رئيسة هي الصين، والولايات المتحدة الأمريكية، ثم منظمة الصحة العالمية التي تقع في الوسط بين القطبين العظيمين، فكل يجرها نحوه حسب نفوذه وقوته.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي التي روجت لفكرة تسرب الفيروس من المختبر وهي التي أشاعت وبقوة بأن هذا الفيروس قد نشأ في مختبرات الصين، وبالتحديد معهد ووهان لعلم الفيروسات، فقد صرح عنها عدة مرات الرئيس السابق ترمب ووزير خارجيته، كما وردت هذه التصريحات في التقريرين اللذين نشرهما رسمياً الحزب الجمهوري في 21 سبتمبر من عام 2020، ثم التقرير الثاني المكون من 84 صفحة ونشر في الثاني من أغسطس من العام الجاري من لجنة الشؤون الخارجية الجمهوري لمجلس النواب تحت عنوان: "منشأ كوفيد_19: التحقيق في معهد ووهان لعلم الفيروسات". ويحتوي التقرير الأخير على عدة بنود منها البند حول "الدليل على التسرب المختبري"، ثم البند الثاني تحت عنوان: "الدليل على التعديل الجيني"، وأخيراً "الدليل على التستر". فهذا التقرير يشير إلى تسرب الفيروس بشكلٍ عرضي غير متعمد من المختبر، ويفيد بأن أن التسرب كان في أغسطس، أو قبل 12 سبتمبر 2019، وأن الفيروس الأصلي تم جمعه من كهف في مقاطعة يونان(Yunnan province). كما يدعي التقرير بأن معهد ووهان قد قام في منتصف ليلة 12 سبتمبر 2019 وبدون تقديم أية تفسيرات أو مبررات بحذف كل المعلومات وقاعدة البيانات المتعلقة بالفيروسات وعينات الفيروسات، إضافة إلى تدشين مشروع حول الخدمات الأمنية بالمعهد بقيمة 606 ملايين دولار لتحديث أجهزة التهوية والتكييف، كما يشير التقرير إلى دراسة جامعة هارفرد حول زيادة النشاط في المستشفى في ووهان وارتفاع أعداد السيارات في أغسطس 2019 في المواقف المخصصة للسيارات مقارنة بالأشهر السابقة. وكل هذه الأدلة، حسب التقرير الجمهوري تشير إلى هذا التسرب الفيروسي من المختبر.

 

ولكن بعد تسلم بايدن للبيت الأبيض، ونتيجة لعدم وضوح الرؤية والمواقف حول منشأ الفيروس بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية، فقد أمر في 26 مايو من العام الجاري بإجراء تقييم شامل وسريع في خلال تسعين يوماً حول هذه الفرضيات المتعلقة بالفيروس. كما أن مدير عام منظمة الصحة العالمية استغل هذه الفرصة الدولية فدعا من جهته في 20 أغسطس 2021 إلى تشكيل لجنة تحقيق مستقلة جديدة للتحقيق في منشأ الفيروس، حيث أصدرت المنظمة بياناً لتكوين مجموعة من الخبراء والمستشارين تتكون من 25 عضواً بحلول العاشر من سبتمبر 2021 وأطلقتْ عليها إسم "مجموعة المنظمة الاستشارية حول منشأ الأمراض الجديدة ( WHO Scientific Advisory Group for the Origins of Novel Pathogens (SAGO)).

 

أما التقرير الذي أمر به بايدن فقد عُرض على مرحلتين، الأولى كانت سرية وقُدمت للرئيس بايدن نفسه في 24 أغسطس، والمرحلة الثانية فقد كانت علنية، حيث تم نشر ملخص التقرير المحتوي على صفحتين فقط في 27 أغسطس من المجلس القومي للاستخبارات، والذي يعمل كمنسق لما يُطلق عليه في أمريكا "مجتمع الاستخبارات"(intelligence community).

 

وقد جاء هذا التقرير مخيباً لرغبتي في الحصول على المعلومات الدقيقة حول منشأ الفيروس وحقيقة هذا المرض الغامض، فلم يشف غليلي كلياً بعد انتظار أكثر من ثلاثة أشهر، فهذا التقرير الجديد لم يُقدم أي جديد! فالانقسام الحاد حول مصدر الفيروس مازال حاضراً، والخلاف البيِّن حوله مازال قائماً.

 

فمن ملخص التقرير أستطيع أن أُقدم لكم المعلومات التالية التي تمخضت عنه.

أولاً: هناك في مجتمع الاستخبارات الأمريكي من أشار إلى أن الفيروس انتقل بشكلٍ طبيعي من الحيوان إلى الإنسان، ومنهم من قال بأن الفيروس قد تسرب من المختبر عن طريق التجارب التي تجرى في المختبر، أو من سوء التعامل العلمي المنهجي مع الحيوانات المخبرية أو مع العينات التي تم جمعها من الخفاش.

ثانياً: أفاد التقرير بأن الفيروس لم يتم تحويره وتطويره لإنتاج أسلحة بيولوجية، ولم يتم التلاعب فيه باستخدام تقنيات الهندسة الجينية.

ثالثاً: أشار ملخص التقرير إلى أن الصين لم تكن لديها معلومات أولية مسبقة عن الفيروس قبل الحالات الأولى التي انكشفت في ووهان.

 

ومع نشر هذا التقرير المنتظر، أصدر بايدن بياناً قال فيه: "سنعمل كل ما في وسعنا لمعرفة جذور هذا الوباء الذي تسبب في المعاناة والوفيات حول العالم، وذلك من أجل أخذ كافة الاحتياطات الضرورية لمنع حدوثه مرة أخرى"، كما جاء في البيان: "هناك معلومات مهمة عن منشأ هذا الوباء موجودة في جمهورية الصين الشعبية، ولكن منذ البداية، المسؤولين الحكوميين في الصين منعوا التحقيقات الدولية وأعضاء مجتمع الصحة العامة الدولي من الحصول عليها، فيجب أن تكون لدينا معلومات كاملة عن هذه الكارثة الدولية".

 

وكل هذه التصريحات من الولايات المتحدة الأمريكية ومن منظمة الصحة العالمية تلوم الصين على تقصيرها وعدم تعاونها في المشاركة في المعلومات التي بحوزتها، فتُلقي الكرة في الملعب الصيني، ولذلك لم تقف الصين موقف الدفاع عن نفسها فحسب، وإنما بدأت بخطة هجومية ممنهجة من المسؤولين الحكوميين ومن وسائل الإعلام على أمريكا والمنظمة على حدٍ سواء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نشرت صحيفة "جاينا ديلي" (chinadaily)في مقال افتتاحي في الخامس من أغسطس من العام الجاري تحت عنوان:"كوفيد_19 نظرية التسرب المخبري، كذبة أخرى من الـ سي آي إيه"، حيث جاء في المقال بأن هذه هي ليست المرة الأولى التي تكذب فيها أمريكا، فقد افترت على العراق وعلى المجتمع الدولي في جلسة خاصة في مجلس الأمن في عام 2003، واتهمت العراق بأنها تمتلك أسلحة الدمار الشامل النووية، وأشعلت فتيل الحرب لسنوات طويلة وذهب ضحيتها الكثير من المدنيين العزل، واليوم هي نفسها تخلق الادعاءات حول تسرب الفيروس.

كما وجهت الصين سهامها إلى منظمة الصحة العالمية، وبالتحديد إلى مدير المنظمة حيث قال المدير العام في وزارة الخارجية الصيني: "إذا كان الدكتور تيدروس يعتقد بأن علينا ألا نستبعد فرضية التسرب من المختبر، حسناً، هو يعرف أين يذهب.... إنه يحتاج إلى الذهاب إلى مختبرات الولايات المتحدة الأمريكية"، حيث أفاد المسؤول الصيني بأن على المجتمع الدولي زيارة مختبر عسكري في مدينة "فورت دتريك"(Fort Detrick) في ولاية ميريلند، وبالتحديد معهد الأمراض المعدية، الذي تم اغلاقه عدة أشهر بسبب مخالفات في أنظمة السلامة. كما نشرت السفارة الصينية في واشنطن بياناً ادعت فيه بأن تقرير المخابرات "مفبرك"، حيث جاء فيه: "التقرير من مجتمع المخابرات يعتمد على افتراضات بأن الصين مذنبة وهي كبش الفداء، مثل هذا التصرف يؤثر ويخرب التعاون الدولي حول منشأ الفيروس ومكافحة الوباء".

 

والآن بعد كل هذا الجدل المحتدم بين الأقطاب الدولية حول منشأ الفيروس منذ نوفمبر 2019، لم نخرج حتى الآن بأي جديد، ولم تقدم لنا أية جهة دليلاً علمياً مستقلاً واحداً حول أسرار دخول هذا الفيروس إلى المجتمع البشري، وفي تقديري فإن هذا اللغز المحير سيبقى لغزاً في نفس البشرية دون أي تفسير علمي مقبول للجميع، وبخاصة بعد أن دخل فيه رجال السياسة.

    

الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

صراع الأقطاب الدولية الثلاثة(1 من 2)

صراع دولي محتدم منذ أكثر من عامٍ واحد بين ثلاثة أقطاب، الأول هو القطب الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني هو القطب الصيني العظيم، وأما الثالث فهو القطب الضائع الذي لا حول له ولا قوة، وهو منظمة الصحة العالمية الواقعة في الوسط بين تجاذبات صراع شد الحبل ما بين القطبين الأول والثاني، فالقوي الذي يتمتع بنفوذ أكبر وأوسع فهو الذي يشد حبل المنظمة وقرارها تجاهه، والضعيف عليه أن ينفذ فقط هذه القرارات التي تُفرض عليه.

 

وهذا الصراع العميق في هذه الفترة الزمنية العصيبة يتمحور كلياً حول هذا الفيروس الضعيف الذي زلزل العالم أجمع من تحت قدميه، وجعل البشرية كلها تركع تحت وطأة رحمته. وهناك العديد من القضايا التي يدور حولها الخلاف بين هذه الأقطاب الثلاثة، ولكن الخلاف الأكثر إثارة وتعقيداً، والأشد حساسية واحتداماً، هو حول منشأ هذا الفيروس الغريب، ومسقط رأسه ومكان ولادته، فالأسئلة الحائرة التي تُثار هي كيف ولج هذا الفيروس إلى عالم البشر؟ وكيف انتقل إلى أعضاء أجسامنا؟ ومن أين جاء؟

 

فأما المشهد الأول الرسمي من قصة منشأ الفيروس ومصدره ودخوله إلى عالم البشر يظهر في المؤتمر الصحفي الذي عقده فريق التحقيق الدولي التابع لمنظمة الصحة العالمية في مارس 2020، حيث خلص الفريق إلى تقديم "احتمالات وفرضيات"، ولم يصل إلى أي استنتاج حاسم، ولم يقدم أي دليل علمي قوي حول منشأ الفيروس. فقد جاء في التقرير الختامي لهذا الفريق الأممي بأن هناك عدة فرضيات لمنشأ الفيروس ومسيرة انتقاله إلى جسم البشر، فمنها الفرضية الأكثر احتمالاً وهي انتقال الفيروس من حيوان معدي بشكلٍ مباشر، أو غير مباشر عن طريق حيوان آخر وسيط مصاب ومعدي إلى جسم الإنسان، ومنها الفرضية التي تُسوِّق لها الصين لكي تُبعد عن نفسها الشبهات والاتهامات الدولية، وهي أن الفيروس انتقل إلى مدينة ووهان عن طريق استيراد المواد الغذائية المجمدة الملوثة بالفيروس، سواء من مدن صينية أخرى، أو من خارج الصين. كذلك هناك احتمالية انتقال الفيروس من الخفاش البري إلى العلماء مباشرة أثناء جمعهم للعينات، ثم نقلهم إلى المختبر وتعريض الآخرين للعدوى بهذا الفيروس. وأخيراً هناك الفرضية التي يثور حولها الجدال العقيم منذ أكثر من عام بين الصين من جهة وجبهة الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية من جهة أخرى، وهي نظرية تسرب الفيروس من المختبر، حيث جاء في التقرير بأن هذه الفرضية جداً غير محتملة(extremely unlikely)، أي أن التقرير لم يستبعد كلياً هذا الاحتمال، ولم يقفل الباب أمام من يريد الدخول فيه وسبر غوره.

 

كما أكد على هذا التوجه تصريحات المدير العام لمنظمة الصحة العالمية بعد نشر التقرير عندما قال بأن: "جميع الفرضيات موجودة على الطاولة وتحتاج إلى دراسات أخرى وشاملة". وعلاوة على هذا التصريح الخجول، فقد تجرأ مدير المنظمة ولأول مرة في لقاءٍ صحفي في 15 يوليو من العام الجاري في مؤتمر صحفي عُقد في برلين بأنه كان من المبكر والسابق لأوانه استبعاد نظرية تسرب فيروس كورونا من أحد المختبرات الصينية، أي بعبارة أخرى فإن منظمة الصحة العالمية لا تستبعد فرضية العلاقة بين نزول وباء كوفيد_19 وهروب الفيروس من المختبر. فقد قال مدير عام المنظمة:" "كانت هناك ضغوط سابقة لأوانها لاستبعاد فرضية أن الفيروس تسرب من مختبر حكومي صيني في ووهان". كما حث الصين، وهذه أول مرة يصرح فيه مدير عام المنظمة على ذلك، قائلاً: "المنظمة تسأل الصين لتكون أكثر شفافية وأشد انفتاحاً وتعاوناً، خاصة بالنسبة للمعلومات الأولية والبيانات الأساسية التي طلبناها في الأيام الأولى من انكشاف الوباء". كذلك قال أيضاً في هذا اللقاء مُشيراً إلى تجربته الشخصية في العمل في المختبرات الحيوية بأن: "حوادث المختبرات قد تقع، وهي شائعة، ومن المهم النظر في مختبراتنا لمعرفة ما حدث، فنحن نحتاج إلى معلومات، معلومات مباشرة حول وضع المختبر وحالته قبل وعند بدء الوباء".

 

وأما المشهد الرسمي الثاني فبطله الرئيس الأمريكي السابق ترمب الذي كان في مطلع هذا الوباء يمدح الصين ويشكرها على تعاونها في علاجه والتصدي له، ولكن عندما طرق الفيروس باب أمريكا وغزا المجتمع الأمريكي برمته وتفشى في شرايين جسمه وفقد السيطرة عليه، فعندئذٍ حول فشله إلى مهاجمة الصين والادعاء بأن الفيروس صيني وتسرب من المختبر. حيث أعلن في الأول من مايو 2020 من البيت الأبيض بأن الفيروس نتج من مختبر صيني، ولكن دون تقديم أي دليل يُثبت ادعاءه، ولكنه قال في إجابته على أحد الصحفيين أثناء اللقاء في البيت البيض: "لا أستطيع إخبارك بذلك، ليست لدي الصلاحية لإخبارك". كذلك سمعتُ صدى صوت هذه التصريحات من مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق عندما قال في لقائه مع "إي بي سي" بأن هناك "عدداً هائلاً من الأدلة" على أن فيروس كورونا تسرب من مختبر في مدينة ووهان.

 

ومثل هذه التصريحات من قائد أكبر دولة في العالم وأكثرها نفوذاً في الساحة الدولية، ربما شجعت الآخرين على تبني نظرية التسرب المخبري وطرحها على طاولة النقاش كأحد الاحتمالات والنظريات حول منشأ الفيروس، مثل تصريحات مدير عام المنظمة التي أشرنا إليها سابقاً، إضافة إلى تصريحات رئيس فريق التحقيق الأممي التابع لمنظمة الصحة العالمية إلى الصين بيتر إمبارك(Peter Ben Embarek) الذي كشف عن خفاياه وأسراره لأول مرة في المقابلة التلفزيونية التي بُثت على التلفزيون الدنماركي في 13 أغسطس 2021.

 

فقد أظهر رئيس فريق التحقيق لمنظمة الصحة العالمية بعض المعلومات التي كانت تخفى على عامة الناس، منها بأن هناك مضايقات صينية قد مُورست عليهم أثناء عملهم في الصين، كما أن الفريق الصيني المشارك في التحقيق رفض في البداية كلياً إدخال فرضية التسرب المخبري في التقرير الختامي، كما عارض أية إشارة إليها، أو حتى التوصية بإجراء دراسات مستقبلية حولها. كما قال في اللقاء التلفزيوني حول نظرية التسرب الفيروسي من المختبر بأنه من المحتمل بأن أحد العلماء من المختبر قد أحضر معه الفيروس عند جمعه لعينات من الخفاش في الكهوف الصينية، فأصابه المرض أولاً، ونقل العدوى إلى الآخرين في المختبر، ثم إلى الخارج، كما أضاف رئيس فريق منظمة الصحة حول تسرب الفيروس بأن أخطاءً بشرية أثناء إجراء التجارب تكون قد وقعت فنقلت العدوى من داخل المختبر إلى خارجه. 

 

وعند تولى بايدن زمام الأمور في الولايات المتحدة الأمريكية وجد بأن هناك تضارباً في الرأي الحكومي والمواقف الرسمية، ممثلاً في حكومة الرئيس السابق ترمب وأجهزة الاستخبارات والتجسس الأمريكية حول أصل نظرية التسرب المخبري ومنشأ فيروس كورونا، ولذلك دعا في 26 مايو 2021 كافة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي يبلغ عددها 19 جهازاً أمنياً استخباراتياً لمراجعة نظرية التسرب وجمع المعلومات حولها، كما طلب منهم مضاعفة الجهود وتقديم التقرير في غضون 90 يوماً، أي في نهاية أغسطس من العام الجاري.

 

ومنذ ذلك الوقت وأنا أنتظر هذا التقرير بفارغ الصبر وفي شوقٍ شديد لمعرفة تفاصيله، والآن بعد ظهور التقرير إلى العلن، سأقوم بنقله وتحليله لعله يشفي غليلنا جميعاً في كشف ملابسات هذا السر العظيم، وإظهار الحقائق العلمية حول هذا المرض الغامض الغريب.

الأحد، 5 سبتمبر 2021

من يتحمل مسؤولية الكوارث المناخية؟

الكوارث المناخية التي تنزل على الأمم والشعوب قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض، فالأمطار الغزيرة تنهمر صيفاً وشتاءً بشكل طبيعي دوري في بعض دول العالم، والفيضانات تضرب المناطق الساحلية ومناطق المسطحات المائية بين الحين والآخر حسب مواسم الفيضانات فتقوم بجرف التربة السطحية وإزالة كل ما يقف في طريقها ويعرقل حركتها، وحرائق الغابات عادة ما تحدث في أشهر الصيف الحارة والجافة فتلتهم مناطق واسعة من الأراضي الخضراء والغابات والأحراش، ولذلك لماذا هذا الاهتمام الكبير غير المسبوق من العلماء بصفةٍ خاصة بهذه الظواهر والحالات المناخية في السنوات القليلة الماضية؟ ولماذا انصبت الدراسات العلمية وجهود الباحثين لسبر غور هذه الكوارث والتعرف عليها عن قرب من حيث شدتها، وتكرار حدوثها مع الزمن، إضافة إلى معرفة العوامل والأسباب التي تقف وراءها؟

 

في الحقيقة فإن هذا الاهتمام الشديد لدراسة الكوارث المناخية يعزى إلى عدة أسباب جوهرية اضطرت الإنسان إلى البحث فيها بعمق وبجدية، منها أن هذه الحالات المناخية تحولت إلى قوة ضاربة عنيفة أكثر من العقود الماضية، فهي تنزل بشدة وبإفراط ربما لم يعهد الإنسان في العقود الماضية ولم يشهد مثيلاً لها من حيث تداعياتها على البيئة والإنسان والبنية التحتية التي شيدها وقام بتطويرها سنوات طويلة. ومن ناحية ثانية فإن هذه الكوارث المناخية أصبحت تتكرر أكثر من ذي قبل، كما أن نطاقها الجغرافي توسع فـتغطى مناطق كثيرة لم تُعرف بوقوع مثل هذه الحالات وبهذه الدرجة من القوة والحدة. وأما السبب الثالث فهو الشكوك التي أثارها الإنسان منذ الستينيات من القرن المنصرم حول هذه الظواهر المناخية في أنها ليست كلياً طبيعية وعادية، وأن هناك أمراً ما قد حدث، وتغييراً محدداً قد وقع على الكرة الأرضية فجعلها أكثر عرضة لمثل هذه الكوارث المناخية. والعامل الرابع والأخير وهو محور وجوهر القضية كلها وهو أن للإنسان دوراً في نزول هذه الكوارث، وأن أنشطة الإنسان التنموية على مدار أكثر من قرنين في جميع القطاعات قد مهدت الطريق لوقوع هذه الكوارث، كما أن هذه الأنشطة المتهمة في نزول هذه الكوارث والمسؤولة عن ارتفاع شدتها وحدتها وتكرارها تتمثل جزئياً في حرق الوقود الأحفوري مثل الفحم، والنفط، والغاز الطبيعي في المصانع، ومحطات توليد الكهرباء، وفي السيارات، والطائرات، والقطارات، وفي أية آلة تحرق هذا الوقود. كما أن الإنسان وجه أصابع الاتهام إلى عدة ملوثات تتحمل العبء الكبير والمسؤولية العظمى في نزول هذه الظواهر المناخية غير العادية، وفي مقدمة هذه الملوثات غاز ثاني أكسيد الكربون أولاً، ثم غاز الميثان ثانياً، وأُطلق عليهما بغازات الدفيئة التي تتراكم في الغلاف الجوي فتحبس الحرارة المنعكسة من سطح الأرض في الطبقات السفلى، وتؤدي إلى رفع درجة حرارة الأرض وزيادة سخونتها، فتحدث ظاهرة "التغير المناخي"، والتي ينجم عنها تفاقم الحالات المناخية من حيث شدة وقوعها، وزيادة تكرارها مع الوقت وفي مناطق جغرافية واسعة.

 

فكل هذه الأسباب وجهت أنظار العلماء أولاً نحو هذه الكوارث المناخية أو ظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري، ثم دخلت هذه الظاهرة ضمن جدول أعمال رجال السياسة والحكم كقضية دولية تحتاج إلى حلٍ جماعي مشترك، فكان أول ظهور رسمي لها في اجتماعٍ تاريخي للأمم المتحدة وعُرف بقمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، حيث أجمعت الدول على واقعية هذه الظاهرة والأزمة المناخية الدولية، وأقرت ما أُطلق عليها بالاتفاقية الإطارية للتغير المناخي.

 

والنقاش حول هذه القضية المناخية تغير مع الوقت ومع نضوج فكر الإنسان وعمق علمه ومعرفته بخفايا هذه الظاهرة المناخية الدولية، ففي السنوات الأولى كان هناك شك عن وجود أي دور للإنسان ولأنشطته التنموية في وقوع هذه الظواهر المناخية المفرطة، وأنها مجرد دوران طبيعي للمناخ الدولي، حيث يكون وقوعه بين مدٍ وجزر من ناحية الأمطار والفيضانات والحرائق وغيرها، ولكن هذه الريبة والشك في دور الإنسان بدأ ينكمش قليلاً مع الوقت، فمع ازدياد الأبحاث العلمية حول هذه القضية وإجراء القياسات الميدانية حول سخونة الأرض والتي أكدت ارتفاع حرارتها بدرجة ملحوظة، إضافة إلى التداعيات الأخرى كارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة حموضتها، فكل هذه الأبحاث الموثوقة وجهت أصابع الاتهام والمسؤولية جزئياً نحو أيدي الإنسان والملوثات التي يطلقها منذ قرنين على الهواء الجوي. والآن المستوى الثالث من النقاش الحاد يدور حول نسبة اسهام الإنسان في وقوع هذه الكوارث المناخية، فإلى أي مدى يتحمل الإنسان مسؤوليتها؟

 

وللإجابة عن هذا السؤال الشديد الصعوبة والتعقيد، قامت مجموعة متخصصة من العلماء بمبادرة ذاتية تحت مسمى "مسببات المناخ الدولي"(World Weather Attribution)، حيث يقوم العلماء بإجراء بحوث مستفيضة حول كل كارثة مناخية عنيفة تحدث في دول العالم فيقيِّمون دور ومسؤولية الإنسان في وقوعها. وكان آخر بحث قاموا به هو الفيضانات التي نزلت على القارة الأوروبية في يوليو من العام الجاري ونُشر هذا البحث في 23 أغسطس من العام الجاري. ففي الفترة من 12 إلى 15 يوليو وقع كرب مناخي عصيب على عدة دول أوروبية منها ألمانيا، وبلجيكا، ولوكسمبرج، وهولندا، حيث انهمرت الأمطار بغزارة مفرطة على هذه الدول مما تسبب في ارتفاع مستوى الأنهار وحدوث فيضانات أدت إلى انجراف التربة فتحركت سريعاً في المدن كجريان الأنهار، وأوقعت خسائر بشرية ومادية وتدمير للبنية التحتية، فقد مات 222، وهدمت جسور وأنفاق وطرق سريعة، كما تدمرت الكثير من الممتلكات الشخصية كالمنازل والسيارات. وجدير بالذكر فإن كلفة هذه الكارثة حسب تقديرات "جمعية التأمين الألمانية" تتراوح بين 4.5 إلى 5.5 بليون يورو في ألمانيا، ونحو 0.35 بليون يورو في بلجيكا.

  

 وقد توصلت الدراسة إلى استنتاج عام هو أن الأنشطة التنموية للإنسان المتمثلة في انبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي وحدوث التغير المناخي وسخونة الأرض كانت من أسباب وقوع هذا الكرب العظيم على هذه الدول الأوروبية، فالتغير المناخي الذي تشهده الكرة الأرضية فاقم من شدة الأمطار من جهة وزاد في مدتها من جهة أخرى، ولذلك فارتفاع حرارة كوكبنا بسبب الإنسان زادت من كمية هطول الأمطار الغزيرة بنسبة تتراوح بين 3 إلى 19%. كذلك أشارت الدراسة إلى أن التغير المناخي وسخونة الأرض نتيجة لانبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي زادت من احتمال وقوع هذه الكوارث النادرة التي قد تحدث مرة كل 400 عام بنسبة تتراوح بين 20 إلى 900%. 

 

ولذلك منذ ظهور قضية التغير المناخي وحتى يومنا هذا انكشفت الكثير من الحقائق التي تحظى بشبه إجماع من العلماء ورجال السياسة، وهذه الحقائق هي:

أولاً: هناك زيادة مشهودة في أعداد الكوارث المناخية، وارتفاع ملحوظ في شدتها وقوتها، واتساع في نطاقها الجغرافي.

ثانياً: هناك عدة ملوثات تنبعث من أنشطة الإنسان المختلفة مثل ثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، وأكسيد النيتروز، إضافة إلى المركبات العضوية التي تحتوي على الهالوجينات، وهذه المجموعة الكبيرة من الملوثات تتميز بالاستقرار في الغلاف الجوي والتراكم فيه، وقدرتها على حبس الحرارة التي تنعكس من سطح الأرض، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارتها.

ثالثاً: هذه الملوثات التي أطلقها الإنسان إلى الهواء الجوي والتي تؤدي إلى سخونة الأرض وتداعيات أخرى كثيرة هي من العوامل التي تسبب في زيادة وقوع الكوارث الطبيعية غير العادية والمفرطة في شدتها، إضافة إلى تكرار حدوثها في مناطق جغرافية واسعة، أي أن الإنسان يتحمل مسؤولية نزول هذه الكوارث، ولكن من غير المعروف حتى الآن نسبة إسهام الإنسان في وقوعها، وفي تقديري فإن هذه النسبة ستكون مجهولة ولا يمكن تقديرها لارتباطها بعوامل ومتغيرات مناخية وغير مناخية كثيرة.