الخميس، 31 أغسطس 2023

لا سيادة للدول في قضايا التلوث


تعتزم اليابان منذ سنوات صرف المخلفات السائلة منخفضة الاشعاع مباشرة في المحيط الهادئ وفي مياهها الإقليمية التي تقع تحت سيادتها وسيطرتها السياسية والعسكرية، وأخيراً في 24 أغسطس بدأت فعلياً بصرف هذه المياه الآسنة المشعة إلى السواحل اليابانية المطلة على المحيط الهادئ.

 

وهذه المخلفات التي يبلغ حجمها حالياً قرابة 1.37 طن قد نجمت عن كارثة الزلزال العنيف وموجات تسونامي العاتية والفيضانات التي ضربت مقاطعة فوكوشيما في 11 مارس 2011، وأحدثت عطلاً في نظام التبريد في مفاعل دايشي لتوليد الكهرباء في فوكوشيما، مما أدى إلى انبعاث المواد المشعة إلى الهواء الجوي، وتسرب الإشعاع إلى مياه التبريد والتربة في تلك المنطقة.

 

ولذلك للوهلة الأولى، ومن خلال قراءة سطحية للخبر، فإن صرف مثل هذه المخلفات الناجمة من مرفقٍ داخلي في اليابان يبدو أمراً طبيعياً يخص الدولة نفسها، ويُعتبر شأناً داخلياً يهم الحكومة والشعب الياباني فقط، ويقع ضمن سيادة وهيمنة الدولة على ثرواتها ومكوناتها البيئية وحريتها المطلقة في التصرف في مثل هذه القضايا البيئية المحلية حسب المصالح القومية.

 

ولكن المتابع لتطورات هذه القضية الداخلية منذ بروزها على السطح، يجد بأن مثل هذا الإجراء الياباني المتمثل في صرف المخلفات السائلة المشعة في سواحلها ومياهها الإقليمية التي تقع تحت سيادتها المباشرة، قد أثار موجات تسونامي غاضبة على كافة المستويات داخلياً من الشعب الياباني نفسه، وبخاصة من الصيادين الذين مصدر رزقهم الوحيد هو ما يجود به البحر عليهم من خيراته وثرواته السمكية، أو خارجياً من دول عدة مثل الصين، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج، وروسيا، والفلبين وغيرها من الدول.

 

فما هي المخالفة التي ارتكبتها اليابان عند صرف هذه المياه في المناطق التي تسيطر عليها، وتعد تابعة لها، مما أثار استياء وردة فعل قوية من مجتمع الصيادين خاصة؟

 

وما هي التجاوزات التي ستنجم عن هذه العملية عند قيام اليابان بها؟

 

وما هي أسباب غضب واحتجاج هذه الدول على هذا الإجراء الياباني المحلي، بحيث إن الصين استدعت السفير الياباني لدى بكين لإبداء غضبها واستيائها؟

  

في الواقع، وبالرغم من أن لليابان الحق في إدارة شؤونها الداخلية البيئية والتصرف حسب ما تُملي عليها مصالحها القومية في المكونات البيئية التي تمتلكها وتقع تحت سيادتها، كساحل المحيط الهادئ، إلا أن المعضلة تكمن في أن تداعيات مثل هذا التصرف، وهو صرف مياه مشعة في المحيط لا تنعكس فقط على البيئة اليابانية والثروات التي تمتلكها فحسب، وإنما تقع مردوداتها الضارة وتمتد آثارها السلبية على كل دولة تشترك مع اليابان في هذا المحيط العظيم الواسع، فتقع حدودها الجغرافية ومياهها الإقليمية على مياه المحيط الهادئ. ولذلك فسيادة اليابان على مياه المحيط التي تقع ضمن سيادتها تنتهي عندما تتوغل وتؤثر على سيادة الدول الأخرى على مياهها من المحيط والخيرات السمكية التي تحوم في منطقتها الخاصة بها.

 

فهذه المياه المشعة التي صُرفت في المحيط فإن المواد المشعة لا تبقى في الجزء من المحيط الذي يقع تحت سيادة اليابان، وإنما تتحرك وتتراكم مع الزمن وبسرعة شديدة عبر التيارات المائية والرياح البحرية السطحية فتنتقل إلى مسافة عشرات الآلاف من الكيلومترات، فتصل إلى حدود المياه الإقليمية القريبة كالصين وكوريا الجنوبية والفلبين، وإلى الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية كساحل كاليفورنيا وولاية واشنطن في شمال غرب أمريكا.

 

 كذلك فإن هذه المياه المشعة لا تؤثر فقط وتفسد جودة الأسماك التي يتم اصطيادها في المناطق التي تمتلكها اليابان، فالشر الناجم عن هذا الإجراء سيعم الجميع ولن يكون على اليابان فحسب، فالمواد المشعة تتراكم مع الوقت في كل السلسلة الغذائية في المحيط خارج المياه الإقليمية لليابان، أي أن صرف هذه المياه لا يعد الآن شأناً داخلياً يابانياً بحتاً، وإنما تحول إلى قضية إقليمية على نطاق واسع تشترك فيها كل الدول الواقعة على المحيط الهادئ، بل وكل دول العالم التي تستورد الأسماك من اليابان، مما يعني بأن قرار اليابان في صرف المياه المشعة المتراكمة لديها منذ سنوات، والمتزايدة يوماً بعد يوم في الحجم، لن يكون قراراً سيادياً خالصاً، ولن يتم دون استشارة ومشاركة الدول الأخرى والمنظمات الأممية المعنية، مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. 

فهذه الأطنان من المياه منخفضة الاشعاع بالرغم من أنها خضعت لعملية إزالة المواد المشعة باستخدام التقنية التي تقوم بترشيح المواد المشعة، والتي تُعرف بالنظام المتطور لمعالجة السوائل(Advanced Liquid Processing System)، إلا أن تراكيز منخفضة من بعض الملوثات المشعة ستبقى في المياه دون أن يتم التخلص منها كلياً لعدم وجود حالياً التقنية التي تستطيع التخلص كلياً من الملوثات المشعة، وبخاصة وبشكلٍ رئيس النظير المشع للهيدروجين الذي يحتوي على ثلاث ذرات من الهيدروجين بدلاً من ذرتين وهو تريتيم(tritium)، والنظير المشع للكربون(carbon-14)، إضافة إلى ملوثات مشعة أخرى مثل سترونتيم(strontium-90)، وسيزيم(caesium-137)، و(iodine-129).    

فالنسبة للتريتيم الذي هو المكون الأساس لهذه المياه المشعة، فلا توجد معايير واحدة تم الاتفاق عليها بين دول العالم بالنسبة للحد الآمن والحد المسموح به في البيئة البحرية، فالمواصفات اليابانية هي 60 ألف بكريل من التريتيم في اللتر الواحد من الماء، في حين أن منظمة الصحة العالمية تفيد بأن الحد المقبول هو 10 آلاف، والاتحاد الأوروبي يحدد المواصفة عند 100 بكريل في اللتر، ولذلك في تقديري فإن هذه المواصفات تضعها الدول حسب ظروفها الواقعية الراهنة، وما توصل إليه عقل الإنسان من قُدرات وإمكانات تقنية وأجهزة للمعالجة في تلك الفترة من الزمن، وليس بناءً على مواصفات علمية وصحية بالنسبة لمخاطر الملوثات الواقعية على الكائنات البحرية وعلى سلامة الإنسان، ولذلك أُطلق عليها بمعايير ومواصفات "الأمر الواقع". ومن المؤسف حقاً أن الإنسان بعد سنوات من الكوارث البيئية التي وقعت في الكثير من دول العالم بسبب التلوث، يرجع إلى الوراء فينفذ سياسة أكل عليها الدهر وشرب وانتهت من القاموس البيئي وهي سياسية "التخفيف للملوثات"، أي نسمح للملوثات المشعة والسامة للولوج في الهواء أو الماء ثم نأمل بتجنب أضرارها من خلال تخفيف وانخفاض تركيزها في هذه الأوساط البيئية.

 

فهذه الحالة اليابانية التي نراها أمامنا اليوم تُعتبر مثالاً واحداً من أمثلة كثيرة عاصرناها في السابق، ويمكن ضربها للتأكيد على أن سيادة الدول على مكونات بيئاتها، وحرية التصرف فيها لا تكون مطلقة وغير مقيدة بضوابط داخلية وخارجية، فهي تنتهي عند التعدي على سيادة الآخرين، كما أن سيادة الدول على عناصر بيئاتها تنتهي عندما تستبيح بيئات الدول الأخرى التي تشترك وترتبط جميعاً معها، سواء أكانت هذه البيئة هي الهواء الجوي، أو الأنهار والبحار والمحيطات التي تدخل وتَعْبُر الحدود الجغرافية للدول.

 

وقد لخصت وزارة الخارجية الصينية هذه الحقيقة في 24 أغسطس مباشرة بعد صرف اليابان لهذه المياه، حيث صدر بيان جاء فيه: "التخلص من المياه المشعة يُعد قضية رئيسة تتعلق بالسلامة النووية ولها آثار عابرة للحدود، وأن المسألة ليست بأي حال من الأحوال تخص اليابان وحدها"، كما جاء في البيان أيضاً: "المحيط ملكية مشتركة للبشرية جمعاء ويشكل تصريف المياه الملوثة عملاً في غاية الأنانية وعدم المسؤولية ولا يراعي المصلحة العامة".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق