الثلاثاء، 28 أبريل 2020

كيف نستعد للحروب العالمية الجديدة؟


المشاهد التي رأيناها ونراها حتى يومنا هذا في الحروب التقليدية التي تُستخدم فيها الأسلحة النووية، أو الأسلحة التقليدية في مختلف دول العالم تتمثل في تدميرٍ شامل للمباني والمجمعات السكنية والمصانع والسفن والمعدات الحربية الأخرى وغيرها من مكتسبات الإنسان التنموية، بحيث إنها تتحول إلى ركامٍ ترابي وخراساني فوق الأرض، وتحتها تُكتشف أجساد وأشلاء البشر من صغار وكبار، والذين يسقطون ضحايا لهذه الأسلحة التي استعملت في هذه الحروب. 

ولكن في الوقت نفسه نشاهد في مثل هذه الحروب استمرار الحياة في الكثير من المدن التي لم تتضرر مباشرة ولم تصلها أيدي أسلحة الدمار، فمع استمرار المعارك، ترى بأن حركة المواصلات عادة لا تنقطع، والمحلات التجارية الأساسية تعمل بدون توقف، والناس يخرجون من بيوتهم لقضاء حاجاتهم الاستهلاكية الضرورية.

أما الحرب الجديدة التي نعاصرها اليوم فمشاهدها تختلف جذرياً، فالمدن باقية على أقدامها لم تتغير قيد أنملة، والمباني والعمارات والمصانع لم تمسها أيدي الدمار، فهي كما هي عليها سابقاً واقفة وثابتة فوق الأرض، ولكن بالرغم من ذلك فإنك تشاهد بأن هذه المدن تحولت إلى مدن أشباح لا روح فيها ولا حياة لها، فحركة المواصلات انقطعت إلى درجة كبيرة، ولا تشاهد أي أثر لبني البشر في الشوارع والطرقات سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين محاربين، والمحلات التجارية معظمها أقفلت أبوابها، وأما الإنسان فقد اختبأ في منزله وظل حبيس البيت لا يخرج منه، فعزل نفسه عن الآخرين، حتى أن أكثر من أربعة مليارات من البشر دخلوا في السجن المنزلي طواعية وخوفاً على أمنهم وسلامتهم. ومع هذه المشاهد المختلفة عن الحروب العالمية والمعارك التقليدية، فإن هناك مشهداً مشتركاً بين الحربين، القديمة والجديدة، وهو مشهد امتلاء المستشفيات ببني البشر، واكتظاظ أقسام الطوارئ وأقسام العناية المركزة بالمرضى والمصابين، إضافة إلى ارتفاع أعداد الذين يقضون نحبهم في كل يوم، بحيث إن المقابر لم تتمكن من استيعابهم ودفنهم، وفي المقابل لا تتحمل أسر الضحايا في بعض الدول الرأسمالية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التكاليف الباهظة لدفن أحبائهم وأقاربهم.

وعلاوة على ذلك كله، فإن هناك مشهداً غريباً وجديداً لا بد من التوقف أمامه ملياً، والمكوث عنده بعضاً من الوقت لاستخلاص الدروس والعبر منه، والاستفادة من مدلولاته العميقة على المجتمع البشري عامة في المستقبل القريب. فهذه الحرب كما شاهدنا جميعاً لم يتحرك فيها الجنود من ثكناتهم، ولم تطير الطائرات الحربية من قواعدها، ولم تُطلق أية رصاصة، أو قذيفة، أو صاروخ، بل وإن أكبر حاملة طائرات في العالم وهي يُو إِس إِس ثيودور روزفلت التابعة للسلاح البحري للولايات المتحدة الأمريكية والتي تعمل بالطاقة النووية، ويبلغ طولها 332 متراً، أي نحو ثلاثة أضعاف طول ملعب كرة القدم، وارتفاعها كارتفاع عشرين طابق فوق سطح البحر، وتحمل على ظهرها 4865 بحاراً وطياراً وطبيباً قد تعطلت كلياً عن العمل، وتوقفت في ميناء أبرا(Apra) في جوام(Guam) منذ 28 مارس، ولكن الغريب أنها تعطلت في حالة الحرب التي تخوضها البشرية حالياً دون أن تُوجه إليها أية قذيفة حية، أو قنبلة، أو صاروخ، أو طائرة بدون طيار!

فكيف لهذه المدينة العملاقة المتكاملة والمتطورة العائمة المجهزة بكل وسائل الأمن والسلامة من مضادات الطائرات، والصواريخ وغيرها من الأسلحة الحديثة والمتقدمة الدفاعية منها والهجومية أن تحيَّد كلياً دون أن تضرب بأي نوعٍ من الأسلحة المعروفة التي تُستخدم في الحروب؟

فقد تفشى مرض كورونا بينهم وهم يبحرون في المحيط الهادئ قادمين من فيتنام، حيث تم بعد أن احتدمت معركة بين قائد الحاملة والبنتاجون لعدة أسابيع، إرساء السفينة في جوام وإجلاء أكثر من 4000 من طاقم الحاملة ووضعهم في العزل والحجر الصحي، علماً بأن عدد الحالات المؤكدة المصابة بفيروس كورونا بلغت 655، مات منهم واحد، حسب تحقيق صحيفة الواشنطن بوست في 13 أبريل. وجدير بالذكر فإن هذه المدينة العائمة الضخمة ليست هي الأولى التي تتوقف عن العمل دون معركة تقليدية كالتي نعرفها ونشاهدها، فهناك أيضاً حاملة الطائرات العملاقة التي تعمل بالطاقة النووية "يو إس إس رونالد ريغان" التي اضطرت إلى أن تقف في القاعدة البحرية الأمريكية في يوكوسوكا عقب ظهور إصابات بفيروس كورونا على متنها، إضافة إلى حاملة الطائرات الثالثة "يو إس إس نيميتز (USS Nimitz)والتي تفشى في جسدها أيضاً هذا العدو الخفي منذ السابع من أبريل، إضافة إلى السفينة الحربية(USS Kidd) التي ظهر فيها الفيروس في 23 أبريل حسب تقرير مجلة النيوزويك في 25 أبريل، مما يعني أن القوة العسكرية الأمريكية الضخمة في المحيط الهادئ قد انشلت وفقدت قوتها وسلاحها. وعلاوة على السلاح الأمريكي البحري، فقد تكررت هذه الحادثة مع حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول التي توقفت رحلتها في ميناء تولون في التاسع من أبريل بسبب إصابة أكثر من 1081 من بين 2300 من عناصر البحرية الفرنسية العاملين على متنها.

ولذلك فنحن أمام حربٍ من نوعٍ جديد لا نعرف عنها الكثير، فالعدو خفي ومجهول وغير معروف ولا تجده أمامك، ولا مكان ولا زمان ثابت له، فلذلك لا يمكن أن تُستخدم فيها الأسلحة التقليدية مهما كانت متطورة وحديثة ومتقدمة، فجميع هذه الأسلحة التي نعرفها والتي لا نعرفها ليست لها أية قيمة ولا فائدة منها كلياً، ولا جدوى من تكديسها والافتخار بها وإنفاق الأموال الطائلة على تطويرها وجمعها، فنحن بحاجة إلى أسلحة إبداعية ومن جيلٍ جديد فريد، ربما لم تخطر على بال أحد حتى الآن، سواء أكانت دفاعية وعلاجية، أو هجومية واستباقية، كما أن الجنود الذين يخوضون هذه الحرب الشرسة الحديثة يختلفون في صفاتهم، ومؤهلاتهم، وأساليب إعدادهم وتجيزهم، والميادين التي يتدربون فيها ويستعدون لها، فالتركيز سيكون على تدريب العقل والفكر والتعليم في الجامعات والمختبرات البحثية قبل تدريب الجسد وتنمية القوة العضلية في صالات الرياضة وميادين القتال.

ولذلك لكي ننجح في مواجهة هذا العدو الجديد ونقضي عليه جذرياً دون رجعة، علينا القيام بما يلي:
أولاً: إعطاء الأولوية للمدخل أو السياسة الاستباقية المبنية على منع المرض والوقاية منه، وهذه السياسة تنبني على ذهاب الإنسان إلى مصدر المرض نفسه والبحث عنه قبل أن يأتي هو إلينا ويُعدينا ويسبب لنا الأمراض والأوبئة، وبالتحديد بالنسبة للخفاش الذي يعتبره العلماء المخزن الطبيعي لآلاف الأنواع من الفيروسات المرضية وغير المرضية، وتوجه له أصابع الإتهام في وقوع عدة أوبئة للمجتمع البشري. ومن أجل ذلك قامت عدة دول بتشكيل فرقٍ علمية متخصصة تقوم بهذا الدور الوقائي الكبير.
ثانياً: إعادة التفكير في بعض أوجه العولمة، وبالتحديد التي تلعب دوراً رئيساً في سرعة نشر المرض بين دول العالم. فقد شكلت منظمة الصحة العالمية في عام 2015 فريقاً متخصصاً لتقديم قائمة من الفيروسات الخطرة والمهددة للصحة العامة ذات الأولوية في برامج المكافحة، وبخاصة الفيروسات التي لم تُطور لها أدوية علاجية ولقاحات وتطعيمات وقائية، وقد خَلصتْ هذه المجموعة العلمية من الخبراء المختصين إلى أن "العولمة" المتمثلة في سرعة وسهولة تَنَقُل ملايين البشر، وفتح الحدود الجغرافية بين بعض الدول، ستجعل من المستحيل احتواء أي كارثة صحية محلية أو قومية ومنعها من الانتشار حول العالم، إضافة إلى توغل الإنسان شبراً بشبر وفي كل يوم في بيئات ومواطن الحياة الفطرية التي تحمل بعضها فيروسات أو بكتيريا قاتلة، فتنقلها إلى الإنسان بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
ثالثاً: حث مراكز البحوث المتخصصة على تصميم وتطوير أسلحة فريدة فاعلة في هذا النوع الجديد من الحرب الفيروسية العالمية، وتتمثل في إنتاج أدوية ولقاحات "جامعة" وليست متخصصة لنوع واحد فقط من الفيروسات، أي أن لها مواصفات وخصائص تجعلها فاعلة للقضاء على أكثر من نوعٍ واحد من الفيروسات في آنٍ واحد، مما يؤدي مع الوقت إلى هزيمة الفيروسات كلياً في هذه الحرب العالمية.
رابعاً: تعاون الدول والشركات مع بعض للاستثمار في هذا المجال البحثي، وتنسيق الجهود، وتخصيص الميزانية المطلوبة للقيام بهذا العمل الإنساني الجبار، فمثل هذه الأبحاث مكلفة جداً ولا يمكن لجهة واحدة تحمل أعبائها، وقد دشنت منظمة الصحة العالمية مبادرة دولية في 24 أبريل لإنجاز هذه المهمة الصعبة.
خامساً: قيام الدول على إنشاء "مخزونٍ استراتيجي صحي"، يعمل على إنتاج وتوفير وتخزين الأدوية والأجهزة والمعدات التي تُستخدم كأسلحة دفاعية وهجومية ضد هذه الحرب الفيروسية الشرسة.  

 وأمام هذا الكرب العصيب، والوباء العقيم الذي يقف الجميع سواسية أمامه كأسنان المشط، أتمنى من دول العالم الاتعاظ من هذا الدرس الماثل أمامهم، والاستفادة منه، وتخصيص مبالغ مالية دفاعية كبيرة لخوض هذه الحرب الجديدة كالميزانيات التي تخصص لوزارات الدفاع وتطوير وشراء الأسلحة التقليدية والتي فشلت جميعها وأثبتت عدم صلاحيتها كلياً في الدفاع عن الإنسان ضد هذا الفيروس البسيط والضعيف. 

الخميس، 23 أبريل 2020

لماذا خسرتْ أعظم دولة الحرب ضد كورونا؟


نشرتُ مقالاً في صحيفة أخبار الخليج في الخامس من أبريل من العام الجاري تحت عنوان: "لماذا اخْتَلفتْ الدول في حربها ضد وباء كورونا"، وبيَّنت في المقال بأن هناك عدة أسباب أدت إلى ظهور التعددية والاختلافات في المداخل والسياسات والإجراءات التي اتبعتها الدول في إيقاف تفشي هذا المرض العضال والوباء العالمي الذي ظهر في كل دول العالم بدون استثناء.

وأول سبب ذكرته هو وعي وسلوكيات وقناعات رئيس الدولة، أو الحكومة، وقُدرة فهم هذا الرئيس واستيعابه لحجم الضرر الذي سيقع عند دخول واكتشاف أول حالة فيروس كورونا في البلاد وزرع واحتضان البذرة الأولى لهذا الفيروس الغامض الخطير، إضافة إلى الجدية والحزم عند رئيس الدولة في اتخاذ القرارات وتبني الإجراءات المتعلقة بكبح جماح هذا الفيروس منذ لحظة ظهوره.

فالرئيس الأمريكي ترمب ينطبق عليه هذا السبب في عدم تبنيه للإجراءات التي قامت بها معظم مدن ودول العالم، والتي تمثلت في إغلاق جزئي أو كلي سريع وفوري، حيث إنه تجاهل في البداية جميع المؤشرات التي خرجت من مسقط رأس الفيروس ومكان ولادته في مدينة ووهان الصينية، كما إنه في الوقت نفسه غض الطرف عن التحذيرات التي قُدمت له من الأجهزة المختلفة التابعة لإدارته، بل وعلى العكس من ذلك فقد بعث للشعب الأمريكي برسائل مطمئنة عِدة في مناسبات مختلفة، مما جعلتْ حكومات الولايات والشعب برمته يركنون نحو الشعور بالأمان من هذا الفيروس، والاحساس بالسلامة والاسترخاء من الوقوع فيه.
  
فقد كشفت صحيفة الواشنطن بوست في 22 مارس من العام الجاري عن تقريرٍ سري ملخصه بأن أحد أفرع المخابرات الأمريكية حذرت ونبهت ترمب عدة مرات عن خطر المرض القادم لا محالة، ولكنه لم يبال بهذا التهديد الفيروسي وتجاهل تقارير مؤسساته الاستخبارية، والتي أوضحت له جميع التفاصيل المتعلقة بالفيروس وكافة الجوانب المتعلقة بقدراته الخارقة على غزو الإنسان ومجتمعه بسرعة فائقة ليس لها مثيل، علاوة على بيان الأزمة الصحية الخانقة الواسعة النطاق التي تعاني منها عدة مدن صينية. كما أكد على هذه الحقيقة التقرير المنشور في وسائل إعلامية أمريكية أخرى منها القناة التلفزيونية الأمريكية "أخبار أي بي سي"(ABC News)، وصحيفة واشنطن إِكزَمينر(Washington Examiner) في الثامن أبريل، وكلها أشارت إلى أن المخابرات، وبالتحديد المركز الوطني للمخابرات الطبية(National Center for Medical Intelligence) والذي يتبع وكالة الاستخبارات الدفاعية للجيش الأمريكي(Defense Intelligence Agency) قد حذروا البنتاجون والبيت الأبيض منذ نهاية نوفمبر عن وجود مرض معدٍ جداً يتغلغل في شرايين المجتمع الصيني، وأكدوا على أن هذا المرض قد يكون "حادثة كارثية"، ثم تكرر هذا التحذير نفسه عدة مرات في شهري ديسمبر ويناير، وعلاوة على ذلك فقد قُدم هذا التحذير مباشرة إلى ترمب في مطلع شهر يناير خلال التقارير اليومية المختصرة، كذلك أكد مسؤول في مراكز منع والتحكم في المرض في 25 فبراير بأن الوباء سينتشر في أمريكا والحياة العامة ستتضرر، ولكن بالرغم من هذه التحذيرات الواضحة إلى أنه لم يأخذ هذا التهديد الصحي على محمل الجد، ولم يبدأ بأخذ إجراءات احترازية واستباقية تحمي صحة الشعب الأمريكي. ففي المقابل أدلى بالكثير من التصريحات التي تُشير إلى عدم المبالاة من هذا المرض، واستصغار تأثيراته على الإنسان والمجتمع برمته، علماً بأن أول حالة سُجلت كانت في العشرين من يناير في ولاية مدينة سياتل بولاية واشنطن. ومن أمثلة هذا التصريحات في 26 يناير عندما قال في منتدى دافوس الاقتصادي: "الفيروس تحت سيطرتنا، وستكون الأمور على ما يرام"، وفي 30 يناير أدلى بتصريحٍ أمام حشدٍ من الأمريكيين: "لدينا مشكلة صغيرة في هذا البلد حالياً"، وأعلن في 14 فبراير قائلاً:" نحن لدينا عدداً قليلاً من الحالات وهم يتعافون، فنحن في حالة جيدة"، كما أكد ترمب وهو يفتخر في 24 فبراير: "مرض كورونا تحت السيطرة كلياً في أمريكا"، وفي 27 فبراير قال ترمب: "إن الفيروس سيختفي يوما ما كالمعجزة، سيختفي"، وأما في 29 فبراير فقد قال بأن فيروس كورونا هو "خدعة" من الحزب الديمقراطي. ومع حالة الترقب والانتظار وعدم الجدية في علاج قضية مرض فيروس كورونا، ضرب هذا الفيروس ضربة قوية، فهبَّ على عدة مدن وولايات أمريكية عريقة، مثل ولاية كاليفورنيا ومدينة نيويورك كالريح الصرصر العاتية التي لم يتوقعها ترمب فأسقط مئات الآلاف من الضحايا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في المستشفيات وأقسام العناية المركزة. وهنا أضطر ترمب مكرهاً إلى تغيير نغمة تصريحاته، ولحن كلماته، وجدية إجراءاته، حيث أعلن في 14 مارس إعلان حالة الطوارئ الصحية على المستوى الاتحادي، ثم في 23 مارس أعلن بأن ولايتي نيويورك وواشنطن تُعدان مناطق كوارث صحية، ثم بعد أن تفشى المرض في جميع الولايات الخمسين، أعلن ولأول مرة في تاريخ أمريكا في 11 أبريل بأن جميع الولايات الأمريكية تعتبر مناطق كوارث صحية.

وفي هذه الأثناء تخطت حالات مرض فيروس كورونا في أعدادها كل دول العالم، واحتلت الولايات المتحدة الأمريكية المركز الأول في عدد حالات الإصابة بمرض كورونا على المستوى العالمي، حيث بلغت أكثر من 750 ألف، مات منهم 40 ألفاً، كما أن أمريكا أيضاً شهدت في 11 أبريل أكثر حالات لصرعى كورونا خلال 24 ساعة على المستوى العالمي، حيث إنها بلغت 2108 حالة، كما أُعلنت مدينة نيويورك في 23 مارس بأنها بؤرة انتشار مرض فيروس كورونا. وجدير بالذكر، حسب ما ورد في عدة تقارير في الصحف الأمريكية، منها التحقيق المنشور في مجلة تقرير النيوزويك في 30 مارس، فإن عدد الموتى من كورونا زاد كثيراً عن عدد الموتى في الكثير من الحروب التقليدية التي خاضتها أمريكا في العقود الماضية، فعلى سبيل المثال، عدد قتلى الجنود الأمريكيين في أطول حربٍ خاضتها أمريكا في تاريخها وهي غزو أفغانستان من 2001 إلى 2020، بلغ فقط 2445 مقارنة بحرب فيروس كورونا التي زاد العدد عن 34 ألفاً!

وأمام هذا المشهد العصيب والمأساوي، وأمام مناظر جثث الموتى في كل الولايات، وأمام عجز المستشفيات في مواجهة هذا السونامي الفيروسي الذي أصاب البشر بسبب نقص أدوات الوقاية الشخصية من كمامات وقفازات، ونقص أجهزة التنفس الاصطناعي والأسرة الطبية، وقلة الدواء والعلاج، وأمام منظر حيرة الأطباء والممرضين وخيبة أملهم من مكافحة هذا الوباء، فأمام كل هذه المشاهد الكارثية العقيمة، وقف ترمب مرتبكاً لا يعرف كيف يداوي هذا الجرح النفسي الذي وقع عليه، ولا يعلم كيف يبرر هذا الفشل الذريع في إدارته لهذه الحالات المأساوية، وليست لديه أية مؤشرات تنقذه من غرقه وخسارته في هذه الحرب الجديدة الخفية.

فما كان من ترمب إلا أن علَّق هزيمته النكراء في الحرب على عدم شماعات لعلها تفيده في الانتخابات الرئاسية القادمة وتخرجه من ورطته العميقة. فتارة ألقى اللوم على الحزب الديمقراطي في عدم التعاون معه، وتارة أخرى صبَّ غضبه على باراك أوباما، الرئيس السابق، في أنه وَرِث منه بنية تحتية صحية مترهدلة وغير مكتملة وخدمات صحية ناقصة وغير مناسبة، ثم بدأ بتوجيه سهامه إلى الصين في عدم شفافيتها في نشر المعلومات حول المرض حالة تفشيه، وتضليل دول العالم حول حجم هذا الوباء، كذلك صرح في 18 أبريل قائلاً بأن إمكانية تسلل الفيروس من مختبر في مدينة ووهان الصينية تبدو منطقية ومعقولة، محاولاً بذلك توجيه وتركيز الأنظار والاهتمام إلى قضية جديدة بعيداً عن سجله في هذه الحرب، وأخيراً كشف عن "كبش فداء" جديد، حيث غطى خسارته في الحرب الفيروسية بفشل منظمة الصحة العالمية في إدارتها لهذا الوباء العالمي فقال في الثامن من أبريل: "لقد فشلت المنظمة في هذا الواجب الأساسي ويجب محاسبتها"، ثم في 14 أبريل علَّق دعمه المالي للمنظمة.

ومن خلال تحليلي لسياق الأحداث منذ ديسمبر 2019 حتى الآن، فإنني أرى بأن خسارة أمريكا في هذه الحرب الفيروسية تكمن في الأسباب التالية:
أولاً: تعنت الرئيس الأمريكي وعدم استماعه لأجهزته المخابراتية الأمنية والوكالات الصحية المتخصصة وعلماء أمريكا، وتجاهله لتحذيراتهم كلها حول جدية مرض فيروس كورونا.
ثانياً: خطأ قراءة الرئيس الأمريكي للوقائع والأحداث المتعلقة بفيروس كورونا، والتهاون من قوة هذا الفيروس وسرعة انتشاره بين الناس وفتكه بالجسم البشري، وانتظاره لنحو شهرين قبل أن يتخذ خطوة فاعلة ومؤثرة لمواجهة هذا الفيروس الغريب.
ثالثاً: عدم الاستعجال في اتخاذ الإجراءات الاحترازية والخطوات الاستباقية الحازمة لمهاجمة الفيروس قبل انتشاره، مثل تعميم إجراء التحاليل لكشف المرض على أكبر عدد ممكن من الناس، وتطبيق إجراء الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وإغلاق بعض المدن التي قد ينتشر فيها المرض.
رابعاً: ضعف البنية التحتية الصحية في الولايات الأمريكية، وعدم تغطية الخدمات الصحية لجميع المواطنين، إضافة إلى النقص الشديد في أدوات الوقاية الشخصية والأجهزة والمعدات اللازمة لعلاج المرضى.
خامساً: تفضيل الرئيس الأمريكي لصحة الاقتصاد وانتعاش سوق الأسهم على صحة الناس ووقايتهم من كورونا.
سادساً: جهل الإنسان عامة بهذا الفيروس الغامض الجديد، وقلة معرفته بكافة التفاصيل المتعلقة به، إضافة إلى عدم وجود السلاح الفاعل والسريع ضد هذه الحرب الفيروسية المستجدة.