الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

الآباء يتعاطون المخدرات والأبناء يُدمنون!


هل سمعتم عن ظاهرة إدمان الجنين على المخدرات عندما يكون نُطْفة أو عَلَقة في رَحم أمه ؟

 

وهل سمعتم عن إدمان الطفل الرضيع البريء بعد خروجه من بطن أمه على المخدرات، بحيث إن هذا الطفل إذا لم تُعط له جرعة من المخدرات فلن يتمكن من البقاء على قيد الحياة؟

 

هذه الظاهرة الكارثية التي انتشرت في العقدين الماضيين واستوطنت في المجتمع الأمريكي برمته، تُعد مؤشراً مشهوداً ودليلاً دامغاً قوياً لا غبار عليه ولا لَبْس فيه على إدمان المجتمع الأمريكي على تعاطي المخدرات بشكلٍ عام وعلى الإدمان على الهيروين والأفيون بشكلٍ خاص، بحيث إنه لم يسلم أي بيتٍ أمريكي، ولم تسلم أية أسرة أمريكية من هذه الآفة العصيبة استناداً على تقرير الهيئة الرئاسية العليا حول "مكافحة الإدمان على المخدرات وأزمة الأفيون" والتي أكدت في تقريرها المنشور في 31 يوليو من العام الجاري على حقيقةٍ بسيطة جداً قائلة "إن هذا الوباء إذا لم يُصبك أنت، أو أحد أفراد عائلتك حتى الآن، فإنه سينزل عليك عاجلاً حتماً وتُصاب به، إذا لم تتخذ الحكومة الإجراءات الصارمة لمكافحته".

 

فهؤلاء الأطفال المدمنون ذنبهم الوحيد فقط أن أُمهم مدمنة على تعاطي المخدرات ومسكنات الألم المدمنة كحبوب الأفيون وغيرها، حيث إنها تنتقل من الأوعية الدموية للمرأة الحامل إلى المشيمة ثم إلى مخ الجنين فتستقر وتتراكم في خلاياه، وعندما يخرج هذا الجنين المسكين من بطن أمه إلى الحياة الدنيا يواجه أول محنةٍ شديدة، وفتنةٍ عظيمة، فتنكشف عليه أعراض مرضية تتمثل في العرق الشديد، والقيء، والبكاء المستمر، وتصلب الجسم، إضافة إلى مشكلات في النوم والأكل.

 

وتشير الإحصاءات الرسمية المنشورة في أكتوبر من العام الجاري من مراكز منع والتحكم في الأمراض، أن هناك طفلاً واحداً مُدمناً على المخدرات يولد كل 25 دقيقة، كما أكد تقرير مجلة "النَشُنل جُويوجرافيك" العريقة في العدد الصادر في سبتمبر من العام الجاري، أن 22 ألف طفلٍ ولدوا مدمنين على المخدرات، وبزيادة قدرها أربع مرات خلال العقدين الماضيين. كذلك نشرت الواشنطن بوست تحقيقاً شاملاً في 16 أكتوبر من العام الحالي وبناءً على تقارير مراكز منع والتحكم في المرض بأن ستة أطفال من بين كل ألف طفل يولدون في أمريكا يكونون مصابين بالإدمان على المخدرات.

 

أما المحنة الثانية التي يواجهها هؤلاء الأطفال هو تخلي أمهاتهم عنهم ونبذهم لهم وهم يعانون في المستشفيات، فيكون بالتالي مصيرهم الانتقال إلى دُور ومراكز تبني الأطفال، حيث ارتفع العدد في هذه المراكز أكثر من 30 ألف في عام 2015 مقارنة بعام 2012.

 

فهذه الزيادة السنوية المطردة في أعداد الأطفال الذين يقاسون من وباء المخدرات هي انعكاس بيِّن وجلي لاستشراء وتجذر آفة تعاطي المخدرات في أعماق كل بيتٍ من بيوت الولايات المتحدة الأمريكية حتى بات ينخر في جسد أمريكا من الداخل، فقد نشرت مجلة التايمس في العدد الصادر في 29 أغسطس من العام الجاري تحقيقاً شاملاً تحت عنوان "الموت بسبب الأفيون يتضاعف منذ 2009 حتى عام 2015"، كما أكدت على هذه الحقيقة المرَّة الدراسة المنشورة في مجلة "سجلات الجمعية الأمريكية للأمراض الصدرية"، حيث أفادت بأن 22 ألف مريض دخلوا وحدة العناية القصوى في 162 مستشفيي في 44 ولاية بسبب جرعة زائدة من الأفيون خلال الفترة من 2009 إلى 2015، كذلك خلال الفترة نفسها زاد عدد الداخلين إلى قسم الطوارئ بنسبة 34%، وأعداد الذين انتقلوا إلى مثواهم الأخير فلقوا حتفهم في المستشفى تضاعف خلال السبع سنوات التي أجريت عليها الدراسة. أما الإحصاءات الإجمالية لتعاطي المخدرات عامة والأفيون خاصة فقد بلغت أرقاماً مخيفة ومفزعة حيث قدَّرت إدارة "خدمات الصحة العقلية وسوء استعمال المواد" في سبتمبر من العام الجاري العدد بنحو 11.8 مليون أمريكي يعانون من الأفيون بطريقة أو بأخرى، منهم قرابة 948 ألف يتعاطون الأفيون، وفي المقابل قدرت صحيفة التليجراف البريطانية في العدد الصادر في 21 أكتوبر أعداد المتعاطين للمخدرات في أمريكا بنحو 20 مليون، يموت منهم يومياً 150.

 

فهذه الطامة الكبرى وحالة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الأمريكي، اضطرت الرئيس الأمريكي ترمب في العاشر من أغسطس إلى إعلان حالة الطوارئ، حيث قال بأن وباء الأفيون في الولايات المتحدة الأمريكية يعد "حالة طوارئ قومية"، كما وصف هذه الآفة قائلاً: "مشكلة خطيرة لم نواجه مثلها من قبل"، كما أضاف: "سنصرف الكثير من الوقت ونبذل الكثير من الجهد والكثير من المال على أزمة الأفيون"، ولكن بالرغم من هذا الإعلان إلا أنه حتى كتابة هذه السطور لم يُصدر بعد ما يفعل تصريحاته على أرض الواقع، وبالتحديد من الناحية التشريعية ومن ناحية تخصيص الأموال اللازمة لمواجهة غزو هذا الغول للمجتمع الأمريكي.

 

فهذا الموت الجماعي البطيء للشعب الأمريكي بسبب المخدرات قد يُعادينا إذا اتبعنا سننهم وتبنينا سلوكهم وثقافتهم ونمط حياتهم، فالخبر المنشور في وسائل الإعلام البحرينية في 21 أكتوبر حول "شاب يقتل والده في قلالي تحت تأثير المخدرات" من المفروض أن يدق عندنا ناقوس الخطر، فنتحرك سريعاً حتى لا نصبح مثل أمريكا.

الاثنين، 30 أكتوبر 2017

لماذا تأكل الأسماك البلاستيك؟


من المعروف الآن علمياً بأن الأسماك والكائنات البحرية والطيور المائية تأكل المخلفات البلاستيكية بجميع أشكالها وأحجامها وأنواعها، فقد أجمعت الدراسات الميدانية وكشفت عن أنواعٍ متعددة من هذه المخلفات البلاستيكية في بطون  الكائنات البحرية الصغيرة منها والكبيرة وفي الطيور التي تأكل الأسماك، بل وأكدت هذه الدراسات عن وجود مخلفاتٍ بلاستيكية دقيقة متناهية في الصغر ولا تُرى بالعين المجردة في لحوم الأسماك التي تباع في الأسواق ونقوم نحن بشرائها وأكلها مباشرة، أي أن هذه المخلفات البلاستيكية في نهاية المطاف تستقر في بطوننا وتتراكم في أعضائنا في سريةٍ وخفاءٍ شديدين ونحن لا ندري!

 

وقد أثارت هذه الظاهرة العالمية المهددة لصحة الإنسان قريحة العلماء، وشجعت فيهم روح البحث والرغبة في التعرف عن كثب عن أسبابها وسبر غور تفاصيلها ودقائقها، وقد طرح الباحثون أمامهم السؤال التالي: لماذا تأكل الكائنات البحرية المخلفات البلاستيكية وتُفضلها على المواد الغذائية الطبيعية الموجودة في البيئة البحرية؟

 

وقد جاء الجواب عن هذا التساؤل في البحث المنشور في 16 أغسطس من العام الجاري في مجلة وقائع الجمعية الملكية البريطانية(العلوم الحيوية)، حيث أفاد العلماء بأن المخلفات البلاستيكية عندما يتم التخلص منها في البيئة البحرية تتفتت مع الوقت وبفعل الظروف المناخية القاسية من ضوء وحرارة الشمس والتغيرات البحرية من تيارات ورياح إلى قطعٍ أصغر فأصغر، وهذه القطع تُعد بيئة صالحة وغنية وثرية لنمو الكائنات البحرية النباتية، وبخاصة الطحالب، وهذه الطحالب مع الوقت تنمو وتتكاثر بسرعةٍ عالية وبدرجةٍ كبيرة فتغطي سطح القطعة البلاستيكية برمتها، كما أنها في الوقت نفسه تُفرز مواد كيميائية عطرة وتنبعث منها روائح نفاثة وقوية تجذب الكائنات البحرية، وبالتحديد السلاحف والأسماك الصغيرة منها والكبيرة، فتجري نحوها بسرعة شديدة وتحوم حولها حُباً للاستطلاع والاستكشاف، فتحسبها وجبة شهية دسمة لذيذة لا تُفوت، فتقوم أخيراً بالتهامها وأكلها، كما إن هذه الروائح القوية تجذب الطيور المائية وتغريها وتحفزها على أكلها واستهلاكها مباشرة.

 

فهذه المخلفات البلاستيكية الزكية ذات الروائح القوية وبطعم الطحالب اللذيذة والشهية تُغري الكائنات البحرية فتُفضل أكلها كوجبة غذائية على المواد الغذائية الطبيعية التي خلقها الله في البيئة البحرية ضمن التوازن الغذائي الطبيعي والسلسلة الغذائية التي تنتهي ببني البشر.   

 

 

السبت، 28 أكتوبر 2017

ماذا حَدثَ لموظفي السفارة الأمريكية في كُوبا؟


انتظرتُ طويلاً قبل أن أقوم بالكتابة عن تفاصيل ودقائق ما حَدَثَ للوفد الأمريكي الدبلوماسي العامل في السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية هافانا وأُقدم تحليلاً علمياً موضوعياً لهذه الحادثة، فقد اطلعتُ على التقارير الرسمية وغير الرسمية التي نُشرت حول هذه الواقعة الغامضة والفريدة من نوعها على المستوى الدولي.

 

وتتمثل هذه الحادثة في البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في 29 سبتمبر من العام الجاري والمتعلق بسحب بعض الموظفين وأسرهم والذين عانوا فعلياً من هذه الواقعة، وبلغ عددهم 22 من سفارة أمريكا في كوبا، وتزامناً مع هذا الحدث، وبعد أيام وبالتحديد في الثالث من أكتوبر طردت أمريكا 15 موظفاً من سفارة كوبا في العاصمة واشنطن. وقد علَّلتْ الخارجية الأمريكية اتخاذ مثل هذه الإجراءات من أجل حماية الوفد الأمريكي الدبلوماسي في سفارتها في هافانا وخفض أعداد الأمريكيين الذين يتعرضون لمخاطر "الهجوم" الذي أصاب الدبلوماسيين الأمريكيين.

 

وتفاصيل هذه الواقعة بدأت في العاشر من أغسطس من عام 2016 في السفارة الأمريكية في كوبا حيث ظهرت على بعض موظفي السفارة أعراض غريبة لم يعهدوها من قبل، وظن هؤلاء الدبلوماسيون بأنها أعراض عرضية مؤقتة ستزول وتنتهي بعد ساعات أو أيام قصيرة، ولكن هذه المعاناة استمرت لأشهرٍ طويلة، فقد كانوا يَسْمعون أصواتاً حادة غير عادية، ويحسون بذبذبات غريبة وبخاصة أثناء الليل في المنازل وفي مبنى السفارة، وهذه الأصوات والضوضاء غير المألوفة والغريبة انعكست عليهم كأعراض مرضية مزمنة، تمثلت في  الشعور بآلامٍ حادة في الرأس، وصداع شديد، وفقدان تدريجي للسمع، وفقدان التوازن، والشعور بالإرهاق وصعوبة النوم، وأعراض أخرى متعلقة بالذاكرة والجهاز العصبي المركزي، وهذه الواقعة منذ نزولها بقيت في طي الكتمان، وغُلفت بجدارٍ من السرية والتعتيم الشديدين ومنع الإفصاح عنها وإخفائها كلياً، وصُنِّفت تحت ملف سري خاص.

 

ومع الزمن ومع ازدياد أعداد الدبلوماسيين المتضررين صحياً من هذه الحالة الفريدة، بدأت الرائحة تفوح وتخرج من نطاق الدائرة الرسمية المغلقة، وأخذتْ الأخبار تتسرب من داخل السفارة حتى وصلت إلى وسائل الإعلام الأمريكية في الثامن من أغسطس، فكَتَبتْ عن "مرضٍ غريب يصيب الوفد الأمريكي في كوبا"، ثم انكشفت النظريات وظهرت الروايات المتعددة لتفسير هذه الظاهرة.

 

أما الرواية الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية فقد أكدت على تعرض الموظفين لنوعٍ من السلاح أُطلق عليه "الهجوم الصوتي" أو "الهجوم السمعي"(sonic attack)، ولكن دون تقديم التفاصيل سوى نشر هذه الأصوات في 14 أكتوبر إلى وسائل الإعلام. وفي تقديري فإن هذا النوع من السلاح، لو وُجد على أرض الواقع، لا يختلف كثيراً في فكرته عن السلاح الكيماوي، حيث إن السلاح الكيماوي يستخدم ملوثات ومواد كيماوية سامة بجرعاتٍ عالية وتراكيز مرتفعة، فيقضي على البشر والحجر والشجر فوراً، ويمكن مباشرة مشاهدة هذا الدمار الجسدي والموت الجماعي، كما رأينا بأم أعيننا استخدام الأسد لمثل هذه الأسلحة ضد الشعب السوري. وأما هذا السلاح المستخدم في السفارة الأمريكية فيهجم على العدو باستعمال أداة التلوث الفيزيائي الطبيعي الضوضائي المتمثل في إصدار الموجات ذي الطاقة العالية والتردد الشديد المرتفع، ولكن تأثيراتها الصحية لا يمكن مشاهدتها أمام الملأ بشكلٍ فوري ومباشر، فهي تضر بدون أن تترك أثراً ملموساً، وتدمر بدون أن تترك بصماتها واضحة مشهودة.

 

وفي المقابل ظهرت في وسائل الإعلام الأمريكية نظريات أخرى لتفسير هذه الحالة المرضية، فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمس مقالاً في العاشر من أكتوبر تحت عنوان: "الأصوات الغامضة والمرض المخيف كأداة سياسية"، وفحوى هذا المقال هو التشكيك في الرواية الحكومية الرسمية، والادعاء بأن الحكومة استخدمت هذه الحالة المرضية لأغراض سياسية تمهيداً لتغيير موقف أمريكا تجاه كوبا. كما أن بعض الخبراء في مجال علم طب الأعصاب أشاروا إلى أن هذه الحالة قد تُفسر بأنها نوع من الجنون أو "الهستيريا الجماعية"، وهو حالة نفسية عصبية أعراضها تتمثل في حدوث خللٍ في الحس والحركة بسبب وجود القلق والخوف والاضطرابات النفسية من وضعٍ معين، أو حالة محددة.

 

وبالرغم من اختلاف الرؤى والتفاسير حول ظاهرة السفارة الأمريكية في كوبا، فإنني أؤكد بأن التلوث الناجم عن الأصوات المرتفعة والضوضاء العالية قد يستخدم كسلاح بطريقة أو أخرى، فهو يعتبر من أهم أسباب التدهور الصحي للبشر، سواء الأصوات الشديدة من السيارات، أو المصانع، أو حركة الطائرات، وهناك إجماع عند العلماء بأنه يؤثر بشكلٍ جماعي على الناس بعد فترةٍ قصيرة أو طويلة من الزمن حسب فترة وزمن التعرض، وشدة وتردد الصوت.

 

وأُقدم لكم مثالاً واقعياً واحداً فقط من بين أمثلة كثيرة لا يسع المجال لذكرها وهي تُثبت حقيقة التأثير الجماعي للموجات الصوتية على الناس من الناحيتين العضوية والنفسية، فسُكان ضواحي العاصمة اليابانية طوكيو الذين يعيشون بالقرب من قاعدة يوكوتا الأمريكية الجوية رفعوا قضايا في المحاكم متعلقة بالآثار الصحية الجسيمة التي نزلت عليهم من التلوث الصوتي الضوضائي والأمواج الشديدة التي تصدر من حركة الطائرات الحربية وغير الحربية، حيث أمرت إحدى المحاكم اليابانية في 11 أكتوبر من العام الجاري الحكومة اليابانية بدفع تعويضات تبلغ نحو 5.4 مليون دولار لهؤلاء السكان بسبب الأذى الجسدي والنفسي الذي لحق بهم نتيجة للتعرض للأصوات وضوضاء حركة الطائرات اليومية.

 

ولذلك ما حدث بالفعل للوفد الأمريكي سيبقى سراً غامضاً، وستكشفه لنا الأيام عاجلاً أم آجلاً عندما يزال الستار ويُكشف النقاب عن أرشيف هذه الواقعة.

الأحد، 22 أكتوبر 2017

حتى العسل الطبيعي أصبح ملوثاً!


ماذا تبقى لنا أن نأكل ونشرب وتطمئن قلوبنا وترتاح نفوسنا بأنه غير ملوث، وأنه خالٍ من المواد الكيميائية المسرطنة والضارة ببيئتنا وأمننا الصحي؟

 

وهل هناك الآن مصدر طبيعي للغذاء وماء الشرب على وجه الأرض نستطيع الاعتماد عليه في أنه لم يصبه داء التلوث، ولم يتعرض عن قريبٍ أو بعيد، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر للملوثات الموجودة في البر والبحر والجو وأعماق المحيطات المظلمة والغابات النائية والبيئات الثلجية البعيدة؟

 

فمن خبرتي المتواضعة واطلاعي على الأبحاث والدراسات كل يوم، أستطيع أن أُجزم وبكل ثقةٍ واطمئنان أنه لا يوجد الآن على سطح الأرض في أية بقعةٍ كانت، أي مصدرٍ طبيعي للغذاء أو الماء لم ينزل عليه بلاء التلوث أينما كان، ولو في بروجٍ مشيدة في أعالي السماء الشاهقة.

 

وأُقدم لكم اليوم مثالاً واحداً فقط يثبت زعمي هذا ويؤكد صحة قناعاتي، وهذا المثال هو عسل النحل الفطري، الطبيعي، النقي الذي مَدحهُ رب العالمين وجعله شفاءً لأسقام وعلل بني آدم، عندما قال في مُحكم كتابه: "وأَوْحى ربُّك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بُيوتا ومن الشجر ومما يعْرشون، ثم كُلي من كل الثمرات فاسلُكي سُبُل ربك ذُلُلاً يخرج من بُطُونها شرابٌ مختلف ألوانُه فيه شِفاءٌ للناس إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون.  

 

فهذا النحل الذي يعيش في البراري النائية، والجبال الشاهقة، والوديان الخضراء البعيدة عن أنشطة البشر ومصادر التلوث، فيُحلق في السماء بحثاً عن غذائه وقوت يومه فيغْدُوا خماصاً ويروح بِطاناً ليُكون لنا بعد هذا العناء والجهد اليومي الذي لا يتوقف العسل المصفى النقي المستخلص من خيرات الأرض الطبيعية ومن رحيق الأزهار الفطرية، فهذا العسل الذي نحسبه كذلك خالياً من الشوائب والأضرار، لم يسلم أيضاً من شر الملوثات، فلا يتوقع أحد منا ولا يخطر على باله بأن هذه الملوثات التي نُطلقها في السماء، أو المخلفات التي نتخلص منها، أو المبيدات التي نرشها في منازلنا أو مزارعنا ترجع إلينا مرة ثانية بطريقةٍ أو أخرى، بعد فترةٍ قصيرة أو طويلة من الزمن، فإما أن نتعرض لها مباشرة، أو أن نقع في شرورها بعد حِينْ من مصادر غير متوقعة كلياً، كعسل النحل في هذه الحالة.

 

وللتأكيد على واقعية هذه الظاهرة وتَعُرضنا لها دون أن نعلم، قام مجموعة من العلماء بجمع 198 عينة من عينات العسل في كل قارات العالم ومن جزر نائية بعيد عن عَبَث أيدي البشر، وأجروا عليها التحاليل المخبرية للتعرف على كمية ونوعية المبيدات الحشرية التي نستخدمها يومياً في هذا المنتج الطبيعي الفطري.

 

وجاءت النتيجة مُخَيبة ومخيفة في الوقت نفسه ومقلقة جداً للإنسان، فقد أكدت نتائج التحاليل حسب الدراسة منشورة في مجلة العلوم المرموقة في السادس من أكتوبر من العام الجاري تحت عنوان:حصر دولي للمبيدات في العسل"، بأن 75% من عينات العسل تحتوي على مبيدات حشرية تُستخدم بشكلٍ خاص في حقول المحاصيل الزراعية وتعد الأوسع استخداماً وانتشاراً على المستوى الدولي، وهي عبارة عن مجموعة من المبيدات تشبه النيكوتين الموجود في تبغ السجائر ويُطلق عليها نِيُونِيكوتينأويدز(neonicotinoids). وهذه المبيدات تعتبر ملوثات سامة وخطرة تضرب الجهاز العصبي المركزي، حيث إنها تنتقل بعد رشها على المحاصيل والتربة إلى عسل النحل والإنسان، فهي تترسب أولاً على التربة وتختلط بالماء وتذوب فيه، ثم مع الوقت تنتقل إلى جذور النباتات، ثم الساق والورق والزهرة والوردة، فتبدأ بالتراكم في هذه الأجزاء من النبات ويزيد تركيزها يوماً بعد يوم.   

 

ومن المفروض أن هذه الدراسة تدق ناقوس الخطر لعدة أسباب، منها العامل المتعلق بالأمن الصحي لبني البشر الذي يعتمد على عسل النحل كمصدر للغذاء والشفاء، ومنها العامل البيئي الخاص بالإخلال بالتوازن الذي خلقه الله سبحانه وتعالى في البيئات الفطرية، حيث إنها تؤثر على وظيفة النحل ودوره في التوازن البيئي المتمثل في عدة مهمات منها وظيفة عملية التلقيح على مستوى جغرافي واسع، واعتماد المزارعين كلياً على هذه العملية الفطرية الطبيعية. وعلاوة على ذلك كله، وربما لا يدري عنه أحد، ولا يمكن توقعه أو التكهن بمردوداته هو كيفية ونوعية تأثير هذه المبيدات على المدى القريب والبعيد على صحة النحل، وصحة الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية البرية وغير البرية، وأخيراً انعكاس ذلك كله على صحة بني آدم.

 

فهل بعد هذا نستطيع أن نثق فنقول بأن هناك مصدراً طبيعياً نقياً للغذاء خالياً من الملوثات؟

الجمعة، 20 أكتوبر 2017

هل السيارة الكهربائية هي الحل لأزمة تلوث الهواء؟



بدأ العالم برمته في التوجه كلياً نحو السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية، وشركات صناعة السيارات الكبرى اتخذت خطوات تنفيذية جادة للبدء في إنتاج السيارات الكهربائية على نطاق واسع، وكأن هذه السيارات هي الحل السحري الجذري والمستدام لجميع مشكلاتنا البيئية والصحية المتعلقة بنوعية الهواء، فهذه السيارات الكهربائية القادمة إلى الأسواق هي التي ستقضي على تلوث الهواء كلياً، وستجعل جودة الهواء ترجع إلى صفائها ونقائها ونظافتها كما خلقها الله سبحانه وتعالى خالية من التلوث والشوائب والمركبات الضارة لصحة بيئتنا وصحتنا.

ففي عام 2040 سيُعلن معظم مدن أوروبا العظمى الحرب الفورية والمباشرة على وقود الديزل والجازولين وكل الأنواع الأخرى من الوقود الأحفوري المستخلص من البترول، وسيتم الحظر التام عليها جميعاً، من حيث منع بيعها واستخدامها في جميع أنواع السيارات، الصغيرة منها والكبيرة.

فرؤية القارة الأوروبية المستقبلية التي أُطلقت في يوليو من العام الجاري، واستشرافهم لمصير السيارات التي نستعملها اليوم، وبالتحديد في مجال نوعية الوقود الذي يشغل السيارات، تتمثل في حظر بيع واستخدام السيارات التي تعمل بالديزل والجازولين بحلول عام 2040، والتحول كلياً إلى السيارات الكهربائية كبديل صديق للبيئة وعلاج لوباء تلوث الهواء القاتل للبشر والنبات والحجر.

كما أعلنت الشركات المصنعة للسيارات سياساتها واستراتيجياتها المستقبلية بالنسبة للجيل الجديد من السيارات التي سيقومون بإنتاجها، حيث أعلنت في الثاني من أكتوبر شركة جي إم الأمريكية العملاقة للسيارات والتي تُعد من أكبر منتجي السيارات في العالم عن خططها المستقبلية للولوج في عالم السيارات الكهربائية، وإنتاج عشرين نوعٍ منها بحلول عام 2023، منها ما يَستَخدم البطاريات الكهربائية، ومنها ما يعتمد على خلايا وقود غاز الهيدروجين، وهذا الإعلان يعتبر الطلاق الذي لا رجعة فيه للسيارات التي تعمل بالجازولين أو الديزل، والبدء في مرحلة تاريخية جديدة من صناعة السيارات. وفي الوقت نفسه، أعلنت شركة فورد الأمريكية عن تشكيل "فريق إديسون" للقيام بتطوير السيارات الكهربائية، حيث إنها تعتزم صناعة 13 نوعاً خلال الخمس سنوات القادمة. كذلك تعهدت الشركات الألمانية مثل فولكس واجن ودايملر بإنتاج هذه السيارات، إضافة إلى الشركة السويدية فولفو، والشركات اليابانية.

وهذا التوجه الدولي نحو إنتاج السيارات الكهربائية يهدف إلى تحقيق عدة مصالح منها بيئية ومنها صحية، فالسيارات الكهربائية لا تنبعث منها أية ملوثات فهي بالتالي تُحسِّن من جودة الهواء الجوي من جانب وتحمي صحة الإنسان من جانبٍ آخر، كما أنها تقلل من انبعاث الغازات المتهمة بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون. كذلك فإن التوجه نحو السيارات الكهربائية يقلل من اعتماد الإنسان على الوقود الأحفوري الناضب وغير المتجدد.

ولكن مع كل هذه الايجابيات، فإن هذه السيارة الكهربائية لن تحل أزمة تلوث الهواء في المدن من جذورها، فهي تُسهم جزئياً في الحل وعلاج قضية تدهور الهواء المتشابكة والمعقدة، فهذه السيارات تنطلق من كوابحها وإطاراتها مع الاحتكاك بالشارع الكثير من الملوثات الضارة، وبخاصة الغبار أو الجسيمات الدقيقة، كما ستظل هناك مشكلة التخلص من المخلفات الصلبة التي تنجم عند تغيير البطاريات. وعلاوة على ذلك كله فإن مشكلة تلوث الهواء بشكلٍ عام لن تنتهي وإنما تنتقل من المدن إلى المناطق التي تولد الكهرباء لشحن بطارية السيارات الكهربائية.

ومن جانبٍ آخر هناك سلبيات السيارات الكهربائية مقارنة بسيارات الديزل والجازولين، فهي غير مرغوبٍ فيها حتى الآن، فسرعتها منخفضة، وتحتاج إلى شحن البطارية باستمرار، كما أن أسعارها غالية في الوقت الراهن، إضافة إلى عدم وجود البنية التحتية المتكاملة لدعمها، وبخاصة محطات شحن بطارية السيارة. ومن أجل تشجيع الناس على شراء السيارات الكهربائية، قامت بعض الدول بتقديم حوافز مادية وضريبية وتسهيلات لوجستيه، فعلى سبيل، أَعلنتْ دبي في العاشر من مايو من العام الجاري أنها ستقدم حوافز مادية لمن يشتري هذه السيارات، وستوفر مواقف مجانية داخل المدينة خاصة بها.  

وخلاصة القول فإن مشكلة السيارات بشكلٍ عام ودورها المشهود في تدهور نوعية الهواء الجوي وتعريض الناس للأمراض المزمنة والموت المبكر تُعد من أعقد القضايا التي يواجهها الإنسان منذ أن بزغ فَجْر صناعة السيارات، ولذلك فهي أَكْبَر وأعقد من أن يكون حلها في السيارة الكهربائية فقط، فعلاجها الجذري يكمن في تبني مجموعة متكاملة من الحلول التي تقوم بها كل الجهات الحكومية وغير الحكومية على المستويين الوطني والدولي، والسيارات الكهربائية ما هي إلا جزء يسير وبسيط يسهم في الحل الشامل والمستدام للأزمة الخانقة والمميتة التي تشكلها السيارات للمجتمع البشري.

                                                                                                                                      

الجمعة، 13 أكتوبر 2017

العنصرية بلغت ذروتها في الولايات المتحدة الأمريكية



مازلتُ أتَذكر عندما كنتُ طالباً في جامعة أوستن بولاية تكساس الأمريكية في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، أَنَني أخذتُ مُقررين دراسيين إجباريين، أحدهما عن التاريخ الأمريكي والثاني عن الحكومة الأمريكية، وتعلمتُ من هذين المقررين بأن هناك عدة أسباب وعوامل معقدة ومتشابكة أدت على اندلاع الحرب الأهلية بين الاتحاديين من جهة والذين يدعون إلى وحدة ولايات أمريكا، والانفصاليين من جهة أخرين والذين يُمثلون ولايات الجنوب الأمريكية.

ومن هذه الأسباب التي لا خلاف عليها هي شرعنة العبودية وانتشار تجارة الرِق واسْتعبَاد الناس في بعض الولايات وتغلغل العنصرية والتفرقة بين السود والبيض، وتعمق سياسة عدم المساواة والتمييز حسب لون بشرة الإنسان، حيث قامت هذه الحرب الضروس للقضاء على العبودية ومنح الناس حقوقهم، فأعلن رئيس أمريكا حينئذٍ ومحرر العبيد إبراهام لينكولن إعلانه الشهير لتحرير العبيد في الأول من يناير 1863 ومنح الحقوق المدنية للعبيد المُحَررين، ثم تم إجراء تعديل بنود الدستور الأمريكي في عام 1865 ليُنهي رسمياً وعلى الورق "عهد العبودية" في الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن بالرغم من هذه القوانين التي تحرم العبودية، إلا أنها وبشكلٍ آخر وبأساليب غير مباشرة استمرت سياسات الفصل العنصري في واقع حياة الناس، ولم يتوقف التمييز الممنهج على حسب اللون والتفرقة العنصرية بين المواطنين الأمريكيين، مما أدى إلى ظهور حركات شعبية واسعة النطاق في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم بزعامة مالكوم إكس، ومارتن لوثر كينج الذي ناضل من أجل نيل الحقوق المدنية للسود وألقى خطبة في العاصمة واشنطن مازالت صداها ترن حتى يومنا هذا في عام 1963 تحت شعار "أنا لدي حُلم"، وقد كان حلمه أن يعيش كل مواطن أمريكي الأبيض منهم والأسود سواسية أمام القانون كأسنان المِشط، وفي النهاية ضحوا بحياتهم وكانت ثمناً لتحقيق هذه الحرية.    

وبالرغم من كل هذه الجهود المضنية والماراثونية التي استمرت أكثر من قرنٍ من الزمن، هل انتهت العنصرية بكل أشكالها ومظاهرها وأنواعها في الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل تحققت العدالة الاجتماعية بين فئات الشعب الأمريكي؟

الواقع الذي أُشاهده أمامي كل يوم يؤكد لي بأن التمييز العنصري مازال متغلغلاً في نفوس بعض الأمريكيين، ومازالت بعض الممارسات تُعمق سياسة الفصل العنصري، ولذلك فالاحتجاجات والمسيرات والمظاهرات لم تتوقف، وآخرها احتجاج الرياضيين الرمزي من خلال عدم الوقوف أثناء عزف السلام الوطني الأمريكي والذي بدأه لاعب فريق فرانسيسكو في كرة القدم الأمريكية كولن كيبرينك(Colin Kaepernick) عندما انحنى جالساً عند السلام الوطني، ثم قام لاعبون آخرون من فرق أخرى بالعمل نفسه، فانتشرت هذه الظاهرة مما أدى على تدخل الرئيس الأمريكي ترمب نفسه ليبدي انتقاده وانزعاجه من هذه الحالة الفريدة. 

وهذه التفرقة التي يعاني منها السود والأقليات الأخرى تجلت في صور ومظاهر جديدة تتمثل في العنصرية البيئية، أو عدم تحقيق العدالة البيئية بين المواطنين الأمريكيين، حيث أكدت الدراسات الميدانية أن معظم مواقع مدفن المخلفات، سواء أكانت المخلفات المنزلية أو المخلفات الصناعية الخطرة موجودة في مدن الفقراء والمستضعفين وغير المتعلمين الذين ليس لهم من يدافع عن حقوقهم كالسود والأقليات من الأصول اللاتينية.

واليوم أكدتْ دراسة منشورة في 25 سبتمبر من العام الجاري أن هناك تفرقة عنصرية بيئية وتمييزاً بين المواطنين من ناحية مستوى تعرضهم لنوعٍ من أنواع التلوث الفيزيائي وهو التلوث الضوضائي والناجم عن مصادر الضوضاء والأصوات المرتفعة والمزعجة والمهددة لصحة الإنسان، سواء من السيارات أو القطارات أو الطائرات أو المصانع. فقد أشارت الدراسة المنشورة في مجلة شؤون صحة البيئة تحت عنوان: "عدم المساواة في التعرض للضوضاء، صورة كاملة للولايات المتحدة الأمريكية"، أن هناك علاقة وثيقة بين حدة ودرجة التعرض للضوضاء والوضع الاجتماعي والاقتصادي للمواطن الأمريكي، فالضوضاء بشكلٍ عام أثناء فترتي النهار والليل أعلى في المناطق ذوي الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدني مقارنة بأحياء الأغنياء والأثرياء، أي أن مناطق الفقراء المعدمين وغير المتعلمين وذوي الدخل البسيط من السود والأقليات أشد تلوثاً من ناحية الضوضاء، وهذا الوضع البيئي بدوره ينعكس مباشرة على الوضع الصحي لهذه الفئة والطبقة للمجتمع لما للضوضاء من علاقة مباشرة بتدهور صحة الإنسان.

فمن الواضح إذن بأن السود والأقليات والفقراء المستضعفين في الولايات المتحدة الأمريكية مازالوا يعانون من عدم المساواة والتمييز والعنصرية بشتى أنواعها وأشكالها، بما في ذلك العنصرية البيئية، علماً بأن هذه الظاهرة انتشرت عدواها إلى الكثير من دول العالم، ولذلك على منظمات الأمم المتحدة الاهتمام بهذا الجانب المتعلق بتحقيق العدالة بين البشر من الناحية البيئية لما له من ارتباط مباشر بحق الإنسان في العيش في بيئة نظيفة وسليمة خالية من الملوثات والأمراض.