الخميس، 23 أبريل 2020

لماذا خسرتْ أعظم دولة الحرب ضد كورونا؟


نشرتُ مقالاً في صحيفة أخبار الخليج في الخامس من أبريل من العام الجاري تحت عنوان: "لماذا اخْتَلفتْ الدول في حربها ضد وباء كورونا"، وبيَّنت في المقال بأن هناك عدة أسباب أدت إلى ظهور التعددية والاختلافات في المداخل والسياسات والإجراءات التي اتبعتها الدول في إيقاف تفشي هذا المرض العضال والوباء العالمي الذي ظهر في كل دول العالم بدون استثناء.

وأول سبب ذكرته هو وعي وسلوكيات وقناعات رئيس الدولة، أو الحكومة، وقُدرة فهم هذا الرئيس واستيعابه لحجم الضرر الذي سيقع عند دخول واكتشاف أول حالة فيروس كورونا في البلاد وزرع واحتضان البذرة الأولى لهذا الفيروس الغامض الخطير، إضافة إلى الجدية والحزم عند رئيس الدولة في اتخاذ القرارات وتبني الإجراءات المتعلقة بكبح جماح هذا الفيروس منذ لحظة ظهوره.

فالرئيس الأمريكي ترمب ينطبق عليه هذا السبب في عدم تبنيه للإجراءات التي قامت بها معظم مدن ودول العالم، والتي تمثلت في إغلاق جزئي أو كلي سريع وفوري، حيث إنه تجاهل في البداية جميع المؤشرات التي خرجت من مسقط رأس الفيروس ومكان ولادته في مدينة ووهان الصينية، كما إنه في الوقت نفسه غض الطرف عن التحذيرات التي قُدمت له من الأجهزة المختلفة التابعة لإدارته، بل وعلى العكس من ذلك فقد بعث للشعب الأمريكي برسائل مطمئنة عِدة في مناسبات مختلفة، مما جعلتْ حكومات الولايات والشعب برمته يركنون نحو الشعور بالأمان من هذا الفيروس، والاحساس بالسلامة والاسترخاء من الوقوع فيه.
  
فقد كشفت صحيفة الواشنطن بوست في 22 مارس من العام الجاري عن تقريرٍ سري ملخصه بأن أحد أفرع المخابرات الأمريكية حذرت ونبهت ترمب عدة مرات عن خطر المرض القادم لا محالة، ولكنه لم يبال بهذا التهديد الفيروسي وتجاهل تقارير مؤسساته الاستخبارية، والتي أوضحت له جميع التفاصيل المتعلقة بالفيروس وكافة الجوانب المتعلقة بقدراته الخارقة على غزو الإنسان ومجتمعه بسرعة فائقة ليس لها مثيل، علاوة على بيان الأزمة الصحية الخانقة الواسعة النطاق التي تعاني منها عدة مدن صينية. كما أكد على هذه الحقيقة التقرير المنشور في وسائل إعلامية أمريكية أخرى منها القناة التلفزيونية الأمريكية "أخبار أي بي سي"(ABC News)، وصحيفة واشنطن إِكزَمينر(Washington Examiner) في الثامن أبريل، وكلها أشارت إلى أن المخابرات، وبالتحديد المركز الوطني للمخابرات الطبية(National Center for Medical Intelligence) والذي يتبع وكالة الاستخبارات الدفاعية للجيش الأمريكي(Defense Intelligence Agency) قد حذروا البنتاجون والبيت الأبيض منذ نهاية نوفمبر عن وجود مرض معدٍ جداً يتغلغل في شرايين المجتمع الصيني، وأكدوا على أن هذا المرض قد يكون "حادثة كارثية"، ثم تكرر هذا التحذير نفسه عدة مرات في شهري ديسمبر ويناير، وعلاوة على ذلك فقد قُدم هذا التحذير مباشرة إلى ترمب في مطلع شهر يناير خلال التقارير اليومية المختصرة، كذلك أكد مسؤول في مراكز منع والتحكم في المرض في 25 فبراير بأن الوباء سينتشر في أمريكا والحياة العامة ستتضرر، ولكن بالرغم من هذه التحذيرات الواضحة إلى أنه لم يأخذ هذا التهديد الصحي على محمل الجد، ولم يبدأ بأخذ إجراءات احترازية واستباقية تحمي صحة الشعب الأمريكي. ففي المقابل أدلى بالكثير من التصريحات التي تُشير إلى عدم المبالاة من هذا المرض، واستصغار تأثيراته على الإنسان والمجتمع برمته، علماً بأن أول حالة سُجلت كانت في العشرين من يناير في ولاية مدينة سياتل بولاية واشنطن. ومن أمثلة هذا التصريحات في 26 يناير عندما قال في منتدى دافوس الاقتصادي: "الفيروس تحت سيطرتنا، وستكون الأمور على ما يرام"، وفي 30 يناير أدلى بتصريحٍ أمام حشدٍ من الأمريكيين: "لدينا مشكلة صغيرة في هذا البلد حالياً"، وأعلن في 14 فبراير قائلاً:" نحن لدينا عدداً قليلاً من الحالات وهم يتعافون، فنحن في حالة جيدة"، كما أكد ترمب وهو يفتخر في 24 فبراير: "مرض كورونا تحت السيطرة كلياً في أمريكا"، وفي 27 فبراير قال ترمب: "إن الفيروس سيختفي يوما ما كالمعجزة، سيختفي"، وأما في 29 فبراير فقد قال بأن فيروس كورونا هو "خدعة" من الحزب الديمقراطي. ومع حالة الترقب والانتظار وعدم الجدية في علاج قضية مرض فيروس كورونا، ضرب هذا الفيروس ضربة قوية، فهبَّ على عدة مدن وولايات أمريكية عريقة، مثل ولاية كاليفورنيا ومدينة نيويورك كالريح الصرصر العاتية التي لم يتوقعها ترمب فأسقط مئات الآلاف من الضحايا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في المستشفيات وأقسام العناية المركزة. وهنا أضطر ترمب مكرهاً إلى تغيير نغمة تصريحاته، ولحن كلماته، وجدية إجراءاته، حيث أعلن في 14 مارس إعلان حالة الطوارئ الصحية على المستوى الاتحادي، ثم في 23 مارس أعلن بأن ولايتي نيويورك وواشنطن تُعدان مناطق كوارث صحية، ثم بعد أن تفشى المرض في جميع الولايات الخمسين، أعلن ولأول مرة في تاريخ أمريكا في 11 أبريل بأن جميع الولايات الأمريكية تعتبر مناطق كوارث صحية.

وفي هذه الأثناء تخطت حالات مرض فيروس كورونا في أعدادها كل دول العالم، واحتلت الولايات المتحدة الأمريكية المركز الأول في عدد حالات الإصابة بمرض كورونا على المستوى العالمي، حيث بلغت أكثر من 750 ألف، مات منهم 40 ألفاً، كما أن أمريكا أيضاً شهدت في 11 أبريل أكثر حالات لصرعى كورونا خلال 24 ساعة على المستوى العالمي، حيث إنها بلغت 2108 حالة، كما أُعلنت مدينة نيويورك في 23 مارس بأنها بؤرة انتشار مرض فيروس كورونا. وجدير بالذكر، حسب ما ورد في عدة تقارير في الصحف الأمريكية، منها التحقيق المنشور في مجلة تقرير النيوزويك في 30 مارس، فإن عدد الموتى من كورونا زاد كثيراً عن عدد الموتى في الكثير من الحروب التقليدية التي خاضتها أمريكا في العقود الماضية، فعلى سبيل المثال، عدد قتلى الجنود الأمريكيين في أطول حربٍ خاضتها أمريكا في تاريخها وهي غزو أفغانستان من 2001 إلى 2020، بلغ فقط 2445 مقارنة بحرب فيروس كورونا التي زاد العدد عن 34 ألفاً!

وأمام هذا المشهد العصيب والمأساوي، وأمام مناظر جثث الموتى في كل الولايات، وأمام عجز المستشفيات في مواجهة هذا السونامي الفيروسي الذي أصاب البشر بسبب نقص أدوات الوقاية الشخصية من كمامات وقفازات، ونقص أجهزة التنفس الاصطناعي والأسرة الطبية، وقلة الدواء والعلاج، وأمام منظر حيرة الأطباء والممرضين وخيبة أملهم من مكافحة هذا الوباء، فأمام كل هذه المشاهد الكارثية العقيمة، وقف ترمب مرتبكاً لا يعرف كيف يداوي هذا الجرح النفسي الذي وقع عليه، ولا يعلم كيف يبرر هذا الفشل الذريع في إدارته لهذه الحالات المأساوية، وليست لديه أية مؤشرات تنقذه من غرقه وخسارته في هذه الحرب الجديدة الخفية.

فما كان من ترمب إلا أن علَّق هزيمته النكراء في الحرب على عدم شماعات لعلها تفيده في الانتخابات الرئاسية القادمة وتخرجه من ورطته العميقة. فتارة ألقى اللوم على الحزب الديمقراطي في عدم التعاون معه، وتارة أخرى صبَّ غضبه على باراك أوباما، الرئيس السابق، في أنه وَرِث منه بنية تحتية صحية مترهدلة وغير مكتملة وخدمات صحية ناقصة وغير مناسبة، ثم بدأ بتوجيه سهامه إلى الصين في عدم شفافيتها في نشر المعلومات حول المرض حالة تفشيه، وتضليل دول العالم حول حجم هذا الوباء، كذلك صرح في 18 أبريل قائلاً بأن إمكانية تسلل الفيروس من مختبر في مدينة ووهان الصينية تبدو منطقية ومعقولة، محاولاً بذلك توجيه وتركيز الأنظار والاهتمام إلى قضية جديدة بعيداً عن سجله في هذه الحرب، وأخيراً كشف عن "كبش فداء" جديد، حيث غطى خسارته في الحرب الفيروسية بفشل منظمة الصحة العالمية في إدارتها لهذا الوباء العالمي فقال في الثامن من أبريل: "لقد فشلت المنظمة في هذا الواجب الأساسي ويجب محاسبتها"، ثم في 14 أبريل علَّق دعمه المالي للمنظمة.

ومن خلال تحليلي لسياق الأحداث منذ ديسمبر 2019 حتى الآن، فإنني أرى بأن خسارة أمريكا في هذه الحرب الفيروسية تكمن في الأسباب التالية:
أولاً: تعنت الرئيس الأمريكي وعدم استماعه لأجهزته المخابراتية الأمنية والوكالات الصحية المتخصصة وعلماء أمريكا، وتجاهله لتحذيراتهم كلها حول جدية مرض فيروس كورونا.
ثانياً: خطأ قراءة الرئيس الأمريكي للوقائع والأحداث المتعلقة بفيروس كورونا، والتهاون من قوة هذا الفيروس وسرعة انتشاره بين الناس وفتكه بالجسم البشري، وانتظاره لنحو شهرين قبل أن يتخذ خطوة فاعلة ومؤثرة لمواجهة هذا الفيروس الغريب.
ثالثاً: عدم الاستعجال في اتخاذ الإجراءات الاحترازية والخطوات الاستباقية الحازمة لمهاجمة الفيروس قبل انتشاره، مثل تعميم إجراء التحاليل لكشف المرض على أكبر عدد ممكن من الناس، وتطبيق إجراء الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وإغلاق بعض المدن التي قد ينتشر فيها المرض.
رابعاً: ضعف البنية التحتية الصحية في الولايات الأمريكية، وعدم تغطية الخدمات الصحية لجميع المواطنين، إضافة إلى النقص الشديد في أدوات الوقاية الشخصية والأجهزة والمعدات اللازمة لعلاج المرضى.
خامساً: تفضيل الرئيس الأمريكي لصحة الاقتصاد وانتعاش سوق الأسهم على صحة الناس ووقايتهم من كورونا.
سادساً: جهل الإنسان عامة بهذا الفيروس الغامض الجديد، وقلة معرفته بكافة التفاصيل المتعلقة به، إضافة إلى عدم وجود السلاح الفاعل والسريع ضد هذه الحرب الفيروسية المستجدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق