الاثنين، 27 فبراير 2023

الملوثات الخالدة

مجموعة كبيرة من الملوثات يُطلق عليها الآن بعد أن بدأتْ صُورتها تتضح يوماً بعد يوم بالملوثات الأبدية، أو الملوثات الخالدة(forever chemicals)، أي الملوثات التي ستمكث معنا طويلاً، وستجثم على صدورنا، وستبقى في جميع مكونات بيئتنا وفي أعضاء وخلايا أجسادنا أبد الدهر، وربما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

وهذا الاكتشاف الجديد ليس حكراً الآن على أروقة مختبرات العلماء المختصين وعلى الذين يبحثون في أعماق مختلف مصادر ومصير هذه الملوثات بعد ولوجها في بيئتنا، ولم يعد من الموضوعات العلمية والبيئية البحتة التي يهتم بها العلماء فقط، فيسبرون غورها وتفاصيلها، ويتناقشون فيها مع بعض في مؤتمراتهم ومجلاتهم وفي دائرتهم العلمية الضيقة والمتخصصة، وإنما تحولت إلى قضية رأي عام عالمي على نطاق جغرافي واسع شمل معظم دول العالم، فوصلت إلى وسائل الإعلام الجماهيرية الشعبية في الكثير من الدول الصناعية المتقدمة وغير المتطورة، فأصبحت حديث البسطاء من الشعوب وتحولت إلى همٍ جديد يضاف إلى همومهم الأخرى الصحية والاجتماعية والسياسية. ولذلك فقد قامت بعض الصحف المرموقة، مثل صحيفة "ليمُونْد" الفرنسية(Le Monde) بتخصيص صفحات كثيرة، وفي عدة أعداد منها وفي الصفحات الأولى لتغطية آخر أخبار هذه الملوثات، وأماكن تواجدها وتركيزها في القارة الأوروبية بشكلٍ خاص، وفي القارات الأخرى بشكل عام.

 

فعلى سبيل المثال، نَشرتْ جريدة "ليموند" تقريراً معمقاً ومطولاً في 23 فبراير 2023 تحت عنوان: "التلوث الخالد: اكْتَشفْ خارطة التلوث بمركبات الفلورين العضوية في أوروبا"، وصدر هذا التقرير "العلمي" بالتعاون مع 17 وكالة متخصصة، وجامعة، ومؤسسة بحثية من القارة الأوروبية، وهذه الخارطة تُعد الأولى من نوعها وتبين اتساع رقعة تلوث المدن والدول الأوروبية بهذه المجموعة الخالدة والمستقرة من الملوثات.

 

فما هي هذه الملوثات التي لا تموت؟

 

هذه المجموعة من المركبات العضوية التي تحتوي على أعدادٍ كثيرة من عنصر الفلورين التي تم إنتاجها وتسويقها منذ أكثر من ستين عاماً، ونجحت في أن تدخل في مكونات الآلاف من المنتجات الاستهلاكية الشخصية، والمنزلية، والصناعية، كان بسبب خواصها "السحرية" الفريدة من نوعها، من حيث استقرارها وثباتها وخمولها كيميائياً وحيوياً، إضافة إلى مقاومتها الشديدة للماء. ولذلك دخلت هذه المواد في تطبيقات كثيرة في حياتنا اليومية، ومن أكثرها شيوعاً لدى عامة الناس هي أواني الطبخ من المقلاة والقدور وغيرهما التي عند استخدامها لا تلتصق عليها المواد الغذائية فيسهل تنظيفها، ويُطلق عليها بالتِيفَالْ، أو التِفْلُون. كذلك اُستخدمت هذه المركبات في صناعة الأثاث، والأقمشة، والأصباغ، وتغليف المواد الغذائية، والمبيدات، إضافة إلى استخدامها كرغوة لإطفاء الحرائق، مما ساعد على انتقالها ودخولها بكل سهولة ويسر في جميع مكونات البيئة وانتشارها في مساحات جغرافية واسعة. وأما الاسم العلمي لهذه الأعداد الضخمة من المركبات التي تزيد على عشرات الآلاف هي "المركبات العضوية متعددة الفورين" أو "بي إف أي إس"(Per- and polyfluoroalkyl substances (PFAS)).

 

ولكن هذه الصفات السحرية التي كانت تتميز بها هذه المواد وأفرط الإنسان في إنتاجها واستخدامها في تطبيقات عملية كثيرة، تحولت مع الوقت إلى أزمة بيئية وصحية لجميع البشر في كل أنحاء العالم بدون استثناء، وشكلت للإنسان وباءً جديداً هو في غنى عنه. فالخواص الإيجابية العجيبة لهذه المواد أصبحت تمثل تهديداً لكافة مكونات بيئتنا من ماء وهواء وتربة والكائنات الحية التي تعيش عليها، فتحولت إلى سلبيات كارثية يحصد الإنسان اليوم ثمرات سوء إدارته وتخطيطه وجهله بالتعامل مع المواد التي يُدخلها طواعية وبيديه إلى بيئته.

 

فمن مميزات هذه المواد ثباتها واستقرارها عند دخولها في البيئة، وهذا الاستقرار بسبب الرابطة القوية جداً التي تربط بين الكربون وعنصر الفلورين، والتي لها القدرة على مقاومة التحلل في الطبيعة، ولها القوة الكامنة على مواجهة أي عامل طبيعي حيوي أو فيزيائي يحاول كسرها وتحللها، ولذلك فهي تبقى موجودة في عناصر البيئة، وتستمر في زيادة تركيزها كل يوم، وتبدأ سنة بعد سنة في التراكم والتضخم في تركيزها في مكونات البيئة غير الحية، ثم تنتقل وعبر مسافات جغرافية واسعة وبعيدة عن أنشطة البشر إلى مكونات البيئة الحية بتراكيز أعلى، وأخيراً تصل عبر السلسلة الغذائية إلى الإنسان.

فهناك عدة طرق تصل فيها هذه الملوثات العضوية الثابتة إلى جسم الإنسان، منها عن طريق الهواء الجوي واستنشاق الهواء الجوي الملوث بهذه المركبات، ومنها عن طريق صرف المياه المعالجة الصناعية والمنزلية الملوثة بها إلى المسطحات المائية، ثم إلى الحياة الفطرية في هذه المسطحات المائية، وأخيراً إلى الطيور المائية والإنسان من خلال تناول مواد غذائية من أسماك وطيور ملوثة، حسب المنشور في تقرير وكالة البيئة البريطانية في أكتوبر 2019، تحت عنوان:" المركبات العضوية متعدد الفلورين: المصادر، وطرق تحركها والمعلومات البيئية".

 

وهذه الطرق التي تؤدي إلى تسمم الإنسان بهذه المواد ليست نظرية، أو مبنية على تكهنات وتوقعات غير حقيقية، وإنما أثبت الدراسات العلمية المخبرية والميدانية وجود هذه السموم المنتشرة في الهواء الجوي، ومياه الشرب، وأجسام الكائنات الفطرية في البر والبحر، وفي أعضاء جسم الإنسان. فالدراسة العلمية التي قامت بها صحيفة "ليموند" تحت إشراف المراكز العلمية المتخصصة تحت عنوان "مشروع التلوث الخالد" خلصت إلى وجود هذا التلوث في 17 ألف موقع في القارة الأوروبية في المياه السطحية، والجوفية، والتربة، والكائنات الحية، وتراوح التركيز بين 10 إلى أكثر من 10 آلاف نانوجرام من الملوثات في الكيلوجرام، أو جزء في البليون. 

 

كذلك نُشرت دراسة أكدت على قُدرة هذه الملوثات على التحرك السريع والانتقال من مصدر التلوث في المدن إلى مواقع بعيدة ونائية من كرتنا الأرضية، مثل البحث الذي سيُنشر في مجلة "علوم البيئة الكلية"(Science of The Total Environment) في الأول من مايو 2023، تحت عنوان: "مستويات وانتشار المواد العضوية متعددة الفلورين في الثلج في القطب الشمالي"، حيث اكتشف البحث 26 نوعاً من هذه الملوثات في ثلج القطب الشمالي من منطقة (Svalbard)النائية والمرتفعة عن سطح الأرض، وهذه الملوثات انتقلت من مصادر متعددة في المدن الحضرية التي تبعد آلاف الكيلومترات.

 

وجدير بالذكر فإن هذه الملوثات الشائعة ليست موجودة في البيئات الخارجية فحسب، وإنما هي موجودة أيضاً في عقر دارنا في منازلنا، حسب الدراسة الصينية المنشورة في 26 مارس 2021 في مجلة "علوم وتقنية البيئة" تحت عنوان: "المركبات العضوية متعددة الفلور في غبار البيئات الخارجية والداخلية في الصين"، حيث تراوح التركيز في الغبار الخارجي من 105 إلى 321 نانوجراماً من هذه الملوثات لكل جرام من الغبار، وفي الغبار في البيئة الداخلية تراوح من 185 إلى 913.

 

ونظراً لواقعية هذه الأزمة الراهنة وتهديدها المباشر للصحة العامة للإنسان والحيوان، فإن بعض حكومات العالم أخذت هذه الأزمة البيئية الصحية على محمل الجد، ووضعت برامج وخططاً للكشف عنها ومكافحتها من ضمن مجموعة "الملوثات العضوية الثابتة والمستقرة" التي وردت في معاهدة ستوكهولم لعام 2009. ومن هذه البرامج على سبيل المثال لا الحصر، "خطة العمل الحكومية" التي أعلنت عنها الحكومة الفرنسية، إضافة إلى إعلان حكومة بايدن، ممثلة في وكالة حماية البيئة، في 15 فبراير 2023 عن مبلغ 19 مليون دولار لدراسة بعض الملوثات المستجدة مثل مجموعة المركبات العضوية متعددة الفلور في مياه الشرب ولاية إيوا وولايات أخرى.

 

 

 

الثلاثاء، 21 فبراير 2023

ما جدوى دراسات تقييم الأثر البيئي للمشاريع؟

قبل السبعينيات من القرن المنصرم كانت المشاريع التنموية في كل دول العالم تقوم بعد إجراء دراسة واحدة أساسية للمشروع، وهي دراسة جدوى المشروع من الناحية الاقتصادية بصفةٍ خاصة. فإذا كان المشروع المزمع إقامته يؤدي إلى تحقيق الأرباح الكبيرة والسريعة، وينجم عنه ازدهار ونمو اقتصادي للفرد أو الحكومة، فإن هذا المشروع يلقى ترحيباً واسعاً ومباركة من الجهات الممولة والداعمة، ثم ينتقل مباشرة إلى مرحلة التخطيط والتنفيذ والبناء.

 

وهذا التركيز فقط على الجدوى الاقتصادية للمشروع التنموي أثبت هو في حد ذاته عدم جدواه، وعدم فاعليته في تحقيق الأرباح المالية "المستدامة"، لأن مثل هذه الدراسات الاقتصادية البحتة خلقتْ قضايا وكوارث بيئية وصحية واقتصادية لا تعد ولا تحصى للبشر ولمكونات البيئة في كل دول العالم الصناعية المتقدمة والمتطورة.

 

فالازدهار المالي الذي كان يحققه المشروع في السنوات الأولى من عمره كان ينفق بُعيد سنوات من تشغيل المصنع على التدمير الشامل الذي سببه المشروع على نوعية وجودة الهواء، والماء، والتربة، والحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني، وفي النهاية على الأمن الصحي للإنسان من أمراضٍ وعلل حادة ومزمنة مستعصية على العلاج. فالفساد والضرر الذي لحق بكل عناصر البيئة وبصحة الإنسان، إضافة إلى الاستنزاف الحاد للموارد والثروات الطبيعية، حوَّل هذه المشاريع التي كانت لأول وهلة "مجدية اقتصادية" إلى مشاريع "غير مجدية اقتصادياً" وغير مستدامة، مما أدى مع الوقت إلى فشل هذه المشاريع، وإغلاقها كلياً.

 

فهذه الدراسات الاقتصادية للمشاريع أثبتت بأنها قاصرة وضيقة الأفق، لا تبين مدى استدامة المشاريع على المدى البعيد، ولا تفيد بمدى قوة وقدرة المشروع على الاستمرارية في تحقيق الأرباح المالية، ولذلك كان لا بد من تصميم أداة إدارية أخرى تُكمل هذه الأداة، فتأخذ في الاعتبار الجوانب الأخرى المصاحبة والمرتبطة بالمشروع، وتُقدم لمتخذي القرار والمستثمرين صورة متكاملة وشاملة حول تأثيرات المشروع المحتملة على صحة الإنسان أولاً، ثم أمن وصحة وسلامة مكونات البيئة الحية وغير الحية، والتي تنعكس أيضاً اقتصادياً على كلفة المشروع المستقبلية ومصروفاتها ونفقاتها.

 

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي أول دولة تؤسس لاستخدام هذه الأداة البيئية الإدارية المعروفة بـ "تقييم الأثر البيئي للأعمال التنموية"، من مشاريع، وخطط، وسياسات ضمن "قانون السياسة البيئية القومية" الذي أُقر في الأول من يناير 1970، حيث ألزم القانون واشترط على جميع الوكالات الاتحادية إعداد تقييم للأثر البيئي لأي مشروع يتم التخطيط له على المستوى الفيدرالي، من خلال تحديد، وتَوقُع، وتقييم أي أثر سلبي قد يقع على البيئة من تنفيذ هذا المشروع، واقتراح سبل تجنب هذه الآثار السلبية على الإنسان والبيئة ووضع طرق الحد منها والتخفيف من أضرارها.

 

وهذا القانون الجديد لم يأت من فراغ، ولكن جاء بعد مخاضٍ عسير وطويل عانت منه المجتمعات البشرية في الدول الصناعية العريقة، وكان كردة فعل لما نزل على الإنسان من أمراضٍ عقيمة، وفي الوقت نفسه على عناصر البيئة من فسادٍ شامل انكشف على هيئة مظاهر واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولا يمكن تجاهلها، أو غض الطرف عنها كالمطر الأسود والحمضي، والثلج الأسود والحمضي، اللذان دمرا الغابات وما عليها من أشجار وكائنات فطرية حيوانية، وأفسدا المباني والتماثيل التراثية في الميادين والشوارع العامة، ورفعا من حمضية المسطحات المائية. كذلك انكشاف الضباب الأسود والرمادي في سماء المدن الحضرية، إضافة إلى الضباب الضوئي الكيميائي الذي كان يحمل في بطنه المئات من أخطر أنواع الملوثات المؤكسدة، وعلى رأسها غاز الأوزون.  

 

وقد حذت معظم دول العالم حذو الولايات المتحدة الأمريكية في سن قوانين وأنظمة تشترط إجراء دراسة تقييم الأثر البيئي للمشروعات التنموية قبل القيام بها، ولكن كالعادة بالنسبة للقوانين والأنظمة التي تسنها الدول، فبعضها يُفعَّل وينفذ في أرض الواقع فيستفيد الإنسان والبيئة من تنفيذها، وبعضها يوضع "كمظهر عام" وأداة "علاقات عامة" من أجل الرأي العام العالمي وتوصيات منظمات الأمم المتحدة الخاصة بتقييم الأثر البيئي للمشاريع، وأما في الواقع فلا يطبق ولا يؤخذ بما تتمخض عنها من نتائج ومقترحات.

 

ومن خلال تجربتي مع تنفيذ أداة تقييم الأثر البيئي، أستطيع تقديم الملحوظات العملية التالية:

أولاً: معظم المشاريع العملاقة الكبرى في البحرين وفي الكثير من الدول النامية، سواء أكانت صناعية، أم عمليات حفر ودفن البحر، أو بناء المجمعات والمنتجعات والشوارع والجسور، تكون تحت مظلة الحكومات، وفي الكثير من الحالات، وبخاصة في السنوات الماضية كانت هذه المشاريع معفية من القيام بدراسة الجدوى البيئية.

ثانياً: في الحالات التي تُجرى فيها دراسات تقييم الأثر البيئي فإن الحكومات والشركات المتنفذة والقوية سياسياً تكون عادة غير معنية بنتائجها وتوصياتها، وإنما تقوم بها فقط من أجل تَكْمِلَة "نظامية" المشروع، حتى لا تكون عُرضة للانتقاد من أحد، وبخاصة من الوكالات والمنظمات الأممية والجمعيات الأهلية.

ثالثاً: عملية حفر ودفن مساحات واسعة من البحر لن تكون مستدامة من الناحية البيئية مهما فعلنا، حيث إن طبيعة عمليات الحفر واستخدام الآليات الضخمة التي تدمر قاع البحر وتفسد صفاء جودة مياه البحر وتغير من البيئة القاعية كلياً، إضافة إلى عمليات دفن السواحل التي تقضي كلياً على تلك المنطقة وتقضي معها في الوقت نفسه على جميع الكائنات الحية، وكأن زلزالاً قد ضرب تلك المنطقة، فكل هذه السلبيات المدمرة هي من طبيعة العملية نفسها، ولذلك لن تكون مستدامة بيئياً مهما اتخذنا من إجراءات احتياطية، أو فكرنا في حلولٍ "ابتكارية"، وفي تقديري لا داعي لتضييع الجهد والمال لإجراء دراسة تقييم الأثر البيئي لمثل هذه المشاريع.

 

وفي حالة اضطررنا إلى دفن البحر، فعلينا اختيار أكثر من منطقة بحرية للدفن، ونُخضع هذه المناطق كلها لدراسة تقييم الأثر البيئي، ثم نختار دفن المنطقة الأقل حساسية وانتاجاً وتنوعاً من ناحية الحياة الفطرية البحرية النباتية والحيوانية. ولكن ما يحدث الآن هو اختيار منطقة للدفن مسبقاً، كالمدن الخمس المزمع إنشاؤها في منطقة الفشوت الغنية بالثروة السمكية التجارية، ثم نقوم بإجراء دراسة تقييم الأثر البيئي على هذه المنطقة فقط. ولو فرضنا جدلاً بأن الدراسة خلصت إلى أن دفن المنطقة البحرية لإقامة المدن الخمس غير مجد وغير مستدام بيئياً، فهل ستقوم الحكومة بإلغاء المشروع برمته؟

 

وختاماً ففي تقديري أن دول العالم، وبخاصة دول العالم الثالث النامية غير جادة في تطبيق آلية تقييم الأثر البيئي لأنها تنظر إليها كأداة مُعوقة للعمليات التنموية، وتعتبرها تبطئ وتؤخر من سرعة قيام الدولة للمشاريع. 

 

 

السبت، 11 فبراير 2023

الحيوانات جهاز إنذار حيوي مبكر للزلازل

يقول معظم العلماء بأن عقل الإنسان لم يتوصل حتى الآن إلى توقع نزول الزلزال في أي مكان على سطح الأرض بشكلٍ دقيق وموثوق قبيل وقوعه بفترة كافية من الزمن لتجنب الدمار الذي يُلحقه بالبشر، ولم ينجح الإنسان حتى يومنا هذا في اختراع جهازٍ شديد الحساسية يمكن أن يوضع في أي مكان فيتوقع ويكتشف حدوث الزلزال قبل فترة زمنية تفيد الإنسان في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجنب الخسائر البشرية وفي البنية التحتية.

ولكن سمعتُ الكثير عن أن مراقبة سلوك وتصرفات الحيوانات قد يكون بمثابة جهاز إنذار مبكر لاحتمالية وقوع الزلزال، فالكثير من الروايات والنظريات تفيد بأن الحيوانات تستشعر وجود تغيرات حولها فتقوم كردة فعل لذلك في تغيير سلوكها وتصرفاتها قبيل وقوع هذه التغيرات وهي قرب وقوع الزلزال، فتقوم هذه الحيوانات تلقائياً بتصرفات غريبة غير طبيعية لا تقوم بها في الظروف العادية، أي أن الحيوانات لها أعضاء حساسة غير موجودة عند البشر تكشف وتتوقع حدوث الزلزال قبيل أن يضرب البشر. وفي هذا السياق نُشر مقال في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في السابع من فبراير 2023 تحت عنوان: "هل الحيوانات في تركيا وسوريا استشعرت مبكراً الزلزال"، حيث يورد المقال معلومات من وسائل الاتصال الاجتماعي في تركيا بأن الناس شاهدوا قبيل الزلزال الذي ضرب تركيا بقوة عظيمة بأن الطيور تطير بطريقة عشوائية غير طبيعية فوق المباني التي سقطت وتدمرت، كما أنهم سمعوا عواء الكلاب بصوتٍ مرتفع لم يعهدوه من قبل.

فماذا يقول العلم حول هذه المظاهر الغريبة للحيوانات قبيل الزلزال، فهل هي حقيقة واقعة أم مجرد صدفة وتكهنات؟ وماذا تقول أبحاث العلماء حول دور الحيوانات في الإنذار والكشف المبكر لوقوع الزلزال؟ وما هو رأي العلماء حول تغير تصرفات الحيوانات قبيل حدوث الزلزال؟ وهل هناك دليل علمي ميداني يثبت وجود هذه العلاقة بين تغير سلوك الحيوانات واحتمال وقوع الزلزال؟ 

للإجابة عن هذه الأسئلة قمتُ بإجراء دراسة قصيرة وسريعة لبعض الأبحاث المنشورة التي تتناول دور الحيوانات في التنبؤ بوقوع الزلزال. فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في الصين في عام 2006 في مجلة "نشرة جمعية علم الزلازل الأمريكية"(Bulletin of the Seismological Society of America) تحت عنوان: "تنبؤ زلزال عام 1975 في هايشنج"، حيث أشارت الدراسة إلى بعض المشاهدات ولمرة واحدة فقط، وهي خروج الأفاعي والفئران من مخابئهم في فصل الشتاء قبيل أن يضرب الزلزال هذه المدينة الصينية، وهذا السلوك اعتبره العلماء والمراقبون لهذه الحيوانات بأنه تصرف غير طبيعي ونادر الوقوع جداً في الظروف العادية الطبيعية.

كما نُشرت دراسة في 17 أبريل 2018 في مجلة "نشرة جمعية علم الزلازل الأمريكية" تحت عنوان: "مراجعة: هل تستطيع الحيوانات توقع الزلازل"، حيث قامت الدراسة بحصر وتقيم وتحليل 180 بحثاً منشوراً حول هذه الظاهرة المتعلقة بتغير سلوك وتصرفات الحيوانات قبيل الزلزال. وقد توصلت الدراسة إلى استنتاجٍ عام وهو أنه بالرغم من توثيق بعض الدراسات لحالات وسلوكيات غريبة غير طبيعية لبعض الحيوانات دقائق قليلة قبل وقوع الزلزال، إلا أن هناك حاجة للمزيد من الأدلة العلمية "الكمية" قبل الوصول إلى استنتاج علمي موضوعي موثوق.

كذلك أصدرتْ وزارة الداخلية الأمريكية الممثلة في "هيئة المسح الجيولوجي"(U.S. Geological Survey) تقريراً تحت عنوان: "الحيوانات والتنبؤ بالزلازل"، حيث قدَّمت تفسيراً للتصرفات الغريبة للحيوانات قبل ثوان من الزلزال، والذي يتمثل في قُدرتها على الكشف والتمييز بين نوعين من موجات الزلازل، الموجات الأولية أو الابتدائية القصيرة التي تصدر أولاً عن الزلزال، وتُعرف بموجات "بي" (P wave)، والتي تسير بسرعة تبلغ عدة كيلومترات في الثانية من مركز ومصدر الزلزال، وهي التي تستطيع الحيوانات استشعارها وتحسس وجودها والقيام بردة فعل نتيجة لذلك، ثم الموجات الثانية أو الثانوية التي تلي الموجات الأولى ويُطلق عليها موجات "إس" الكبيرة (S wave)، وهي أقوى وأشد وتهز الأرض. وخلاصة فقد استنتج التقرير إلى هناك حاجة إلى القيام بالمزيد من الدراسات العلمية الطويلة المدى، ولعدة حالات من أجل الوصول إلى نتائج موضوعية وذات مصداقية وثقة عالية.

وأخيراً هناك الدراسة الألمانية التي قام بها "معهد ماكس بلانك لسلوكيات الحيوانات"، والمنشورة في الثالث من يوليو 2020 في المجلة الدولية حول سلوك الحيوانات(International Journal of Behavioral Biology, Ethology)، تحت عنوان: " التنبؤ بالزلازل على المدى القصير من خلال مراقبة حيوانات المزرعة". ففي هذه الدراسة قام الباحثون بوضع جهاز إلكتروني يشبه الهاتف النقال على الأبقار، والكلاب، والأغنام في مزرعة إيطالية في قرية (Capriglia) بهدف المراقبة والمشاهدة المستمرة عن بعد لتحركات وتصرفات هذه الحيوانات قبل أشهر من احتمال وقوع الزلزال في المنطقة. وقد أُجريت الدراسة في الفترة من أكتوبر إلى نوفمبر 2016، ثم في الفترة من يناير إلى أبريل 2017، حيث وثقت جميع التغيرات في سلوكيات الحيوانات قبل، وأثناء، وبعد وقوع الزلزال، ولمدة أشهر طويلة. وأفادت نتائج المراقبة لسلوك الحيوانات بأنها أبدت وأظهرت سلوكاً "نشطاً" غير عادي قبل الزلازل بنحو ساعة إلى عشرين ساعة، ولكن كانت هناك فروقاً في درجة النشاط والحركة بين الحيوانات والإحساس للهزات الأرضية، ونوعية ردة فعلهم قبل وبعد وقوع الزلزال، فقد كانت هذه الحيوانات تتحرك لأكثر من 45 دقيقة من غير توقف. وقد أوصت الدراسة إلى إجراء المزيد من الدراسات الطويلة المدى وفي مواقع مختلفة للوصول إلى استنتاجات قوية ودامغة تدل على وجود علاقة بين تصرفات الحيوانات بشكلٍ غير عادي وغير طبيعي وترقب وقوع الزلزال.

ومن هذا العرض والتحليل السريع لبعض الدراسات، أستطيع القول بعدم وجود أدلة علمية متواترة حول علاقة حدوث أي تغير في سلوك الحيوانات بوقوع الزلزال، فلا زلنا بعيدين كثيراً عن الوصول إلى إجماع علمي حول هذا المجال البحثي المعقد والصعب إثباته.