الأربعاء، 31 أكتوبر 2018

قميص مُشع منذ 70 عاماً


منذ 70 عاماً وهذا القميص الذي لبسته بنت يابانية في يومٍ من الأيام العصيبة مازال مشعاً وقاتلاً وتنبعث منه الملوثات المشعة المهددة لحياة الإنسان والتي تسبب الأمراض المزمنة لكل من يتعرض لها.

 

فما قصة هذا القميص المشع؟ ولماذا بقي مشعاً طوال هذه السنوات، وسيظل مشعاً لسنواتٍ طويلة قادمة؟

 

كان هذا القميص لبنتٍ عمرها 16 عاماً، وكانت ترتديه في المدرسة أثناء الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في اليوم المشئوم على الشعب الياباني والعالم أجمع في السادس من أغسطس عام 1945 عندما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة وقد تكون آخر مرة في تاريخ البشرية قنبلة الدمار الشامل الذرية النووية المدمرة للحرث والنسل والمهلكة للبشر والحجر، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، حيث مات فوراً أكثر من 80 ألف من سكان مدينة هيروشيما وتعرض عشرات الآلاف للإشعاعات القاتلة وأصيبوا بأمراضٍ مزمنة مستعصية على العلاج.

 

وكانت هذه البنت فور وقوع القنبلة الآثمة في المدرسة على بعد نحو 1.3 كيلومتر من مركز القنبلة، وبالتحديد في الطابق الثاني عندما سقط جدار مبنى المدرسة، وبدأ المبنى كله يتهاوى من شدة وقع هذه القنبلة، وقد حفظ الله روح هذه البنت التي تبلغ الآن من العمر عتياً حيث دق عمرها ساعة الـ 89 لتكون شاهدة حية على ذلك اليوم العظيم، فتحكي قصتها بنفسها، وتروي بلسانها الناطق الفظائع المؤلمة التي شاهدتها أمام عينيها، فتخلد ذكرى سقوط هذه القنبلة وتبين للبشرية جمعاء درجة تدميرها للإنسانية ومكتسباته التنموية.

 

وبعد نجاتها من هذه الكارثة العقيمة وعلاجها من الأضرار الصحية التي لحقت بها، احتفظت بهذا القميص وغسلته مرات عديدة لإزالة البقع السوداء التي لطخت القميص نتيجة للمطر الأسود الذي نزل مباشرة بعد إلقاء القنبلة، وبالرغم من ذلك فقد بقت آثار الجريمة البشعة تذكر الإنسان بذلك اليوم، ومازالت آثارها باقية، فقد تم مؤخراً وضع هذا القميص في متحف هيروشيما للسلام، حيث قام أحد العلماء في السادس من أغسطس 2018 في الذكرى السبعين لهذه الطامة الكبرى بإجراء تحليل على هذا القميص وتأكد بالتجربة العلمية أن هذا القميص مازال مشعاً وتنطلق منه منذ ذلك الوقت الملوثات المشعة، ولا يعلم إلا الله إلى متى سيظل هذه القميص مشعاً.

 

فهذه الكارثة الكبرى تثبت لنا مخاطر التعامل مع المواد المشعة بشكلٍ عام، سواء أكانت لأغراض سلمية في مجال الطب وتوليد الكهرباء، أو في المجالات العسكرية، ففي جميع الحالات يجب أخذ الحذر الشديد والإجراءات الصارمة جداً في التعامل معها ومع مخلفاتها، فإذا خرج هذه الغول الإشعاعي من محبسه فسيظل طليقاً مهلكاً أبد الدهر.

الخميس، 25 أكتوبر 2018

سؤال إلى وزارتي الصحة والتجارة


سؤال أطرحه على وزارتي الصحة والتجارة والوزارات الأخرى المعنية، ويتلخص هذا السؤال في أنني لو أحضرتُ عينة من منتجٍ جديد من إحدى الدول الصناعية الكبرى، وعرضتُ هذا المنتج على المعنيين في هذه الوزارات للحصول على الترخيص اللازم لاستيراده إلى البحرين، وهذا المنتج مكتوب عليه بالخط العريض الواضح والفصيح الذي لا لبس فيه بأنه يضر بصحة الفرد والصحة العامة ويؤثر على هذا الجيل من البشر والأجيال اللاحقة مثل عبارة: " هذا المنتج يسبب لك الأمراض مثل مرض السرطان"، أو أن "هذا المنتج يؤدي بك إلى الموت المبكر"، فماذا سيكون رد الوزارات المعنية؟ وهل سيسمحون لي بإدخال هذا المنتج إلى البلاد؟

لا شك بأن مثل هذا الطلب سيكون مستغرباً جداً بل ومُستنكراً ومُداناً، لأنني أُقدم لهم وبكل صراحة وعلانية مُنتجاً مضراً للصحة على المستوى الفردي والجماعي وعلى مستوى هذا الجيل والأجيال اللاحقة،فهو يسبب السرطان ويؤذي الصحة العامة للمجتمع برمته، كما إنني متأكد بأن الجواب والرد من المعنيين سيكون حتماً بالرفض القاطع والمباشر والفوري دون أي تردد، وربما سيُلقون علي اللوم والعتاب الشديدين في جرأتي المفرطة في التقدم باستيراد وبصورة علنية لهذا المنتج القاتل للمواطنين، بل وسيشكك البعض في وطنيتي وحبي لبلادي وشعبه المعطاء.

وفي الوقت نفسه أود أن أُلفت انتباه هؤلاء المعنيين في الوزارات باستيراد المنتجات الجديدة والسماح لها بالدخول إلى البلاد، أنني رأيتُ مُنتجاً يباع في كل حيٍ من أحياء البحرين وفي كل "داعوس" من "دواعيس" البلاد، ومكتوب عليه ما يلي حسب البلد المصنع له مؤكداً بأن هذا المنتج "قاتل للأجيال البشرية".

"دخان التبغ يؤذي الجنين وقد يؤدي لنقص الوزن عند الولادة أو الولادة المبكرة".
"التدخين يسبب الوفاة المبكرة".
"التدخين يحرق أعضاء الجسد بأكثر من 25 مرضاً بما في ذلك السرطان والأمراض القلبية".

وعلاوة على هذه "التأكيدات" وليس "التحذيرات" من استخدام هذا المنتج وهو السجائر، فإن كبريات شركات السجائر الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وهي بالتحديد ألتريا ورينالد ولوريلارد وفيليب موريس قامت هي بيديها في ديسمبر 2017 ولمدة سنة واحدة بتمويل ودَعمِ نشر إعلانات في وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة تقول:"التدخين يقتل نحو 1200 أمريكي كل يوم، وفي كل سنة أعداد الأمريكيين الذين يموتون بسبب التدخين أعلى بكثير من الذين يموتون بسبب الجرائم، والايدز، والانتحار، والمخدرات، وحوادث السيارات، وشرب الخمر معاً"، كما يُضيف الإعلان قائلاً: “شركات السجائر صمَّمت عمداً سجائر تحتوي على نسب كافية من النيكوتين لتؤدي إلى الإدمان مع الوقت".

كذلك فإن هذا المنتج يُعد أكبر قاتلٍ للبشر حسب الإجماع الدولي الرسمي ممثلاً في منظمات الأمم المتحدة الرسمية ذات العلاقة مثل منظمة الصحة العالمية، إضافة إلى المجتمع العلمي الطبي غير الرسمي.

وكل هذا يعني أن هذا المنتج، أو السجائر حسب المنظمات الصحية الدولية، وحسب دراسات العلماء، وباعتراف مصنعي السجائر أنفسهم يسبب الأمراض الفتاكة والمزمنة بالبشر، ويؤدي بهم إلى الموت المبكر، ويقضي على أجيال كاملة من الأطفال والشباب.

فهذا المنتج منذ ولادته مرَّ بعدة محطات محورية رئيسة تُعد بصمة عار في تاريخه الأسود، ففي عام 1988 أعلنت الجهة الحكومية المعنية بحماية الصحة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية على لسان الناطق الرسمي ويُطلق عليه بالجراح العام(surgeon general) بأن التبغ والتدخين يسببان الإدمان، وفي عام 1964 أعلن الجراح العام بأن التدخين يسبب السرطان، ومنذ عام 1966 حتى يومنا هذا توضع تحذيرات صحية على علب السجائر والتبغ بأن التدخين ضار ومسبب للسرطان، وفي عام 1998 رَفعتْ46 ولاية أمريكية معاً قضية مشهورة وتاريخية ضد شركات السجائر والتبغ والتي اعترفت فيها شركات الموت الجماعي هذه وبعد محاكمة ماراثونية طويلة بأنها أَنتجتْ طوال السنوات الماضية منتجاً يهلك الشعوب ويحولها إلى شعوب مدمنة على التبغ.

والآن وبعد كل هذه البراهين والإثباتات التي لا خلاف عليها ولا شبهة فيها، أُريد أن أسمع جواباً مقنعاً ووجيهاً من أية جهة معنية ومسؤولة عن استيراد المنتجات والسماح لها بالدخول في البلاد، وتقديم المبررات الدامغة والشافية للشعب البحريني التي على أساسها سمحت لهذه الآفة السامة التي تجري في شراييننا والمدمرة لصحة الشباب والشيوخ معاً من الدخول إلى البحرين؟


السبت، 20 أكتوبر 2018

وضع بند في الموازنة عن التلوث ضمن المصروفات والنفقات


أتمنى من حكومتنا ومجلس النواب أن تأخذ زمام المبادرة وتكون سباقة بين دول العالم في وضع بندٍ جديد في موازنة الدولة القادمة متعلق بالتلوث عامة، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، وبالتحديد في باب المصروفات والنفقات، فقد أجمعت الدراسات والأبحاث العلمية الاقتصادية الآن أن للتلوث بعداً مالياً إقتصادياً لا يستهان به، ولا يمكن بعد الآن تجاهله وغض الطرف عنه، فهو أصبح من العوامل التي ترهق كاهل ميزانية الدول بطريقة مباشرة وغير مباشرة.

 

فالدراسات والأبحاث ذات العلاقة بالجانب الاقتصادي للتلوث والتي تحاول أن تضع قيمة نقدية مالية للتلوث وتدمير مكونات البيئة بدأت تنضج يوماً بعد يوم حتى إنها اليوم تُدرَّس في الجامعات تحت مقرر مستقل خاص يُطلق عليه "إقتصاديات البيئة"(Environmental Economics)، وهناك من الجامعات المرموقة المتقدمة والمتطورة علمية والتي تمنح درجتي الماجستير والدكتوراه في هذا التخصص العلمي الحديث، وقريباً سيتحول هذا التخصص من الجامعات الأكاديمية ومراكز الدراسات والأبحاث إلى الواقع العملي اليومي فيفرض نفسه كبندٍ عام مستقل ومتخصص في الموازنة العامة للدول والحكومات يختلف عن ميزانية الوزارة المعنية بالبيئة.

 

ومن آخر الدراسات التي نُشرت في هذا الباب تلك المتعلقة بالمعاناة الاقتصادية للصين من تلوث الهواء الذي ضرب أطنابه بقوة في كل المجتمع الصيني، والكلفة المالية الباهظة التي تتكبدها الصين اليوم بسبب تماديها في تجاهل التلوث في كافة القطاعات التنموية، ونتائج واستنتاجات هذا البحث لا تنطبق على الصين فحسب وإنما تنطبق على أية دولة تهمل هموم البيئة وشؤونها وتتجاهل حقوقها واستحقاقاتها وحماية مواردها وثرواتها الحية وغير الحية، فهذه الحالة الصينية تنطبق علينا وعلى غيرنا، فمن الأجدى أن نقرأها قراءة متمعنة ومعمقة ونتعلم من هفواتها وزلاتها ونستفيد من أخطائها وتجاربها.

 

فقد أكدت هذه الدراسة المنشورة في مجلة رسائل البحث البيئي(Environmental Research Letters) في العدد الصادر في العاشر من أكتوبر من العام الحالي،والتي قام بها باحثون من الجامعة الصينية في هونج كونج أن التلوث وبالتحديد تلوث الهواء المتمثل في ظاهرة الضباب الضوئي الكيماوي التي تجثم فوق صدور الناس بين الحين والآخر فتُعرضهم للأمراض الحادة والمزمنة وتشل الحركة في المدن وتوقف عجلة التنمية وتجبر الناس على البقاء في منازلهم، تُشكل عبئاً سنوياً ثقيلاً على الاقتصاد الصيني، فتلوث الهواء وانكشاف ظاهرة الضباب القاتل فوق المدن الصينية الصناعية العريقة يستقطع أكثر من 38 بليون دولار من الميزانية العامة للصين سنوياً كمصروفات ونفقات عامة، وهذا المبلغ المالي الضخم يُشكل نسبة 0.7 من الناتج المحلي الإجمالي السنوي.

 

ويتمثل هذا الحِمْل المالي العصيب الذي يقع على ظهر الحكومة الصينية في التأثيرات التي تنجم عن تلوث الهواء على صحة الأفراد والصحة العامة من ناحية الأمراض التي تنزل عليهم وارتفاع كلفة علاجها من جهة، ومن ناحية الموت المبكر للإنسان الصيني من جهة أخر، حيث أفادت الدراسة إلى أن تلوث الهواء يقضي على 1.1 مليون صيني سنوياً فيموتون موتاً مبكراً، وانعكاس ذلك بشكلٍ مباشر على الإنتاجية والنشاط التنموي بشكلٍ عام. وعلاوة على ذلك، فإن التلوث أدى إلى تدهورٍ شديد في كمية وجودة المحاصيل الزراعية نتيجة لتلوث التربة الزراعية وتدهور نوعية المياه الجوفية ومياه المسطحات المائية المستخدمة في ري هذه المحاصيل الزراعية.

 

وانطلاقاً من هذا البعد الاقتصادي النقدي الخطير للتلوث على الإنسان والتنمية فقد أكدت الصين على أنها ستدخل مرحلة جديدة في سياساتها التنموية، وستتبنى إستراتيجية حديثة تاريخية محورها ومركزها الرئيس هو الإنسان وحماية الأمن الصحي للإنسان، أي سياسة "الإنسان أولاً"، فسياسة الصين في عملياتها التنموية بناءً على هذه الرؤية قد تغيرت 180 درجة، وتبدلت جذرياً من حالٍ إلى حال، فقد تغيرت من سياسةٍ هدفها تحقيق النمو السريع والمتعاظم على حساب كل شيء آخر إلى سياسة وسطية معتدلة تأخذ في الاعتبار الجانب الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الجانب البيئي الصحي والاجتماعي وأطلقوا عليها سياسة "النمو ذو الجودة العالية أو النوعية الممتازة"، كما تغيرت من سياسة الهدم للموارد والثروات الطبيعية إلى سياسةٍ تنسجم مع رعاية البيئة ومواردها الحية وغير الحية، أي من سياسة عدائية وهجومية على كل مكونات البيئة والإنسان إلى سياسة صديقة ودفاعية لكل عنصرٍ حي أو غير حي للبيئة.

 

وهذه السياسة العامة تحولت إلى واقع ميداني انعكس على الموازنة العامة للصين، حيث تم تخصيص بند مستقل لحماية البيئة وثرواتها الفطرية الطبيعية وصيانتها، وتحديد مئات الملايين من الدولارات لتنفيذ الإجراءات اللازمة لحماية صحة المواطنين، فمنها على سبيل المثال، المصروفات المتعلقة بوضع أجهزة متطورة للتحكم في الملوثات التي تنبعث من المصانع ومحطات توليد الكهرباء والسيارات ومعالجتها وخفض تركيزها وتحسين نوعيتها قبل أن تنطلق إلى الهواء الجوي، ومنها النفقات المرتبطة بتحسين نوعية الوقود المستخدمة في محطات توليد الكهرباء ووسائل النقل والمصانع التابعة للحكومة، ومنها النفقات الخاصة بعلاج الناس نتيجة لتعرضهم للملوثات الموجودة في البيئة.

 

ولذلك نجد اليوم وفي المستقبل بأن الموازنة العامة للدول لن تخلو من بند متخصص ومستقل للمصروفات والنفقات في مجال البيئة وحماية صحة المواطنين من التلوث.

 

الاثنين، 15 أكتوبر 2018

المدخل المتكامل لبناء البيئة الاستثمارية في البحرين


إذا أردنا فعلاً في البحرين أن ننجح في بناء البيئة الاستثمارية المستدامة وتهيئة المناخ الاستثماري المناسب ونستقطب رؤوس الأموال ونجذب الاستثمار الداخلي والخارجي ونحقق في الوقت نفسه قدرة تنافسية عالية مع الدول الأخرى المجاورة وغير المجاورة، فعلينا إتباع ما أُطلق عليه "المدخل المتكامل والشامل".

 

فهذا المدخل يأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل المباشرة وغير المباشرة، الصغيرة والكبيرة، ويعمل على تذليل الصعوبات والمعوقات التي لها علاقة بخلق البيئة الاستثمارية وتشجيع وتحفيز المستثمرين من جهة، وإلزام كافة وزارات وهيئات الدولة لتفعيل وتنفيذ العوامل المتعلقة والمختصة بتلك الوزارة أو الهيئة من جهةٍ أخرى، أي أن هذا المدخل المتكامل والشامل يدعو الحكومة إلى أن تعمل كفريق واحد، فكل لاعب في هذا الفريق يقوم بدوره ومسؤوليته حسب تخصص وزارته وهيئته ووفقاً لسياسة واحدة وخطة حكومية مرسومة مسبقاً.

 

وانطلاقاً من هذا المدخل أو الرؤية التكاملية الشاملة علينا تأمين ودراسة كافة العوامل السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والتشريعية، والاجتماعية، والبيئية التي تصب في مصلحة تطوير وتحسين البنية الاستثمارية وتوفير البيئة التنافسية والجذابة لتحفيز المستثمرين سواء في الداخل أو الخارج لوضع أموالهم في البلد، أو فتح مصانع ومحلات تجارية ووكالات عالمية أو غيرها. كذلك فإن هذا المدخل المتكامل يحقق مبدأ "التوازن والاعتدال" في كيفية ومستوى التعامل مع كافة مقومات وعوامل توفير البيئة الاستثمارية المستدامة، فلا يطغى الاهتمام بعامل دون العوامل الأخرى، ولا يحظى أحد العوامل بالرعاية والاهتمام الكبيرين على حساب العوامل الأخرى فننساها أو نغفل عنها.

 

فمن أهم مقومات جذب الاستثمار وتشجيع المستثمرين هو توفير البيئة الأمنية والاستقرار في البلد ليشعر المستثمر بالراحة النفسية والطمأنينة الكاملة على نفسه وماله واستثماراته وممتلكاته، ثم في المرتبة الثانية يأتي الجانب الاقتصادي من ناحية وضع وتنفيذ الاستراتيجيات الاقتصادية الموجهة نحو المستثمر في الداخل والخارج، فهناك السياسة النقدية والمالية من جهة وتحديد الرسوم والتعريفات الجمركية والإعفاءات الضريبة وغيرهما من جهةٍ أخرى، على أن تكون كل ذلك واضحة وثابتة لا تتغير كل سنة، وأن تطبق في أرض الواقع، مما يزيد من مصداقية الدولة ويؤكد ثبات سياستها ورؤيتها. وفي المرتبة الثالثة هناك البيئة التشريعية والقضائية من ناحيتي القوانين والأنظمة التي تضعها الدولة خدمة للمستثمر ووضوحاً في الرؤية والتطبيق والشفافية العالية، ومن ناحية النظام القضائي القادر على تنفيذ القوانين وحل الخلافات، فهناك التشريعات الخاصة بالمنازعات والإفلاس والاستثمار وغيرها من القوانين ذات العلاقة. 

 

وهناك أيضاً توفير وتحديث وتحسين البنية التحتية التي تُعد من مقومات نجاح واستدامة الاستثمار في البلاد، مثل التطوير المستمر لهذه البنية التحتية لتواكب الزيادة في أعداد المستثمرين، وتتماشى مع نوعية وحجم المرافق التي يفتحونها، مثل وجود الخدمات الصحية والتعليمية المتطورة والحديثة، وبناء شبكات النقل الجوية والبرية والبحرية والتأكد من سلامتها وأمنها وملاحقتها للتطورات التقنية المتسارعة في هذا المجال والعمل على خفض درجة الازدحام الاكتظاظات المرورية التي نشهدها الآن في البلاد في أوقات الذروة وفي غير أوقات الذروة وفي جميع الشوارع والطرقات، ثم متابعة كل المستجدات على الساحة الدولية الفنية بالنسبة لوسائل الاتصال. كما أن البنية التحتية تشتمل على توفير مصادر المياه والطاقة المستدامة والنظيفة بيئياً، بحيث إنها تراقب وتواكب أي ارتفاع أو زيادة في الطلب على المياه والكهرباء، إضافة إلى تحديث وتطوير آليات وتقنيات معالجة مياه المجاري وتوسعة وزيادة طاقتها في استيعاب الارتفاع في إنتاج هذه المياه، وإتباع أحدث الطرق والتقنيات في إدارة المخلفات البلدية والصناعية السائلة والصلبة من ناحية خفض أو منع إنتاجها كأولوية، ثم تدويرها وإعادة استعمالها كل أمكن ذلك، ثم في نهاية المطاف التخلص الصحي والسليم مما تبقى منها.

 

وإضافة إلى تحديث وتطوير البيئة الأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتشريعية، والقضائية التي تصب في الحل المتكامل والشامل لبناء البيئة الاستثمارية الجذابة والمستدامة، فهناك البيئة الطبيعية التي يجب أن لا نغفل عنها ولا نتجاهلها، فهي تعتبر عند الكثير من المستثمرين ورجال الأعمال والمسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من العوامل التي لا تقل أهمية عن العوامل الأخرى في التشجيع والتحفيز على الاستثمار والاستقرار والبقاء فترة طويلة في البلد.

 

والمقصود بالبيئة الطبيعية هي مكونات وعناصر البيئة الحية وغير الحية، والمتمثلة في تحسين نوعية الهواء في البلد ليكون هواءً نقياً صافياً خالياً من الملوثات المرضية القاتلة للصحة، إضافة إلى توفير المياه العذب الفرات الصالحة للشرب ورعاية البيئة البحرية وحماية كائناتها الفطرية لتكون مواقع جذبٍ للمواطنين والمقيمين والمستثمرين، كذلك من الضروري إنشاء مرافق الحياة الفطرية والاهتمام بالمحميات الطبيعية البرية والبحرية وحماية تراثها من نباتات وحيوانات والعمل على تنميتها وتطويرها لتنافس المحميات والمتنزهات الأخرى وتكون فريدة من نوعها. 

 

وخلاصة ما أدعو إليه هو تبني سياسة متكاملة وشاملة، متوازنة ومعتدلة حتى نضمن استدامة تدفق الاستثمار والمستثمرين إلى بلادنا.

 

الخميس، 11 أكتوبر 2018

أمريكا تُعلن بأن السجائر الإلكترونية وباء


لم يأت الإعلان بأن تدخين السجائر الإلكترونية تحول إلى وباء في الولايات المتحدة الأمريكية على لسان عالم أو طبيب أو ناشط في مجال منع التدخين، وإنما جاء على لسان أعلى سلطة حكومية مختصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد من رئيس إدارة الغذاء والدواء، حيث أعلن وبكل وضوح وصراحة لا لبس فيها في 15 سبتمبر بأن "استخدام السجائر الإلكترونية أصبح الآن وباءً بين الشباب والمراهقين"، أي أن استخدامها انتشر بشكلٍ سريع غير متوقع في المجتمع الأمريكي، وأن تعاطيها بلغ نسباً مرتفعة جداً وصلت إلى درجة عالية يمكن أن يُطلق عليها بالوباء.

وفي الوقت نفسه حذر هذا المسؤول الحكومي بشدة الشركات المنتجة والمصنعة لهذه الآفة الجديدة بضرورة تقديم خطةٍ تنفيذية خلال شهرين لإبعاد الشباب عن ممارسة هذه العادة السيئة صحياً وبيئياً، كما هدد بقوة بأنه سيتخذ إجراءات قانونية لمنع النكهات والمذاقات في السجائر الإلكترونية، والتي لها دور مشهود في جذب الشباب وترغيبهم لاستخدام هذه السجائر المهلكة لصحة الشباب والأطفال.

ولا شك بأن هذا النداء من رئيس إدارة الغذاء والدواء لم يأت من فراغ، وإنما جاء استجابة لحالة صحية خانقة، وأزمة متفاقمة تهدد الصحة العامة، وبخاصة بين فئات الأطفال والشباب والمراهقين، حيث إن الإحصاءات الرسمية والمشاهدات اليومية أكدت بأن استخدام هذه البدعة الجديدة المتمثلة في السجائر الإلكترونية بدأ في الانتشار بسرعة فائقة بين مجتمع الشباب في المدارس والجامعات كانتشار النار في الهشيم، فسبب لهم السقوط في فخ الإدمان في تعاطيه وتدخينه، ثم التحول مع الوقت إلى القاتل الأكبر للصحة وهو سجائر التبغ التقليدية المعروفة. فالإحصاءات الرسمية الصادرة عن مراكز التحكم في المرض ومنعه تؤكد بأن عدد طلاب المدارس والجامعات الذين استخدموا السجائر الإلكترونية وصل إلى أكثر من مليونين، كما أكدت الأرقام بأن نسبة المدخنين من الشباب خلال هذا العام ارتفع 75% مقارنة بالعام الفائت.

وجدير بالذكر فإن هذه التقارير الحكومية الرسمية والأبحاث الميدانية تُحذر جميعها وتنبه بشدة من نوعٍ خطير جداً من السجائر الإلكترونية بدأ في الانتشار على نطاقٍ واسع وبشكل خاص بين طلاب المدارس، وهو ما يُطلق عليه جُول(Juul). وخطورة هذا النوع تكمن في أنه صغير الحجم جداً، ويكون على شكل ذاكرة الكمبيوتر المستخدمة حالياً(فلاش ميموري)(USB flash)، والتي يمكن إخفاؤها بسهولة ويُسر في الملابس، أو في الحقائب المدرسية الصغيرة فلا يمكن مشاهدتها أو ملاحظتها، ولذلك فإن هذا النوع بالتحديد يشجع ويحفز طلاب المدارس على استخدامه ، فيخفونه عن المدرسين وأولياء الأمور، كما إن هذا النوع الشيطاني من السجائر الإلكترونية لا تنبعث منه الرائحة العفنة والكريهة القوية والمميزة التي تنطلق من السجائر التقليدية، ولذلك يصعب اكتشافه ومراقبته ومعرفة الذين يستعملونه.

وهنا الآن أرى أمامي بوضوحٍ شديد بأن التاريخ يعيد نفسه، بالمشاهد نفسها، وبالأحداث نفسها، وكأن شيئاً لم يتغير، ولكن الفرق هو أن أحداث اليوم تقع مع السجائر الإلكترونية بكل أنواعها وأحجامها، وبالأمس كانت مع سجائر التبغ التقليدية القاتلة، فما مرَّت بها سجائر التبغ منذ الخمسينيات من القرن المنصرم حتى الآن من أحداث وقضايا وملابسات حتى أن حصحص الحق وانكشفت مساوئ التدخين أمام الجميع، تمر بها الآن السجائر الإلكترونية، ولكن مع الأسف دون أن يتعظ الإنسان من هذا المخزون التاريخي الثري للحوادث، ودون أن يتعلم الإنسان من تجاربه وخبراته المعاصرة الغنية، فيقع هو نفسه في الأخطاء نفسها وفي التجارب ذاتها.

فما نشهده اليوم هو في الواقع يجسد حقيقة أبدية خالدة تؤكد بأن الصراع لا ينتهي بين الخير والشر، وبين الحق والضلال، بين من ينشر العادات الصحية السليمة الصالحة للبشر وبين من يُسوق للمنتجات الضارة بالصحة من أجل الربح السريع والكبير، وهذه الحرب الضروس الأزلية لن تنتهي بين من يدعو لحماية البيئة من الملوثات القاتلة وبين من يطلق العنان لكافة أنواع السموم من الولوج في بيئتنا وأجسامنا ويدًّعي خلوها من الأمراض والأسقام، فكلما تخلص المجتمع البشري من آفة ومنتج شيطاني مدمر لصحتنا جاء شياطين الإنس ليعوضوا خسارة فقدان هذا المنتج من الأسواق بمنتج آخر بديل له صفة الشرعية القانونية الرسمية ويزين ويلبس بأحلى أنواع مواد التجميل والحلي وإغراء الناس بكافة فئاتهم العمرية وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية، كما تجند الشركات المصنعة لهذه المنتجات  كافة الوسائل العلمية من تقنيات ورجال الإعلام والعلماء لإخراج هذا المنتج في أحلى صورة وأجمل مظهر والتأكيد على سلامته وفاعليته.

ولذلك أدعو حكومتنا ممثلة في وزارة الصحة والتجارة والوزارات الأخرى عدم السقوط في الأخطاء السابقة نفسها التي سقطنا فيها بالنسبة للسجائر التقليدية، والعمل على منع السجائر الإلكترونية بجميع أشكالها وأنواعها واجتثاثها كلياً من مجتمعنا قبل أن يقع علينا كما وقع على شباب أمريكا.



الخميس، 4 أكتوبر 2018

الحادثة الغامضة مازالت غامضة


حادثة غامضة، ومرض غريب فريد من نوعه نزل على الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في بعض دول العالم مثل كوبا والصين منذ عام 2014، ومازالت هذه الحادثة تحتاج على تفسيرٍ علمي موضوعي، ومازال هذا المرض بحاجة إلى تشخيصٍ طبي سليم وموثوق يُجمع عليه الأطباء والعلماء المهتمين بدراسته وسبر غوره وكشف خفاياه وأسراره.

فالأعراض التي انكشفت على الدبلوماسيين الأمريكيين تتلخص في الصداع المزمن وآلام في الرأس، والشعور بالتعب والإرهاق وصعوبة النوم، وضعف في التركيز والسمع والبصر، وهذه الأعراض انكشفت عليهم بعد أن تعرضوا لأصوات وضوضاء مرتفعة ويشعروا بوجود أمواج صوتية تضرب أجسامهم.

ومن أجل التعرف عن كثب على هذه الظاهرة الصحية الغامضة، قررت وكالة الاستخبارات القومية إضافة إلى الكونجرس الأمريكي التحقيق في هذه الحالة الغريبة وتشكيل لجنة في مايو 2016 للتحقيق الفوري في ملابسات هذه الحالات، حيث قامت اللجنة بتكليف جامعة بنسلفانيا للتعمق في حالات هؤلاء المرضى الذين بلغ عددهم في تلك الفترة 21 دبلوماسياً أمريكياً، ونَشرتْ الجامعة تقريرها في مارس 2017 في مجلة الجمعية الأمريكية الطبية، وكانت نتيجة التقرير أن الأعراض المرضية التي انكشفت على المرضى تتوافق وتتشابه إلى حدٍ كبير مع أعراض المرضى الذين يعانون من تلفٍ وارتجاج في المخ بسبب صدمة في الرأس، أو السقوط من مكانٍ ما، وقد أشارت الدراسة إلى أن هؤلاء قد تعرضوا لمصدرٍ مجهول للطاقة الشديدة، إذ أن الدراسة لم تتمكن من التعرف على هذا المصدر.

ولكن هذه النظرية لم تُقنع بعض علماء الأعصاب والمخ حيث إنهم كتبوا ردوداً علمية نُشرت في المجلة نفسها، وتفيد بأن هؤلاء الدبلوماسيين قد يكونوا أُصيبوا بحالةٍ يُطلق عليها "المرض النفسي الجماعي"، وهي عبارة عن حالة نفسية تُصيب الذين يعانون من ضغوط وتوترات وشدة في ظروف العمل التي تعمل فيها عادة البعثات الدبلوماسية.

واليوم، وبالتحديد في 30 أغسطس من العام الجاري جاءت نظرية أخرى لتفسير الأعراض المرضية التي نزلت على الدبلوماسيين الأمريكيين، ونُشرت في مجلة الكهرومغناطيسية الحيوية(Bio Electro Magnetics)، حيث أشارت بأن التعرض لأشعة الميكروويف الموجودة في أفران الميكروويف التي نستخدمها لتسخين الطعام وفي الهواتف النقالة قد يُفسر هذه الأعراض المرضية الغريبة التي أُصيب بها الوفد الأمريكي في كوبا والصين، فعندما يتعرض الإنسان لأشعة الميكروويف المركزة والشديدة فإنه سيحس بالضوضاء العالية والأصوات المرتفعة، وينعكس هذا على الأمن الصحي من حيث الشعور بالصداع والإغماء والإرهاق ثم تلف وارتجاج في المخ. كما أن البحث المنشور في أكتوبر من العام الجاري في مجلة الحسابات العصبية (Neural Computation) يُقدم الإثباتات والدلائل العلمية التي تؤشر إلى أن "الهجوم بأشعة الميكروويف" هو السبب وراء مرض الأمريكيين.

فهذه النظرية الأخيرة تُسندها الأبحاث العسكرية السرية التي أجرتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي سابقاً في الستينيات من القرن المنصرم حول إنتاج سلاحٍ جديد له تأثيرات عضوية ونفسية، حيث قام البلدان بإجراء أبحاثٍ ميدانية تجريبية حول إمكانية استخدام "الأشعة الكهرومغناطيسية"، وبالتحديد أشعة الميكروويف غير المرئية كسلاح للتأثير على المخ، وبالتالي التشويش على تصرفات وسلوكيات الإنسان، وأَطلقوا عليه "السلاح النفسي العضوي"، أي السلاح الذي له تأثير ثنائي، فمن جانب له انعكاسات ضارة من الناحية الفسيولوجية العضوية ومن الجانب الآخر له تأثيرات نفسية وسلوكية، وبالتالي تُمكِّن هذا الإنسان الذي صنع هذا السلاح من التحكم في العقل البشري للعدو، وتسييره وتوجيهه كما يشاء.

فأرشيف التاريخ العسكري يفيد بوجود هذا النوع من السلاح الكهرومغناطيسي الذي يَستخدم أشعة الميكروويف، كما أن الوثائق التاريخية تشير إلى أن بعض الدول قد أنتجت بالفعل سراً هذا السلاح وأجرت التجارب الأولية على استعماله ميدانياً.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في قضية المرض الغريب الذي أصاب الدبلوماسيين الأمريكيين في كوبا والصين هو أين هذا السلاح، إنْ كان فعلاً قد تم استخدامه؟ وما اسم الدولة المتهمة باستخدام هذا السلاح الجديد وتنفيذ "الهجوم الكهرومغناطيسي" المزعوم على الأمريكيين؟

ففي تقديري بأن هذه الأسئلة وغير ها الكثير من الشبهات والاستفسارات ستظل تُثار من قبل الناس عامة والمعنيين بالقضية خاصة، وإنني على يقين بأن الوقت والدراسات العلمية الطبية القادمة ستكون كفيلة بكشف أسرار هذا المرض الغامض وإزالة الغمام عن جميع خفاياه.