الخميس، 31 أغسطس 2023

لا سيادة للدول في قضايا التلوث


تعتزم اليابان منذ سنوات صرف المخلفات السائلة منخفضة الاشعاع مباشرة في المحيط الهادئ وفي مياهها الإقليمية التي تقع تحت سيادتها وسيطرتها السياسية والعسكرية، وأخيراً في 24 أغسطس بدأت فعلياً بصرف هذه المياه الآسنة المشعة إلى السواحل اليابانية المطلة على المحيط الهادئ.

 

وهذه المخلفات التي يبلغ حجمها حالياً قرابة 1.37 طن قد نجمت عن كارثة الزلزال العنيف وموجات تسونامي العاتية والفيضانات التي ضربت مقاطعة فوكوشيما في 11 مارس 2011، وأحدثت عطلاً في نظام التبريد في مفاعل دايشي لتوليد الكهرباء في فوكوشيما، مما أدى إلى انبعاث المواد المشعة إلى الهواء الجوي، وتسرب الإشعاع إلى مياه التبريد والتربة في تلك المنطقة.

 

ولذلك للوهلة الأولى، ومن خلال قراءة سطحية للخبر، فإن صرف مثل هذه المخلفات الناجمة من مرفقٍ داخلي في اليابان يبدو أمراً طبيعياً يخص الدولة نفسها، ويُعتبر شأناً داخلياً يهم الحكومة والشعب الياباني فقط، ويقع ضمن سيادة وهيمنة الدولة على ثرواتها ومكوناتها البيئية وحريتها المطلقة في التصرف في مثل هذه القضايا البيئية المحلية حسب المصالح القومية.

 

ولكن المتابع لتطورات هذه القضية الداخلية منذ بروزها على السطح، يجد بأن مثل هذا الإجراء الياباني المتمثل في صرف المخلفات السائلة المشعة في سواحلها ومياهها الإقليمية التي تقع تحت سيادتها المباشرة، قد أثار موجات تسونامي غاضبة على كافة المستويات داخلياً من الشعب الياباني نفسه، وبخاصة من الصيادين الذين مصدر رزقهم الوحيد هو ما يجود به البحر عليهم من خيراته وثرواته السمكية، أو خارجياً من دول عدة مثل الصين، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج، وروسيا، والفلبين وغيرها من الدول.

 

فما هي المخالفة التي ارتكبتها اليابان عند صرف هذه المياه في المناطق التي تسيطر عليها، وتعد تابعة لها، مما أثار استياء وردة فعل قوية من مجتمع الصيادين خاصة؟

 

وما هي التجاوزات التي ستنجم عن هذه العملية عند قيام اليابان بها؟

 

وما هي أسباب غضب واحتجاج هذه الدول على هذا الإجراء الياباني المحلي، بحيث إن الصين استدعت السفير الياباني لدى بكين لإبداء غضبها واستيائها؟

  

في الواقع، وبالرغم من أن لليابان الحق في إدارة شؤونها الداخلية البيئية والتصرف حسب ما تُملي عليها مصالحها القومية في المكونات البيئية التي تمتلكها وتقع تحت سيادتها، كساحل المحيط الهادئ، إلا أن المعضلة تكمن في أن تداعيات مثل هذا التصرف، وهو صرف مياه مشعة في المحيط لا تنعكس فقط على البيئة اليابانية والثروات التي تمتلكها فحسب، وإنما تقع مردوداتها الضارة وتمتد آثارها السلبية على كل دولة تشترك مع اليابان في هذا المحيط العظيم الواسع، فتقع حدودها الجغرافية ومياهها الإقليمية على مياه المحيط الهادئ. ولذلك فسيادة اليابان على مياه المحيط التي تقع ضمن سيادتها تنتهي عندما تتوغل وتؤثر على سيادة الدول الأخرى على مياهها من المحيط والخيرات السمكية التي تحوم في منطقتها الخاصة بها.

 

فهذه المياه المشعة التي صُرفت في المحيط فإن المواد المشعة لا تبقى في الجزء من المحيط الذي يقع تحت سيادة اليابان، وإنما تتحرك وتتراكم مع الزمن وبسرعة شديدة عبر التيارات المائية والرياح البحرية السطحية فتنتقل إلى مسافة عشرات الآلاف من الكيلومترات، فتصل إلى حدود المياه الإقليمية القريبة كالصين وكوريا الجنوبية والفلبين، وإلى الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية كساحل كاليفورنيا وولاية واشنطن في شمال غرب أمريكا.

 

 كذلك فإن هذه المياه المشعة لا تؤثر فقط وتفسد جودة الأسماك التي يتم اصطيادها في المناطق التي تمتلكها اليابان، فالشر الناجم عن هذا الإجراء سيعم الجميع ولن يكون على اليابان فحسب، فالمواد المشعة تتراكم مع الوقت في كل السلسلة الغذائية في المحيط خارج المياه الإقليمية لليابان، أي أن صرف هذه المياه لا يعد الآن شأناً داخلياً يابانياً بحتاً، وإنما تحول إلى قضية إقليمية على نطاق واسع تشترك فيها كل الدول الواقعة على المحيط الهادئ، بل وكل دول العالم التي تستورد الأسماك من اليابان، مما يعني بأن قرار اليابان في صرف المياه المشعة المتراكمة لديها منذ سنوات، والمتزايدة يوماً بعد يوم في الحجم، لن يكون قراراً سيادياً خالصاً، ولن يتم دون استشارة ومشاركة الدول الأخرى والمنظمات الأممية المعنية، مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. 

فهذه الأطنان من المياه منخفضة الاشعاع بالرغم من أنها خضعت لعملية إزالة المواد المشعة باستخدام التقنية التي تقوم بترشيح المواد المشعة، والتي تُعرف بالنظام المتطور لمعالجة السوائل(Advanced Liquid Processing System)، إلا أن تراكيز منخفضة من بعض الملوثات المشعة ستبقى في المياه دون أن يتم التخلص منها كلياً لعدم وجود حالياً التقنية التي تستطيع التخلص كلياً من الملوثات المشعة، وبخاصة وبشكلٍ رئيس النظير المشع للهيدروجين الذي يحتوي على ثلاث ذرات من الهيدروجين بدلاً من ذرتين وهو تريتيم(tritium)، والنظير المشع للكربون(carbon-14)، إضافة إلى ملوثات مشعة أخرى مثل سترونتيم(strontium-90)، وسيزيم(caesium-137)، و(iodine-129).    

فالنسبة للتريتيم الذي هو المكون الأساس لهذه المياه المشعة، فلا توجد معايير واحدة تم الاتفاق عليها بين دول العالم بالنسبة للحد الآمن والحد المسموح به في البيئة البحرية، فالمواصفات اليابانية هي 60 ألف بكريل من التريتيم في اللتر الواحد من الماء، في حين أن منظمة الصحة العالمية تفيد بأن الحد المقبول هو 10 آلاف، والاتحاد الأوروبي يحدد المواصفة عند 100 بكريل في اللتر، ولذلك في تقديري فإن هذه المواصفات تضعها الدول حسب ظروفها الواقعية الراهنة، وما توصل إليه عقل الإنسان من قُدرات وإمكانات تقنية وأجهزة للمعالجة في تلك الفترة من الزمن، وليس بناءً على مواصفات علمية وصحية بالنسبة لمخاطر الملوثات الواقعية على الكائنات البحرية وعلى سلامة الإنسان، ولذلك أُطلق عليها بمعايير ومواصفات "الأمر الواقع". ومن المؤسف حقاً أن الإنسان بعد سنوات من الكوارث البيئية التي وقعت في الكثير من دول العالم بسبب التلوث، يرجع إلى الوراء فينفذ سياسة أكل عليها الدهر وشرب وانتهت من القاموس البيئي وهي سياسية "التخفيف للملوثات"، أي نسمح للملوثات المشعة والسامة للولوج في الهواء أو الماء ثم نأمل بتجنب أضرارها من خلال تخفيف وانخفاض تركيزها في هذه الأوساط البيئية.

 

فهذه الحالة اليابانية التي نراها أمامنا اليوم تُعتبر مثالاً واحداً من أمثلة كثيرة عاصرناها في السابق، ويمكن ضربها للتأكيد على أن سيادة الدول على مكونات بيئاتها، وحرية التصرف فيها لا تكون مطلقة وغير مقيدة بضوابط داخلية وخارجية، فهي تنتهي عند التعدي على سيادة الآخرين، كما أن سيادة الدول على عناصر بيئاتها تنتهي عندما تستبيح بيئات الدول الأخرى التي تشترك وترتبط جميعاً معها، سواء أكانت هذه البيئة هي الهواء الجوي، أو الأنهار والبحار والمحيطات التي تدخل وتَعْبُر الحدود الجغرافية للدول.

 

وقد لخصت وزارة الخارجية الصينية هذه الحقيقة في 24 أغسطس مباشرة بعد صرف اليابان لهذه المياه، حيث صدر بيان جاء فيه: "التخلص من المياه المشعة يُعد قضية رئيسة تتعلق بالسلامة النووية ولها آثار عابرة للحدود، وأن المسألة ليست بأي حال من الأحوال تخص اليابان وحدها"، كما جاء في البيان أيضاً: "المحيط ملكية مشتركة للبشرية جمعاء ويشكل تصريف المياه الملوثة عملاً في غاية الأنانية وعدم المسؤولية ولا يراعي المصلحة العامة".

 

الجمعة، 25 أغسطس 2023

تلوث الهواء يُبطل مفعول المضادات الحيوية


من أعظم الاكتشافات العلمية في المجال الطبي وأكثرها فاعلية في علاج المرضى الذين يعانون من حالات العدوى والالتهابات هي المضادات الحيوية بكافة أنواعها وتطبيقاتها وفاعلياتها المتفاوتة في محاربة الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض البشرية والحياة الفطرية. فهذه المضادات الحيوية توسعت دائرة استخداماتها فشملت مجالات علاجية كثيرة، وحافظت على صحة مئات الملايين من البشر من الموت المبكر، أو من المعاناة العصيبة لفترة طويلة من الزمن من تداعيات هذه الأمراض المعدية والالتهابات الداخلية المزمنة.

 

ولكن اليوم انكشفت ظاهرة حديثة نسبياً تتمثل في وجود مواد وجينات وكائنات دقيقة تحارب المضادات الحيوية، وتقاوم فاعليتها لحماية جسم الإنسان، وبالتحديد تفشي البكتيريا التي تقاوم المضادات الحيوية في جسم الإنسان، أو الجينات المقاومة لهذه المضادات. وهذه الظاهرة تحولت الآن إلى قضية بيئية وصحية انتشرت في كل دول العالم، ولكن بدرجات ومستويات متفاوتة، وأصبحت تشكل تهديداً عقيماً ومتسارعاً للصحة العامة على المستوى الدولي، حتى أن هذه الحالة المرضية المشتركة عالمياً يُطلق عليها بالوباء الصامت.

 

وهناك الكثير من الأبحاث البيئية الطبية التي توغلت بعمق في واقعية هذه الظاهرة على الأرض، ودرست في أسباب تفشي هذه الظاهرة، والعوامل التي تسبب انتشارها على المستوى الدولي، ومنها دراسة نُشرت في 12 فبراير 2023 في "المجلة الإلكترونية"(Epub) تحت عنوان:" العبء العالمي لمقاومة البكتيريا لمضادات الميكروبات لعام 2019: تحليل منهجي".

 

فقد أكد هذا البحث الشامل بأن مقاومة المضادات الحيوية تعتبر اليوم من الأسباب الرئيسة للوفيات في كل أنحاء العالم من عدة أوجه، منها من ناحية الموت المبكر، ومنها من خلال طول فترة العلاج، إضافة إلى الجانب الاقتصادي والارتفاع الشديد في كلفة العلاج وفقدان البشر في سن العطاء والإنتاج. فقد قدَّر الباحثون عدد الوفيات المرتبط بمقاومة المضادات الحيوية في 204 دول، من بين 471 مليون إنسان في عام 2019 إلى 4.95 مليون وفاة في سن مبكرة على المستوى الدولي، وقرابة 1.5 مليون وفاة لها علاقة بعدوى الجهاز التنفسي.

 

واليوم، وبالتحديد في أغسطس 2023 نُشرت دراسة شاملة تُعد هي الأولى من نوعها في مجلة طبية معروفة بمصداقيتها العلمية، هي مجلة "لانست صحة الكوكب" (Lancet Planetary Health)، حيث شملت 116 دولة حول العالم، واستغرقت قرابة 20 سنة، في الفترة من عام 2000 إلى 2018. وصدرت الدراسة الحالية تحت عنوان: "العلاقة بين تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة والمقاومة السريرية للمضادات الحيوية: تحليل عالمي"، فشملت 43 نوعاً من المضادات الحيوية، وتسعة أنواع من الجراثيم المسببة للأمراض.

 

وهذه الدراسة تناولت أحد جوانب قضية مقاومة المضادات الحيوية، وهو العوامل التي تؤدي إلى تفشيها على المستوى الدولي، حيث ركزت على العامل البيئي المتمثل في تلوث الهواء، وبخاصة تلوث الهواء بالدخان، أو الجسيمات الدقيقة. وقد هدفت الدراسة إلى التعرف على علاقة تلوث الهواء بالدخان المتناهي في الصغر الذي ينبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء وحرق البخور والعود والتدخين، والذي يساوي قطره 2.5 ميكروميتر أو أقل من ذلك، وانتشار حالات مقاومة المضادات الحيوية والميكروبية من بكتيريا وغيرها، أو بعبارة أخرى تحاول الدراسة الإجابة عن السؤال التالي: هل هناك رابط بين ملوثات الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي وازدياد ظاهرة مقاومة المضادات البكتيرية المسببة للأمراض؟

 

وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات، منها ما يلي:

أولاً: هناك علاقة بين تلوث الهواء بالدخان ومقاومة المضادات الحيوية، وهذه العلاقة تزداد سوءاً كلما ارتفع تركيز الدخان في الهواء الجوي، فارتفاع مستوى تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر يزيد من مخاطر نمو هذه الظاهرة في العالم.

 

ثانياً: أشارت الدراسة إلى أن هذه العلاقة تتضح وتشتد في كل سنة مع تفاقم تركيز الدخان في الهواء خلال فترة الدراسة التي استغرقت قرابة عقدين من الزمن، فترفع من مخاطر مقاومة المضادات، فكل نسبة زيادة 10% من الدخان، تزيد من مقاومة المضادات بنسبة 1.1%.

ثالثاً: تُقدر الدراسة بأن هذه الحالة أدت في عام 2018 إلى وفاة قرابة 480 ألف، قضوا نحبهم في سن مبكرة. كما تستشرف الدراسة أن هذه الحالة ستتفاقم لارتفاع تركيز الدخان مع الوقت، فبحلول عام 2050 فإن مقاومة المضادات الحيوية سترتفع بنسبة 17%، والذين يوارى جثمانهم الثرى في سن مبكرة يقدرون بنحو 840 ألف.

رابعاً: الجسيمات الدقيقة، أو الدخان له خصوصية من بين ملوثات الهواء التي لا تعد ولا تحصى، فالدخان يستطيع امتصاص الملوثات الكيميائية والحيوية كالبكتيريا المقاومة للمضادات على سطحه، فتنمو هذه الكائنات المرضية على ظهر الدخان وتكون مستعمرة حيوية، وعند انتقال الدخان إلى الهواء الجوي من مصادره الكثيرة في داخل المنزل وخارجه، فإن الإنسان يستنشق مباشرة هذه الجسيمات الملوثة بالأحياء المسببة للأمراض، فتدخل إلى جسمه عن طريق التنفس، أو عن طريق الجلد وتنتقل عبر الدورة الدموية إلى جميع خلايا الجسم، فتؤدي إلى مقاومة المضادات الحيوية، وأخيراً التأخر في العلاج من المرض المعدي، أو الموت المبكر.

خامساً: كشفت الدراسة عن مستويات مرتفعة من مقاومة المضادات الحيوية في دول شمال أفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا، مقارنة بمستويات أقل في دول  أوروبا وشمال أمريكا.

 فهذه الدراسة الجديدة تكشف عن عامل خطير يهدد الصحة العامة، ليس للبشر فحسب وإنما للحياة الفطرية الحيوانية على حدٍ سواء، وهذا العامل يضاف إلى العوامل الأخرى التي تؤدي إلى مقاومة المضادات الحيوية، مثل الانبعاثات الحيوية البكتيرية من محطات معالجة مياه المجاري، ومن المستشفيات، ومن المزارع التي تستخدم السماد العضوي من مصادر حيوانية، ومن مياه المجاري التي تُصرف في المسطحات المائية. كما أن هذه الدراسة تكشف النقاب عن بعدٍ جديد، ودور لم يعرفه الإنسان من قبل لملوثات الهواء الجوي من الجسيمات الدقيقة، إضافة إلى الجوانب الصحية الكثيرة الأخرى، وهي قُدرة الدخان على حَمْل البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، إضافة إلى حمل الجينات المقاومة للمضادات، ثم نقلها عبر الهواء إلى أبعد المناطق، وبعيداً عن مصدر التلوث، وإصابة الناس بالأمراض والعلل القاتلة.

 

فتلوث الهواء فعلاً يستحق أن يُصنَّف من قبل منظمة الصحة العالمية كمادة من المحتمل أن تكون مسرطنة للإنسان، وتلوث الهواء فعلاً يستحق وبكل جدارة أن أُطلق عليه قنبلة دمار شامل للجسم البشري برمته.

الجمعة، 18 أغسطس 2023

ماذا تعني تحذيرات أطباء بريطانيا المستمرة؟


عندما يُحذر الطبيب المريض من القيام بأية ممارسات، أو عادات مُحددة غير سليمة، فإن هذا التحذير يصب مباشرة في مصلحة المريض، ويهدف إلى حماية صحته من تفاقم المرض الذي يعاني منه، وعندما ينبه الأطباء المجتمع برمته من قضية معينة واحدة، فلا بد من أن هذه القضية ستكون لها أبعاد وتداعيات صحية خطيرة تهدد الأمن الصحي العام لكافة أفراد المجتمع،  فهم بهذه التحذيرات العامة يسعون إلى وقاية هذا المجتمع وحمايته من الأمراض والعلل التي حتماً ستنتج عن عدم مكافحة ومواجهة هذه القضية بالسلاح المناسب والقوي الذي يمنع المجتمع كله من السقوط في شر هذه الأسقام الحادة والمزمنة. 


ففي المملكة المتحدة يوجه الأطباء والمتخصصون في مجال الصحة العامة، ومنذ عقود طويلة نداءات وخطابات إلى رجال السياسة والتشريع بضرورة التنبه إلى قضية بيئية صحية تقتل البشر من جهة، وتفسد حياتهم وتعرضهم للوقوع في الأمراض المزمنة المستعصية من جهةٍ أخرى، فهم منذ زمن يرفعون العلم الأحمر ضد هذه القضية العاتية، والشر العميم. وهذه القضية التي شغلت بال المعنيين بصحة الناس والمهتمين بعلاجهم في كل مدن العالم بدون استثناء هي تلوث الهواء، حيث تُطلق عليه منظمة الصحة العالمية بالقاتل الصامت، علاوة على تصنيف الوكالة الدولية لأبحاث السرطان، وهي ذراع منظمة الصحة العالمية المختص بأبحاث السرطان تلوث الهواء بأنه "مُسرطن للبشر".

 

وآخر خطاب تم توجيهه إلى رئيس وزراء بريطانيا وإلى السلطة التشريعية كان في 4 أغسطس 2023، ووقع عليه من أكثر من 400 طبيب، وفي هذا الخطاب تحذير واضح لمواجهة تهديدات تلوث الهواء الذي له تداعيات صحية وخيمة بشكلٍ يومي على المواطن البريطاني. فتلوث الهواء يمثل خطراً وتهديداً واقعين للبشر، حيث يقضي سنوياً ما بين 28 ألف إلى 36 ألف بريطاني نحبهم بسبب استنشاق الهواء الملوث، وتُقدر الكلفة التي تتحملها الحكومة من هذه الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء بنحو 1.6 بليون جنيه للفترة من 2017 إلى 2025. 


وجاء في هذا الخطاب بأن: "تلوث الهواء يؤثر على كل فرد منَّا قبل أن نُولد حتى نصبح كباراً في السن، فتلوث الهواء لا يسبب فقط أمراض الجهاز التنفسي مثل الربو، ولكن يؤدي أيضاً إلى أمراض القلب مثل النوبات القلبية، وعدم انتظام دقات القلب، والسكتة الدماغية، واختلال في عملية نمو الأطفال، وسرطان الرئة، والخرف". كما أضاف الخطاب بأن: "التعرض طويل المدى لتلوث الهواء له علاقة بحالات مرضية مزمنة مثل أمراض القلب، وسرطان الرئة، وخفض معدل العمر المتوقع للإنسان، وتلوث الهواء لفترة قصيرة يسبب الكحة والسعال، والصفير، ونوبات الربو، وزيادة الدخول إلى المستشفيات".


كما أُرسلتْ من قَبْل بيانات وخطابات عامة أخرى أيضاً إلى رئيس الوزراء ورجال السياسة والتشريع عامة، منها الخطاب الذي نُشر في 15 يونيو 2023 تزامناً مع "يوم الهواء النظيف"، حيث وقَّع 36 عالماً معظمهم من العاملين في مجال الرعاية الصحية، وجاء فيه:" لقد قدَّم لنا العلماء أدلة مفزعة حول تلوث الهواء، ولكننا كعاملين في مجال الرعاية الصحية تُركنا على الخط الأمامي، ونواجه الآثار المفجعة للهواء الملوث"، كما جاء فيه: "نحن نتعامل مع أطفال يعانون من عدم القدرة على التنفس، وآباء في حزن بسبب فقدان أطفالهم، وشباب وقعوا في السرطان وأمراض أخرى مزمنة، وكل هذا بسبب الهواء السام الذي نستنشقه".


كذلك أُرسلت خطابات مماثلة إلى رئيس الوزراء الأسبق بورس جونسون، ومنها بالتحديد في 21 يونيو 2021، حيث أصدر الأطباء وعلماء البيئة تحذيراً إلى رجال السياسة والتشريع لعدم التهاون في قضية تلوث الهواء، وبخاصة من عوادم السيارات، والتي تسبب وفاة البشر في سن مبكرة، كما دعوا في الخطاب إلى تحسين جودة الهواء باتخاذ كافة الإجراءات المناسبة، منها تخصيص مناطق في لندن منخفضة انبعاث الملوثات (ultra low emission zone)، علماً بأن بريطانيا، ولندن خاصة ترتفع فيها نسبة الملوثات في الهواء الجوي إلى درجة أنها تفوق معايير منظمة الصحة العالمية. ومن ضمن ما ورد في الخطاب: "يُعد تلوث الهواء من أكبر العوامل البيئية المهددة للصحة، ويساهم في العديد من الحالات الصحية الخطيرة والمزمنة التي تصيب كل أعضاء الجسم. وعلى الرغم من ذلك إلا أن المواصفات في المملكة المتحدة للتلوث بالجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر، والتي تعد الأخطر مقارنة بباقي الملوثات، هي حالياً أكثر من ضعف توصيات منظمة الصحة العالمية".


وفي الحقيقة فإن مثل هذه الخطابات والتحذيرات يجب أن تُوجه إلى كل دول العالم، بدءاً بالمنظمات الأممية المعنية بهموم البيئة كبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وتلك المختصة بشؤون الصحة العامة للبشر مثل منظمة الصحة العالمية، ووصولاً إلى جميع حكومات العالم، فقضايا تلوث الهواء، والبيئة بشكل عام ليست قضايا قِطْرية ومحلية حصرية وخاصة بمدينة واحدة في العالم، وإنما مثل هذه القضايا تعتبر عامة ومشتركة وتعاني منها كل مدن العالم على حدٍ سواء. فمصادر تلوث الهواء، على سبيل المثال موجودة في مدن بريطانيا، كما هي موجودة عندنا في البحرين، وفي معظم مدن العالم الحضرية، فمنها عشرات الآلاف من السيارات التي تبث سمومها الخطرة والمسرطنة إلى الهواء الجوي، ومنها محطات توليد الكهرباء التي تُطلق أيضاً ملوثات سامة تهلك صحة البشر، ومنها كذلك المصانع التي لا تعد ولا تحصى.  


وتداعيات تلوث الهواء في البيئة الداخلية، والخارجية بصفة خاصة تتعدى في بعض الأوقات الحدود الجغرافية المصطنعة للدول، فتتحول إلى قضايا ذات أبعادٍ إقليمية أو دولية. فملوثات الهواء الحمضية، كأكاسيد الكبريت والنيتروجين وغيرهما، تنبعث إلى السماء العليا وتختلط بالماء فتكون المطر الحمضي الذي لا ينزل فقط على الدولة مصدر الملوثات، وإنما ينزل كذلك على الدول المجاورة، فيؤثر على البشر والشجر والحجر. وفي الوقت نفسه هناك غاز ثاني أكسيد الكربون والملوثات الأخرى التي تنبعث من كل شبر في الأرض، ومن كل مدينة غنية وفقيرة على وجه الأرض، فهي جميعها تلوث الهواء الجوي لكوكبنا برمته، وأدت خلال قرنٍ من الزمان إلى وقوع قضية العصر المعقدة والمتشابكة، وهي التغير المناخي وسخونة الأرض وتداعياته البيئية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأمنية، والتي يقع الآن تحت وطأتها وشدتها كل دول العالم، بل وتهدد استدامة العيش على كوكبنا الوحيد، فعجزوا جميعاً منذ أكثر من 50 عاماً عن إيجاد الحل الجماعي العادل والملزم للجميع.


وكما قام أطباء وعلماء بريطانيا بالاهتمام بقضية تلوث الهواء، أتمنى من أطبائنا وعلمائنا في البحرين إدماج قضية تلوث الهواء خاصة، والبعد البيئي عامة في كافة أعمالهم وممارساتهم اليومية، وحث الحكومة على وضع تلوث الهواء على رأس قائمة الأولويات، ودعوتهم إلى تحديد برنامج عمل تنفيذي لخفض مستوى الملوثات من مصادرها المختلفة، سواء أكانت في الهواء، أو الماء، أو التربة، حماية لصحتنا وصحة فلذات أكبادنا من شرور الملوثات. 


الخميس، 10 أغسطس 2023

دراسة تستحق الوقوف أمامها


دراسة يجب أن نقف أمامها طويلاً لنتعظ منها ونأخذ منها الدروس والعبر، ونستخلص منها السياسات المستقبلية والإجراءات التنفيذية لنُسيِّر بها حياتنا اليومية الحالية والمستقبلية.

 

وفي الحقيقة فهي ليست دراسة واحدة فقط، وإنما هي دراسة تفصيلية معمقة تقوم بتحليل 100 بحث علمي أُجري في 20 دولة في مختلف دول العالم، منها الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والبرازيل، والصين، وبريطانيا، حيث هدفت هذه الدراسة الجامعة على سبر غور قضية واحدة فقط، وهي ما إذا كانت هناك علاقة قوية بين تلوث الهواء والتعرض للملوثات الموجودة في الهواء الجوي، سواء الملوثات الأولية أو الثانوية وأمراض القلب عامة التي تصيب الإنسان، ومرض فشل القلب خاصة والموت نتيجة لذلك.

 

ولذلك تأتي أهمية هذه الدراسة في أنها تُقيم الحُجة الجماعية العلمية حول قضية أساسية جوهرية، وهي دور التعرض لتلوث الهواء الجوي، سواء لفترة قصيرة من الزمن، أو فترة طويلة من الزمن على الحالات المرضية المختلفة التي تُصيب القلب، وبخاصة فشل القلب، فإذا أجْمَعت نتائج الدراسات المائة التي تمت مراجعتها، وتقييمها، وتحليلها على استنتاج واحد عام، فهذا يعني أن هناك اجماعاً دولياً حول هذه القضية التي تتم دراستها، وأن هناك أدلة حازمة وحاسمة لا شك فيها، تؤكد على واقعية وفاعلية هذه القضية على المستويين القومي والدولي.

 

فهذه الدراسة المنشورة في الثالث من يوليو 2023 في مجلة "شؤون صحة البيئة"(Environmental Health Perspectives) التي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان: "تأثير تلوث الهواء على فشل القلب: مراجعة وتحليل منهجي"، تُنبه إلى خطورة قضية تلوث الهواء الجوي، وتحذر من التداعيات الحادة والمزمنة لوجود الملوثات بمختلف أنواعها وأحجامها في الهواء على صحة وسلامة الإنسان عامة، وعلى صحة المُضغة التي في جسم الإنسان خاصة، والتي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.

 

فمرض فشل القلب من الأمراض القلبية الشائعة دولياً منذ سنوات طويلة، ويحدث عندما تضعف عضلة القلب عن ضخ الدم إلى باقي أعضاء الجسد. وهناك دراسة منشورة في 18 يناير 2023 في مجلة "مراجعة لأبحاث الأوعية القلبية"( Review of Cardiovascular Report)  تحت عنوان: "العبء الدولي لفشل القلب: مراجعة وتحديث شامل لعلم الأوبئة"، تفيد بأن مرض فشل القلب يؤثر على أكثر من 64 مليون إنسان حول العالم، وقرابة 6.5 أمريكي يعانون من فشل القلب، كما أن هناك 960 ألف حالة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية تُضاف سنوياً إلى الحالات السابقة. كذلك تفيد الدراسة إلى أنه في عام 2018 تسبب فشل القلب في موت أكثر من 379 ألف أمريكي.

 

وتفيد التقارير والدراسات الطبية أن هناك العديد من المظاهر والحالات التي تزيد من مخاطر الإصابة بفشل القلب، منها مرض القلب التاجي، والسكري، وارتفاع ضغط الدم، والبدانة والسمنة المفرطة، إضافة إلى ممارسة العادات والسلوكيات غير الصحية كالتدخين، والغذاء المشبع بالدهون، وشرب الخمر، وعدم ممارسة الرياضة الجسدية. وهناك سبب مهم جداً، وحديث نسبياً عادة ما يتم تجاهله من قبل الكثير من الحكومات، علاوة على الأطباء المتخصصين في أمراض القلب، حيث إن التركيز في التشخيص والعلاج يتجه دائماً نحو الأسباب التقليدية القديمة المعروفة، وهذا العامل المستجد والسبب القوي الذي يُسقط البشر الآن في مرض فشل القلب هو التعرض للآلف من الملوثات التي تشبع بها الهواء الجوي والمنبعثة من الملايين من السيارات، ومحطات توليد الكهرباء والمصانع والطائرات وغيرها من المصادر التي لا تعد ولا تحصى.

 

فدراستنا الحالية التي نتناولها اليوم قامت بمراجعة شاملة وتحليل لمائة دراسة تبحث في العلاقة بين التعرض لتلوث الهواء لفترة قصيرة من الزمن، أي من أقل من شهر واحد، أو فترة طويلة من الزمن لمدة شهر أو أكثر، والإصابة بفشل القلب والموت بسبب ذلك، والملوثات التي تم البحث فيها هي الجسيمات الدقيقة، أو الدخان، وثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، وأول أكسيد الكربون، والأوزون. وقد استنتجت الدراسة إلى أن هناك اجماعاً من 100 دراسة علمية حول استنتاج عام واحد وهو أن تلوث الهواء عامل رئيس في إصابة البشر بمخاطر أمراض القلب، وأن هذه الدراسات تُقدم الدليل الشافي والكافي والحاسم على العلاقة القوية بين التعرض لملوثات الهواء الجوي والسقوط في شباك فشل القلب، سواء تعرض الإنسان لفترة قصيرة أو طويلة من الزمن. وفي الوقت نفسه تقدم الدراسة عدة نظريات لآلية تأثير تلوث الهواء على القلب، منها أن تلوث الهواء مرتبط بالإجهاد التأكسدي(oxidative stress)، والالتهاب الجسدي(systemic inflammation)، واعتلال عصبي اللاإرادي(autonomic imbalance)، حيث إن تلوث الهواء يحفز الإجهاد التأكسدي وينشط حدوث الالتهاب الداخلي في الخلايا، كما أن الأكسجين النشط الذي ينبعث خلال الالتهاب يزيد أيضاً من حالة الالتهاب، وهذا يؤدي إلى إفراز هرمون الإجهاد. فهذه التغيرات الفسيولوجية التي تحدث في الجسم والخلية عند التعرض لملوثات الهواء الجوي تؤدي إلى زيادة ضغط الدم وتداعيات على أداء القلب ووظائف الأوعية القلبية، وتنتج عنها حالات مرضية قلبية متعددة، كما أن كل هذه التغيرات في الجسم ترفع من مخاطر فشل القلب. كذلك فإن التعرض لعدة ملوثات خطرة ومؤكسدة في وقت واحد في الهواء، قد يكون له تأثير مجموعي، تعاوني، وتراكمي على القلب كلما زاد وقت التعرض.

 

وإذا كان هذا هو حال القلب والجسد مع تلوث الهواء، فماذا سيكون حال النفس؟ وهل تتأثر نفسية وعقل الإنسان عندما يتعرض للملوثات؟ والإجابة تأتي في دراسة منشورة في المجلة البريطانية للطب النفسي (British Journal Psychiatry) في الخامس من يوليو 2023 تحت عنوان: "جودة الهواء والصحة العقلية: الدليل، والتحديات، والتوجهات المستقبلية"، حيث أفادت الدراسة عن وجود أدلة دامغة على العلاقة بين جودة الهواء في البيئات الداخلية والخارجية وتدهور الصحة العقلية وحدوث الاضطرابات النفسية العقلية للإنسان الذي يعيش في بيئة ملوثة.

 

والآن فإن الجسد يشكو من تلوث الهواء، والنفس تعاني وتتألم منه، فماذا تبقى منا كبشر لا يقاسي من تداعيات تلوث الهواء؟ فتلوث الهواء قنبلة دمار شامل للإنسان كله.

 

الخميس، 3 أغسطس 2023

التلوث بالرصاص: الغائب الحاضر


عندما كنتُ طالباً في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في مدينة أوستن، عاصمة ولاية تكساس، كانت هناك إعلانات وعبارات تُوضع على محطات وقود السيارات وعلى مضخات ملء السيارة بالوقود، ومكتوب عليها: "جازولين خالي من الرصاص"، أو "جازولين بدون رصاص"(unleaded gasoline).

 

وفي ذلك الوقت كنتُ أبلغ من العمر 18 عاماً، وفي الحقيقة لم أفهم معنى هذه العبارة البسيطة، ولم أستوعب كلياً المقصود منها، ولم أدرك مدلولاتها وانعكاساتها على كافة المستويات، سواء في الداخل الأمريكي أو خارج أمريكا، وهي عبارةْ وجود نوعٍ من وقود السيارات خالي من الرصاص.

     

فهذه العبارة كانت تُمثل تحولاً جوهرياً، ومنعطفاً تاريخياً لعنصر كيميائي يُستخدم أبد الدهر في جميع المجتمعات البشرية، وهو عنصر الرصاص. فالرصاص مع الزمن توسعت دائرة استخداماته، فتوغل في الكثير من المنتجات التي يستعملها البشر بشكلٍ يومي، وفي كل عقد من الزمن كان الإنسان يستحدث ويُبدع منتجاً جديداً يحتوي على الرصاص. فهناك على سبيل المثال لا الحصر مُعدات وأدوات حربية مصنوعة من الرصاص، وهناك أواني منزلية مصنوعة جزئياً أو كلياً من الرصاص، وهناك وقود السيارات، أو الجازولين الذي يُضاف إليه الرصاص العضوي، مثل رباعي ميثيل الرصاص، أو رباعي إيثيل الرصاص من أجل رفع الأوكتان وتحسين أداء محرك السيارات، وهناك الدهان المنزلي والصناعي الذي دخل الرصاص في تركيبته، وهناك أيضاً أنابيب الرصاص التي تُستخدم لنقل مياه الشرب إلى منازلنا، إضافة إلى بطاريات السيارات، وبعض أنواع الكُحل التقليدي. 

 

ومع ازدياد استخدام الرصاص في منتجات لا تعد ولا تحصى، تبين لدى العلماء المراقبين لهذا العنصر، والمتابعين لتحركاته في مكونات وعناصر بيئتنا، بأن هذا العنصر يترشح من هذه المنتجات الكثيرة، وأن هذا العنصر بدأ يزحف رويداً رويداً من عناصر البيئة، كالهواء والماء والتربة إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، ثم يغزو في آخر المطاف ويتراكم ويستقر في جسم الإنسان، وينعكس وجوده على ارتفاع تركيزه في الدم والعظام وباقي أعضاء الجسم. كذلك تأكد للعلماء الذين يقتفون آثار الرصاص وتأثيره على الإنسان بأنه يؤثر على الأطفال خاصة من الناحية الفسيولوجية الجسدية، ومن الناحية النفسية والعقلية والسلوكية، حيث يدهور الرصاص الصحة العقلية والذهنية للأطفال، كما يجعلهم أكثر ميلاً وارتكاباً للسلوكيات المنحرفة والعنيفة.

 

 ومع هذه الاكتشافات الصحية والبيئية الضارة للمجتمع البشري والتي ظهرت في الستينيات من القرن المنصرم، ومازالت تظهر عاماً بعد عام، اتجه المختصون من العلماء ومن رجال السياسة والتشريع إلى ملاحقة ومطاردة هذا العنصر في كل منتج على حده، والعمل على إزالته كلياً من المنتجات واحدة تلو الأخرى، أو في الأقل خفض تركيزه إلى أقصى نسبة ممكنة.

ومن هذه المنتجات التي لها الدور الأبرز والأشد تنكيلاً بصحة البيئة والإنسان هي الرصاص الموجود في وقود السيارات التي تشتغل بالجازولين، فعوادم عشرات الملايين من السيارات في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كل مدينة حول العالم تُنفث سمومها المحتوية على الرصاص في الهواء الجوي فتدخل مباشرة إلى جسم الإنسان، أو بطرق غير مباشرة من التربة والمسطحات المائية الملوثة بالرصاص والتي يتعرض لها الإنسان في نهاية المطاف. وتأكيداً على هذه الحقيقة، فقد نَشرتْ مجلة "الطبيعة"(Nature) في 25 يوليو 2023 دراسة تحت عنوان: "ستون عاماً منذ التقرير الأول عن التلوث العالمي بالرصاص"، حيث أشارت الدراسة إلى اكتشاف العلماء بأن مكونات البيئة حتى المحيطات الشاسعة والواسعة ملوثة بالرصاص، كما أفادت بأنه منذ مطلع الستينيات من القرن المنصرم تم الكشف عن تلوث المياه السطحية بالرصاص، مثل المحيط الهادئ، وأرجع العلماء في عام 1963 السبب في هذا التلوث بالرصاص بنسب مرتفعة جداً هو عوادم السيارات التي كانت تحتوي على نسب مرتفعة من الرصاص. ومن هنا جاء إعلان محطات تزويد السيارات بالوقود عن الجازولين الخالي من الرصاص.

ولكن هل انتهت قضية الرصاص التي ظهرت منذ ذلك الوقت وأصبحت الآن جزءاً من التاريخ، أم أنها بالرغم من مرور هذه العقود الطويلة من الزمن إلا أنها ما زالت تنبض بالحياة، ومازالت قضية حية تنغص صفاء حياة الإنسان في كل مكان، وتلوث عناصر البيئة، وتفسد الأمن الصحي للإنسان؟

 

الإجابة عن هذا السؤال تأتي من الفضيحة التي كشفتها الصحيفة الأمريكية "وال ستريت جورنل"(Wall Street Journal) في 9 يوليو 2023، عندما أعلنت في صَدْر صحيفتها بأن شركتي الاتصالات "أي تي أند تي"(AT&T)، وشركة "فريزون"(Verizon) قد تركتا عمداً شبكة معقدة وطويلة من قرابة 2000 من الكابلات، والأسلاك القديمة البالية وغير المستعملة التي تحتوي على الرصاص في أعماق البحار والبحيرات والأنهار، وتحت التربة، وفوق الأرض في أعمدة رصاصية في ولايات كثيرة من أمريكا، أي أن الشركتين تجاهلتا وجود هذه الأنابيب التي تحتوي على الرصاص السام التي انتهت صلاحيتها ولا تستخدم الآن في البر، والبحر، والجو في البيئة الأمريكية.

 

وتأتي خطورة هذا السلوك اللاأخلاقي في أنه يهدد الصحة العامة للشعب الأمريكي برمته، فهذه الكابلات التي تحتوي على الرصاص والموجودة في جميع مكونات البيئة، تتحلل مع الزمن بسبب العوامل المناخية والظروف التي توجد فيها، ويترشح منها الرصاص السام فيدخل إلى الأوساط البيئية، ومنها إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، ثم أخيراً إلى جسم الإنسان، فيتراكم هذا الرصاص السام والخطر رويداً رويداً في أعضائه ويُعرضه للأسقام والعلل المزمنة. ونظراً لخطورة هذه القضية البيئية الصحية على الصحة العامة، فقد أعلنت وزارة العدل بالتعاون مع وكالة حماية البيئة في 26 يوليو 2023 بأنهما ستُجريان تحقيقاً مفصلاً حول ادعاءات الصحيفة، والتعرف عن كثب على التهديدات التي ستشكلها هذه الكابلات، حيث وجهتا شركتي الاتصالات بتوفير المعلومات الكاملة حولها خلال عشرة أيام. 

وهناك أيضاً القضية القديمة والمتجددة وهي تلوث المنازل بالرصاص، وبالتحديد من طلاء المنازل بالدهان الذي يحتوي على الرصاص. فبالرغم من منع استخدام الرصاص في أنواع الدهانات المنزلية في الكثير من دول العالم، إلا أن القضية مازالت حية، ومازالت هناك دول، وبخاصة في أفريقيا وبعض الدول الآسيوية تعاني من الرصاص الموجود في الدهان المنزلي، وينعكس ذلك على تركيز الرصاص في دم الأطفال. وقد أكدت الدراسة المنشورة في مجلة "الطبيعة"(Nature) في 26 يوليو 2023 على واقعية هذه الظاهرة الخطيرة تحت عنوان: "إنقاذ عشرات الملايين من الأطفال سنوياً من تأثيرات التسمم بالرصاص مشكلة يمكن حلها". فقد أفادت الدراسة إلى أن هناك قرابة 815 مليون طفل مازالت دماؤهم ملوثة بالرصاص، فهناك الكثير من الدول الفقيرة التي تعاني حتى يومنا هذا من التهديدات الصحية للدهان الذي يحتوي على الرصاص في المنازل، والمدارس، والمستشفيات، وملاعب الأطفال.

فقد أدرك الإنسان منذ عقود طويلة تهديدات المنتجات التي تحتوي على الرصاص على الصحة العامة، ولذلك اتخذ إجراءات منذ ذلك الوقت نحو التخلص من الرصاص في هذه المنتجات، ولكن بصمات التلوث بالرصاص مازالت قوية ومتغلغلة في أعماق مكونات البيئة وأعضاء جسم الإنسان، وسيحتاج الإنسان إلى ما لا يقل عن قرنٍ من الزمان لاستئصال هذا العنصر كلياً من بيئته وأعضاء جسده.