الثلاثاء، 21 فبراير 2023

ما جدوى دراسات تقييم الأثر البيئي للمشاريع؟

قبل السبعينيات من القرن المنصرم كانت المشاريع التنموية في كل دول العالم تقوم بعد إجراء دراسة واحدة أساسية للمشروع، وهي دراسة جدوى المشروع من الناحية الاقتصادية بصفةٍ خاصة. فإذا كان المشروع المزمع إقامته يؤدي إلى تحقيق الأرباح الكبيرة والسريعة، وينجم عنه ازدهار ونمو اقتصادي للفرد أو الحكومة، فإن هذا المشروع يلقى ترحيباً واسعاً ومباركة من الجهات الممولة والداعمة، ثم ينتقل مباشرة إلى مرحلة التخطيط والتنفيذ والبناء.

 

وهذا التركيز فقط على الجدوى الاقتصادية للمشروع التنموي أثبت هو في حد ذاته عدم جدواه، وعدم فاعليته في تحقيق الأرباح المالية "المستدامة"، لأن مثل هذه الدراسات الاقتصادية البحتة خلقتْ قضايا وكوارث بيئية وصحية واقتصادية لا تعد ولا تحصى للبشر ولمكونات البيئة في كل دول العالم الصناعية المتقدمة والمتطورة.

 

فالازدهار المالي الذي كان يحققه المشروع في السنوات الأولى من عمره كان ينفق بُعيد سنوات من تشغيل المصنع على التدمير الشامل الذي سببه المشروع على نوعية وجودة الهواء، والماء، والتربة، والحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني، وفي النهاية على الأمن الصحي للإنسان من أمراضٍ وعلل حادة ومزمنة مستعصية على العلاج. فالفساد والضرر الذي لحق بكل عناصر البيئة وبصحة الإنسان، إضافة إلى الاستنزاف الحاد للموارد والثروات الطبيعية، حوَّل هذه المشاريع التي كانت لأول وهلة "مجدية اقتصادية" إلى مشاريع "غير مجدية اقتصادياً" وغير مستدامة، مما أدى مع الوقت إلى فشل هذه المشاريع، وإغلاقها كلياً.

 

فهذه الدراسات الاقتصادية للمشاريع أثبتت بأنها قاصرة وضيقة الأفق، لا تبين مدى استدامة المشاريع على المدى البعيد، ولا تفيد بمدى قوة وقدرة المشروع على الاستمرارية في تحقيق الأرباح المالية، ولذلك كان لا بد من تصميم أداة إدارية أخرى تُكمل هذه الأداة، فتأخذ في الاعتبار الجوانب الأخرى المصاحبة والمرتبطة بالمشروع، وتُقدم لمتخذي القرار والمستثمرين صورة متكاملة وشاملة حول تأثيرات المشروع المحتملة على صحة الإنسان أولاً، ثم أمن وصحة وسلامة مكونات البيئة الحية وغير الحية، والتي تنعكس أيضاً اقتصادياً على كلفة المشروع المستقبلية ومصروفاتها ونفقاتها.

 

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي أول دولة تؤسس لاستخدام هذه الأداة البيئية الإدارية المعروفة بـ "تقييم الأثر البيئي للأعمال التنموية"، من مشاريع، وخطط، وسياسات ضمن "قانون السياسة البيئية القومية" الذي أُقر في الأول من يناير 1970، حيث ألزم القانون واشترط على جميع الوكالات الاتحادية إعداد تقييم للأثر البيئي لأي مشروع يتم التخطيط له على المستوى الفيدرالي، من خلال تحديد، وتَوقُع، وتقييم أي أثر سلبي قد يقع على البيئة من تنفيذ هذا المشروع، واقتراح سبل تجنب هذه الآثار السلبية على الإنسان والبيئة ووضع طرق الحد منها والتخفيف من أضرارها.

 

وهذا القانون الجديد لم يأت من فراغ، ولكن جاء بعد مخاضٍ عسير وطويل عانت منه المجتمعات البشرية في الدول الصناعية العريقة، وكان كردة فعل لما نزل على الإنسان من أمراضٍ عقيمة، وفي الوقت نفسه على عناصر البيئة من فسادٍ شامل انكشف على هيئة مظاهر واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ولا يمكن تجاهلها، أو غض الطرف عنها كالمطر الأسود والحمضي، والثلج الأسود والحمضي، اللذان دمرا الغابات وما عليها من أشجار وكائنات فطرية حيوانية، وأفسدا المباني والتماثيل التراثية في الميادين والشوارع العامة، ورفعا من حمضية المسطحات المائية. كذلك انكشاف الضباب الأسود والرمادي في سماء المدن الحضرية، إضافة إلى الضباب الضوئي الكيميائي الذي كان يحمل في بطنه المئات من أخطر أنواع الملوثات المؤكسدة، وعلى رأسها غاز الأوزون.  

 

وقد حذت معظم دول العالم حذو الولايات المتحدة الأمريكية في سن قوانين وأنظمة تشترط إجراء دراسة تقييم الأثر البيئي للمشروعات التنموية قبل القيام بها، ولكن كالعادة بالنسبة للقوانين والأنظمة التي تسنها الدول، فبعضها يُفعَّل وينفذ في أرض الواقع فيستفيد الإنسان والبيئة من تنفيذها، وبعضها يوضع "كمظهر عام" وأداة "علاقات عامة" من أجل الرأي العام العالمي وتوصيات منظمات الأمم المتحدة الخاصة بتقييم الأثر البيئي للمشاريع، وأما في الواقع فلا يطبق ولا يؤخذ بما تتمخض عنها من نتائج ومقترحات.

 

ومن خلال تجربتي مع تنفيذ أداة تقييم الأثر البيئي، أستطيع تقديم الملحوظات العملية التالية:

أولاً: معظم المشاريع العملاقة الكبرى في البحرين وفي الكثير من الدول النامية، سواء أكانت صناعية، أم عمليات حفر ودفن البحر، أو بناء المجمعات والمنتجعات والشوارع والجسور، تكون تحت مظلة الحكومات، وفي الكثير من الحالات، وبخاصة في السنوات الماضية كانت هذه المشاريع معفية من القيام بدراسة الجدوى البيئية.

ثانياً: في الحالات التي تُجرى فيها دراسات تقييم الأثر البيئي فإن الحكومات والشركات المتنفذة والقوية سياسياً تكون عادة غير معنية بنتائجها وتوصياتها، وإنما تقوم بها فقط من أجل تَكْمِلَة "نظامية" المشروع، حتى لا تكون عُرضة للانتقاد من أحد، وبخاصة من الوكالات والمنظمات الأممية والجمعيات الأهلية.

ثالثاً: عملية حفر ودفن مساحات واسعة من البحر لن تكون مستدامة من الناحية البيئية مهما فعلنا، حيث إن طبيعة عمليات الحفر واستخدام الآليات الضخمة التي تدمر قاع البحر وتفسد صفاء جودة مياه البحر وتغير من البيئة القاعية كلياً، إضافة إلى عمليات دفن السواحل التي تقضي كلياً على تلك المنطقة وتقضي معها في الوقت نفسه على جميع الكائنات الحية، وكأن زلزالاً قد ضرب تلك المنطقة، فكل هذه السلبيات المدمرة هي من طبيعة العملية نفسها، ولذلك لن تكون مستدامة بيئياً مهما اتخذنا من إجراءات احتياطية، أو فكرنا في حلولٍ "ابتكارية"، وفي تقديري لا داعي لتضييع الجهد والمال لإجراء دراسة تقييم الأثر البيئي لمثل هذه المشاريع.

 

وفي حالة اضطررنا إلى دفن البحر، فعلينا اختيار أكثر من منطقة بحرية للدفن، ونُخضع هذه المناطق كلها لدراسة تقييم الأثر البيئي، ثم نختار دفن المنطقة الأقل حساسية وانتاجاً وتنوعاً من ناحية الحياة الفطرية البحرية النباتية والحيوانية. ولكن ما يحدث الآن هو اختيار منطقة للدفن مسبقاً، كالمدن الخمس المزمع إنشاؤها في منطقة الفشوت الغنية بالثروة السمكية التجارية، ثم نقوم بإجراء دراسة تقييم الأثر البيئي على هذه المنطقة فقط. ولو فرضنا جدلاً بأن الدراسة خلصت إلى أن دفن المنطقة البحرية لإقامة المدن الخمس غير مجد وغير مستدام بيئياً، فهل ستقوم الحكومة بإلغاء المشروع برمته؟

 

وختاماً ففي تقديري أن دول العالم، وبخاصة دول العالم الثالث النامية غير جادة في تطبيق آلية تقييم الأثر البيئي لأنها تنظر إليها كأداة مُعوقة للعمليات التنموية، وتعتبرها تبطئ وتؤخر من سرعة قيام الدولة للمشاريع. 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق