الأحد، 5 سبتمبر 2021

من يتحمل مسؤولية الكوارث المناخية؟

الكوارث المناخية التي تنزل على الأمم والشعوب قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض، فالأمطار الغزيرة تنهمر صيفاً وشتاءً بشكل طبيعي دوري في بعض دول العالم، والفيضانات تضرب المناطق الساحلية ومناطق المسطحات المائية بين الحين والآخر حسب مواسم الفيضانات فتقوم بجرف التربة السطحية وإزالة كل ما يقف في طريقها ويعرقل حركتها، وحرائق الغابات عادة ما تحدث في أشهر الصيف الحارة والجافة فتلتهم مناطق واسعة من الأراضي الخضراء والغابات والأحراش، ولذلك لماذا هذا الاهتمام الكبير غير المسبوق من العلماء بصفةٍ خاصة بهذه الظواهر والحالات المناخية في السنوات القليلة الماضية؟ ولماذا انصبت الدراسات العلمية وجهود الباحثين لسبر غور هذه الكوارث والتعرف عليها عن قرب من حيث شدتها، وتكرار حدوثها مع الزمن، إضافة إلى معرفة العوامل والأسباب التي تقف وراءها؟

 

في الحقيقة فإن هذا الاهتمام الشديد لدراسة الكوارث المناخية يعزى إلى عدة أسباب جوهرية اضطرت الإنسان إلى البحث فيها بعمق وبجدية، منها أن هذه الحالات المناخية تحولت إلى قوة ضاربة عنيفة أكثر من العقود الماضية، فهي تنزل بشدة وبإفراط ربما لم يعهد الإنسان في العقود الماضية ولم يشهد مثيلاً لها من حيث تداعياتها على البيئة والإنسان والبنية التحتية التي شيدها وقام بتطويرها سنوات طويلة. ومن ناحية ثانية فإن هذه الكوارث المناخية أصبحت تتكرر أكثر من ذي قبل، كما أن نطاقها الجغرافي توسع فـتغطى مناطق كثيرة لم تُعرف بوقوع مثل هذه الحالات وبهذه الدرجة من القوة والحدة. وأما السبب الثالث فهو الشكوك التي أثارها الإنسان منذ الستينيات من القرن المنصرم حول هذه الظواهر المناخية في أنها ليست كلياً طبيعية وعادية، وأن هناك أمراً ما قد حدث، وتغييراً محدداً قد وقع على الكرة الأرضية فجعلها أكثر عرضة لمثل هذه الكوارث المناخية. والعامل الرابع والأخير وهو محور وجوهر القضية كلها وهو أن للإنسان دوراً في نزول هذه الكوارث، وأن أنشطة الإنسان التنموية على مدار أكثر من قرنين في جميع القطاعات قد مهدت الطريق لوقوع هذه الكوارث، كما أن هذه الأنشطة المتهمة في نزول هذه الكوارث والمسؤولة عن ارتفاع شدتها وحدتها وتكرارها تتمثل جزئياً في حرق الوقود الأحفوري مثل الفحم، والنفط، والغاز الطبيعي في المصانع، ومحطات توليد الكهرباء، وفي السيارات، والطائرات، والقطارات، وفي أية آلة تحرق هذا الوقود. كما أن الإنسان وجه أصابع الاتهام إلى عدة ملوثات تتحمل العبء الكبير والمسؤولية العظمى في نزول هذه الظواهر المناخية غير العادية، وفي مقدمة هذه الملوثات غاز ثاني أكسيد الكربون أولاً، ثم غاز الميثان ثانياً، وأُطلق عليهما بغازات الدفيئة التي تتراكم في الغلاف الجوي فتحبس الحرارة المنعكسة من سطح الأرض في الطبقات السفلى، وتؤدي إلى رفع درجة حرارة الأرض وزيادة سخونتها، فتحدث ظاهرة "التغير المناخي"، والتي ينجم عنها تفاقم الحالات المناخية من حيث شدة وقوعها، وزيادة تكرارها مع الوقت وفي مناطق جغرافية واسعة.

 

فكل هذه الأسباب وجهت أنظار العلماء أولاً نحو هذه الكوارث المناخية أو ظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري، ثم دخلت هذه الظاهرة ضمن جدول أعمال رجال السياسة والحكم كقضية دولية تحتاج إلى حلٍ جماعي مشترك، فكان أول ظهور رسمي لها في اجتماعٍ تاريخي للأمم المتحدة وعُرف بقمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، حيث أجمعت الدول على واقعية هذه الظاهرة والأزمة المناخية الدولية، وأقرت ما أُطلق عليها بالاتفاقية الإطارية للتغير المناخي.

 

والنقاش حول هذه القضية المناخية تغير مع الوقت ومع نضوج فكر الإنسان وعمق علمه ومعرفته بخفايا هذه الظاهرة المناخية الدولية، ففي السنوات الأولى كان هناك شك عن وجود أي دور للإنسان ولأنشطته التنموية في وقوع هذه الظواهر المناخية المفرطة، وأنها مجرد دوران طبيعي للمناخ الدولي، حيث يكون وقوعه بين مدٍ وجزر من ناحية الأمطار والفيضانات والحرائق وغيرها، ولكن هذه الريبة والشك في دور الإنسان بدأ ينكمش قليلاً مع الوقت، فمع ازدياد الأبحاث العلمية حول هذه القضية وإجراء القياسات الميدانية حول سخونة الأرض والتي أكدت ارتفاع حرارتها بدرجة ملحوظة، إضافة إلى التداعيات الأخرى كارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة حموضتها، فكل هذه الأبحاث الموثوقة وجهت أصابع الاتهام والمسؤولية جزئياً نحو أيدي الإنسان والملوثات التي يطلقها منذ قرنين على الهواء الجوي. والآن المستوى الثالث من النقاش الحاد يدور حول نسبة اسهام الإنسان في وقوع هذه الكوارث المناخية، فإلى أي مدى يتحمل الإنسان مسؤوليتها؟

 

وللإجابة عن هذا السؤال الشديد الصعوبة والتعقيد، قامت مجموعة متخصصة من العلماء بمبادرة ذاتية تحت مسمى "مسببات المناخ الدولي"(World Weather Attribution)، حيث يقوم العلماء بإجراء بحوث مستفيضة حول كل كارثة مناخية عنيفة تحدث في دول العالم فيقيِّمون دور ومسؤولية الإنسان في وقوعها. وكان آخر بحث قاموا به هو الفيضانات التي نزلت على القارة الأوروبية في يوليو من العام الجاري ونُشر هذا البحث في 23 أغسطس من العام الجاري. ففي الفترة من 12 إلى 15 يوليو وقع كرب مناخي عصيب على عدة دول أوروبية منها ألمانيا، وبلجيكا، ولوكسمبرج، وهولندا، حيث انهمرت الأمطار بغزارة مفرطة على هذه الدول مما تسبب في ارتفاع مستوى الأنهار وحدوث فيضانات أدت إلى انجراف التربة فتحركت سريعاً في المدن كجريان الأنهار، وأوقعت خسائر بشرية ومادية وتدمير للبنية التحتية، فقد مات 222، وهدمت جسور وأنفاق وطرق سريعة، كما تدمرت الكثير من الممتلكات الشخصية كالمنازل والسيارات. وجدير بالذكر فإن كلفة هذه الكارثة حسب تقديرات "جمعية التأمين الألمانية" تتراوح بين 4.5 إلى 5.5 بليون يورو في ألمانيا، ونحو 0.35 بليون يورو في بلجيكا.

  

 وقد توصلت الدراسة إلى استنتاج عام هو أن الأنشطة التنموية للإنسان المتمثلة في انبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي وحدوث التغير المناخي وسخونة الأرض كانت من أسباب وقوع هذا الكرب العظيم على هذه الدول الأوروبية، فالتغير المناخي الذي تشهده الكرة الأرضية فاقم من شدة الأمطار من جهة وزاد في مدتها من جهة أخرى، ولذلك فارتفاع حرارة كوكبنا بسبب الإنسان زادت من كمية هطول الأمطار الغزيرة بنسبة تتراوح بين 3 إلى 19%. كذلك أشارت الدراسة إلى أن التغير المناخي وسخونة الأرض نتيجة لانبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي زادت من احتمال وقوع هذه الكوارث النادرة التي قد تحدث مرة كل 400 عام بنسبة تتراوح بين 20 إلى 900%. 

 

ولذلك منذ ظهور قضية التغير المناخي وحتى يومنا هذا انكشفت الكثير من الحقائق التي تحظى بشبه إجماع من العلماء ورجال السياسة، وهذه الحقائق هي:

أولاً: هناك زيادة مشهودة في أعداد الكوارث المناخية، وارتفاع ملحوظ في شدتها وقوتها، واتساع في نطاقها الجغرافي.

ثانياً: هناك عدة ملوثات تنبعث من أنشطة الإنسان المختلفة مثل ثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، وأكسيد النيتروز، إضافة إلى المركبات العضوية التي تحتوي على الهالوجينات، وهذه المجموعة الكبيرة من الملوثات تتميز بالاستقرار في الغلاف الجوي والتراكم فيه، وقدرتها على حبس الحرارة التي تنعكس من سطح الأرض، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارتها.

ثالثاً: هذه الملوثات التي أطلقها الإنسان إلى الهواء الجوي والتي تؤدي إلى سخونة الأرض وتداعيات أخرى كثيرة هي من العوامل التي تسبب في زيادة وقوع الكوارث الطبيعية غير العادية والمفرطة في شدتها، إضافة إلى تكرار حدوثها في مناطق جغرافية واسعة، أي أن الإنسان يتحمل مسؤولية نزول هذه الكوارث، ولكن من غير المعروف حتى الآن نسبة إسهام الإنسان في وقوعها، وفي تقديري فإن هذه النسبة ستكون مجهولة ولا يمكن تقديرها لارتباطها بعوامل ومتغيرات مناخية وغير مناخية كثيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق