الاثنين، 28 نوفمبر 2022

هل سيرى صندوق المناخ الجديد النور؟

اجتماع الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي رقم (27) والذي عُقد في شرم الشيخ في الفترة من 7 إلى 18 نوفمبر 2022 لم يأت بجديد لسكان الكرة الأرضية، ولم تتمخض عنه قرارات حازمة وحاسمة تنقذ كوكبنا من الغرق في تداعيات التغير المناخي، فكل القرارات في تقديري كانت تأكيداً على القرارات التي اتخذت في الاجتماعات السابقة، وكلها كرَّرت وجددت مواقف وسياسات دول العالم حول القضايا المتعلقة بمواجهة التغير المناخي ومكافحة تداعياته المشهودة في كل شبرٍ من كوكبنا.

ومن القرارات التي اعتبرها البعض نصراً مؤزراً، واختراقاً جديداً لمواقف المجتمع الدولي حول التغير المناخي، وبالتحديد آلية الدعم المالي للدول النامية والفقيرة التي تعاني من تداعيات المناخ، هو الموافقة على إنشاء صندوق تحت مسمى "الخسائر والأضرار"( loss and damage).

وفي الحقيقة فإن فكرة تأسيس صندوق لمساعدة الدول المتضررة من تداعيات التغير المناخي ليست جديدة، وليست وليدة في شرم الشيخ، وإنما هي مقترح قديم تم تقديمه في عام 1992، ثم تم التفاوض حوله فعلياً منذ عام 2009 في الاجتماع رقم (15) في مدينة كوبنهاجن الدنماركية، وطُرح في هذا الاجتماع للتشاور والتفاوض حوله والخروج بنظرةٍ وتصور مشترك يوافق عليه الجميع، ولكن الفرق أنه جاء قبل أكثر من ثلاثين عاماً تحت مسمى وهدف مختلفين قليلاً وهو صندوق المناخ الأخضر(Green Climate Fund (GCF)).

وقد هدف هذا الصندوق إلى مساعدة الدول النامية المستضعفة التي ليست لها القدرة والإمكانات المالية والموارد الحيوية الرئيسة للوقوف أمام تداعيات التغير المناخي، حيث وافق المجتمعون على أن يكون الدعم في مجالين، الأول هو مساعدة الدول النامية على التكيف(adaptation) مع تداعيات الكوارث المناخية العصيبة، كموجات الحر، وارتفاع مستوى سطح البحر والفيضانات الناجمة عنه، والثاني هو دعم جهود التخفيف والتقليل من حدتها(mitigation). كما وافقت الدول الثرية والصناعية المتقدمة على تخصيص مبلغ 100 مليار دولار سنوياً بحلول 2020 كمساهمة مالية لهذا الصندوق.

وهذا الصندوق قبل أن يُعترف به رسمياً من المجتمع الدولي، ثم يُفعَّل ويدخل حيز التنفيذ مرَّ بعدة مراحل عقيمة، منها مرحلة الهيكلة والتدشين، حيث سُلطت عليه الأضواء في الاجتماع رقم(16) في 2010 في مدينة كنكون في المكسيك، ثم مرحلة تحديد الجهاز الإداري واختيار كوريا الجنوبية كمقر رئيس للصندوق، والذي تمت الموافقة عليه في الاجتماع رقم(17) في مدينة ديربن بدولة جنوب أفريقيا في 2011.

ولكن هذا الصندوق يؤكد لي حقيقة مهمة جداً هي أن تعهدات والتزامات الدول في الاجتماعات الأممية التي تخضع لمراقبة العالم، من وسائل إعلامية ومنظمات أهلية، تكون مظهرية وسطحية، أي تكون بمثابة علاقات عامة وإظهار الدولة بالمظهر اللائق والمسؤول أمام الشعوب، ثم في الواقع لا تفي الكثير من الدول بهذه التعهدات التي قطعت على نفسها. فمبلغ المائة مليار دولار سنوياً لصندوق المناخ الأخضر كمساهمة من الدول الصناعية الكبرى المسؤولة تاريخياً عن وقوع التغير المناخي كانت فقط على الورق وأمام عدسات ووسائل الإعلام، حيث أفادت تقارير أممية بأن المبلغ الذي وصل إلى الدول النامية المتضررة من الكوارث المناخية تراوح بين 3 إلى 4 مليارات دولار فقط، وبعضها على شكل قروض مرهقة، أي أنها أخرجت الدول النامية من متاهة معالجة تداعيات المناخ إلى متاهة القروض والأعباء المالية والديون التي أثقلت كاهلها وقصمت ظهرها.

فكما أن هذا الصندوق المناخي الأخضر القديم أخذ سنوات طويلة ليرى النور، ثم سنوات طويلة أخرى لجمع المال من الدول الصناعية المساهمة في الصندوق، ثم سنوات عجاف أخرى لإنفاق وصرف جزءٍ بسيطٍ من هذا المال الذي تعهدت بدفعه الدول الغنية للدول الفقيرة، فإن الصندوق الجديد سيمر حتماً بهذه المراحل الشاقة الماراثونية، فالدول المعنية بالمساهمة والدفع ليست بعجلة من أمرها، وقد يموت موتاً مبكراً كما وقع لصندوق المناخ الأخضر.

فصندوق "الخسائر والأضرار" الذي تمت الموافقة عليه في اجتماع شرم الشيخ سيخضع لمرحلة دقيقة من التعريف والإعداد والتفاوض، حيث شُكلت لجنة للقيام بهذه المهمة وتقديم تقرير للمناقشة في الاجتماع رقم (28) في دولة الإمارات في نوفمبر 2023، وعلى اللجنة من أجل إعداد التقرير محاولة الإجابة عن أسئلة كثيرة صعبة ومعقدة وخلافية، منها على سبيل المثال:

أولاً: ما هو تعريف وتفسير صندوق "الخسائر والأضرار"، وماذا تعني كلمة "الخسائر"، وكلمة "الأضرار"؟

ثانياً: ما هو حجم الصندوق، أي كم المبلغ المطلوب لتشغيل الصندوق، وأين سيكون مقر الصندوق؟

ثالثاً: من هي الدول التي ستساهم في الصندوق، ومن الذي يحدد أسماء هذه الدول؟ وهل سيكون الدفع إلزامياً أو طوعياً؟ وهل ستتبنى الدول مبدأ "الملوث يدفع"، أي أن الدول التي تلوث الهواء بغازات الاحتباس الحراري هي التي ستدفع المال للصندوق.

رابعاً: ما هي الدول التي تستحق الدعم من الصندوق وما هي الدول التي تستفيد مباشرة من الصندوق؟

خامساً: ما هو نوع الدعم؟ هل هو صدقة ومساعدة إنسانية وإعانة مالية مباشرة للأضرار البشرية والمادية الناجمة عن الكوارث المناخية التي لها علاقة بالتغير المناخي أم أنها قروضاً وديوناً تدفع لاحقاً؟ أم أن إنفاق الدول المعنية سيكون على صورة التأمين على البنية التحتية والمرافق التي قد تتضرر من التغير المناخي في الدول الفقيرة، والذي يُطلق عليه "الدرع الدولي"(Global Shield

سادساً: هل سيكون الدعم للأضرار والخسائر الناجمة عن تداعيات التغير المناخي والكوارث المناخية بعد وقوعها؟ أم أن الدعم سيوجه نحو مشاريع مستقبلية تقع في باب مواجهة التغير المناخي وخفض الانبعاثات؟   

فهذا الصندوق حتماً سيواجه تحديات عقيمة، وفي تقديري أن الدول الصناعية الغنية التي من المفروض أن يقع عليها عبء ملء الصندوق ستحاول الهرب من الدفع والمماطلة في الموافقة عليه كما فعلت في الماضي، كما أنها ستعمل من جانب آخر على إجبار دول الخليج خاصة، والصين والضغط عليهم بكل الوسائل لتحمل جزءٍ من المساهمة في الصندوق، فنحن والصين في نظر الغرب نتحمل اليوم مسؤولية ارتفاع سخونة الأرض لأن المواطن الخليجي يُعد من أكثر مواطني العالم انبعاثاً للملوثات المناخية!!

السبت، 26 نوفمبر 2022

انقراض بقر البحر، وماذا يعنيه لنا؟

حيوان بحري كبير وضخم الحجم والمنظر، ومخيف الهيئة والشكل لطوله الذي يزيد عن الثلاثة أمتار، ووزنه الثقيل الذي يتجاوز الـ 550 كيلوجراماً، ولكنه في الوقت نفسه وديع وأليف، ولا يؤذي أحداً، بل هو مُسالم جداً فلا يفترس ولا يأكل أي كائن حي آخر، وإنما يعيش على النباتات البحرية، وبخاصة الحشائش التي تنمو في السواحل الضحلة. كما أن هذا الكائن الحي الوديع والطيب تحول إلى رمزٍ للسكينة، والسلم، والألفة، والمحبة في الكثير من كتب الروايات والقصص والأساطير والخيال العلمي، وبالتحديد تلك الروايات حول عرائس البحر.

 

 هذا الحيوان الذي يُعتبر من أحد أنواع الثدييات البحرية هو أحد فصائل الأطوم، أو خروف البحر، ونُطلق عيه في البحرين ببقر البحر، أو الدو جونج(dugong)، حيث يعيش معنا وبجوارنا منذ آلاف السنين بأعداد كبيرة نسبياً مقارنة بما هو موجود الآن في بحار العالم، فهو يقضي حياته تحت ظلالنا فيتكاثر ويُكون أسراً جديدة من بقر البحر، ويتواجد بالتحديد في السواحل الضحلة من مياه البحرين في جزر حوار وفي خليج سلوى، ولذلك نعدُّه في بلادنا من التراث الطبيعي الفطري الذي نتمتع به، ونعتبره كنزاً حيوياً وتراثياً ثرياً يجب حمايته والحافظ عليه. فرعاية هذا الحيوان والاهتمام به وحمايته من كل العوامل التي تؤثر على سلامته يعتبر مؤشراً عملياً على حماية البحرين للحياة الفطرية، ودليل واقعي على اهتمامنا بتعزيز التنوع الحيوي البحري والحفاظ عليه كتراث لنا وللأجيال القادمة من بعدنا، بل وإن هذا الحيوان بصفةٍ خاصة يُعد تراثاً طبيعياً حيوياً للعالم أجمع وله قيمة عالية ومميزة على المستوى الدولي، وذلك بسبب نُدرة وجوده، وانخفاض أعداده حول العالم، وتصنيفه على المستوى الدولي كحيوان بحري نادر ومهدد بالانقراض، أو يوشك على الانقراض.

 

ولكن هذا الحيوان الوديع، كغيره من الحيوانات البحرية أو البرية يعاني منذ سنوات من ضغوطٍ شديدة، وممارسات جائرة، وبرامج تنموية معوقة أحادية الجانب تعدَّتْ على حرمات بيئته البحرية الساحلية، وأضرت كثيراً بالمورد الوحيد لغذائه اليومي، ودمرت كمياً ونوعياً مصدر هذا الغذاء الذي لا حياة لهذا الحيوان بدونه.

 

وكل هذه الممارسات المستمرة في كل دول العالم منذ عقود على بيئة هذا الحيوان وعلى جسده، أضعفت قوته وحيوته، فانهار صريعاً ميتاً حتى اختفى كلياً من بعض المناطق البحرية، وتم تصنيفه ضمن الأموات والكائنات الحية المنقرضة من بحارنا ومن على سطح كوكبنا.

 

وهذا ليس سيناريو نظري أتحدث عنه، وليست توقعات مستقبلية مني شخصياً حول مصير هذا الحيوان، أو غيره، والذي يتعرض لكل هذه الضغوط الشديدة والمستمرة من أنشطة البشر التنموية، ولكنه في الواقع هذا حدثٌ ميداني رأيناه ينزل في الصين، ونُشرت حوله الدراسات العلمية الميدانية التي أثبت اختفاء بقر البحر إلى الأبد، وأكدت على انقراضه كلياً في الصين.

 

فق تم الإعلان رسمياً بأن بقر البحر قد انقرض وظيفياً في الصين، أي اختفى من المشهد البحري ومن أعين الناس، أو أنه وإنْ وُجد بأعدادٍ منخفضة جداً فليس له دور وأهمية في النظام البيئي في تلك المنطقة البحرية، فقد جاء في الإعلان الصريح بأن بقر البحر الموجود منذ مئات السنين في بحر الصين لم يشاهده أحد منذ عام 2008، حيث تم نشر هذا الاعتراف الرسمي بانقراضه في مجلة بريطانية تابعة للجمعية الملكية لعلم الحيوان(Royal Society of Open Science) في 24 أغسطس 2022، تحت عنوان: "الانقراض الوظيفي لبقر البحر في الصين".

 

فقد أكدت الدراسة بأن أعداد بقر البحر بدأت واقعياً في الانحدار الشديد والانخفاض المستمر منذ عام 1975 مع دخول الصين والشروع في الأعمال التنموية الشاملة في كافة القطاعات، مما اضطر السلطات الصينية في عام 1988 إلى تصنيف بقر البحر بأن حيوان "محمي من الدرجة الأولى على المستوى القومي"، أي أعلى مستوى للحماية والرعاية. ولكن، كما هو الحال بالنسبة لجميع دول العالم بدون استثناء، فإن مثل هذه التشريعات البيئية الفطرية لا تُفعَّل، ولا تصمد أمام التنمية الاقتصادية والربح السريع والكبير، فالأولوية دائماً للنمو الاقتصادي وليس النمو البيئي، والأولوية دائماً لجمع المال وليس لحماية الثروات البيئية الفطرية.

 

وقد عزت الدراسة أسباب انقراض بقر البحر إلى عدة عوامل مرتبطة مباشرة ببرامج التنمية في كل القطاعات. فهناك أولاً القطاع السمكي المتمثل في الصيد الجائر للثروة السمكية بشكلٍ عام، إضافة إلى تعرقل هذا الحيوان في شباك الصيد واختناقه وموته، أو تناول المخلفات البلاستيكية صغيرة الحجم بالخطأ. وثانياً هناك الأنشطة التعميرية الساحلية وبناء مرافق في الساحل، والتي تتطلب عمليات حفر مواقع بحرية ودفن السواحل الضحلة، وبعضها قد تكون بيئات للأعشاب والطحالب التي يتغذى عليهما بقر البحر، مما يتسبب في مجاعة جماعية لهذه الكائنات العشبية وغيرها من الأسماك التي تعيش في تلك البيئات. أما السبب الثالث فهو حوادث اصطدام السفن ببقر البحر والقضاء عليه فوراً، ورابعاً هو تلوث البحر من مصادر متعددة منها صرف مياه المجاري ومياه الصرف الزراعي، إضافة إلى مياه المصانع، فكل هذه المصادر مجتمعة تعمل بشكلٍ تراكمي ومجموعي ومع الزمن على التدهور النوعي والكمي لبيئات بقر البحر، وتؤدي إلى انخفاض أعدادها وفساد استمرارية حياتها نوعياً وكمياً، ثم انقراضها إذا استمرت هذه المصادر في تدمير البيئة البحرية.

 

فهذا الموضوع الذي أتحدث عنه في هذا المقال ليس فقط حول حيوان بحري يعاني من عبث الإنسان ببيئته وتعديه على حرمات وسيادة غيره من الكائنات، وإنما هو مثال فاضح من بين أمثلة ووقائع كثيرة نشهدها منذ بدء الإنسان بالثورة الصناعية، ومنذ الشروع في أنشطته التنموية غير المستدامة وغير الرشيدة، التي جعلت الهدف الرئيس والوحيد هو النمو الاقتصادي فقط وعلى حساب كل شيء من صحة الإنسان وسلامة مكونات وثروات البيئة الحية وغير الحية.

 

فانقراض هذا الحيوان في الصين مؤشر ودليل ميداني وحيوي على ما ارتكبته أيدينا من تدميرٍ ممنهج لجودة بيئتنا من الناحيتين النوعية والكمية، ودليل على أن برامجنا التنموية غير مستدامة وتفسد البيئة والكائنات التي تعيش عليها، بما في ذلك الأمن الصحي للإنسان.

 

وانقراض هذا الحيوان من المفروض أن يكون درساً قاسياً لا ننساه أبداً، ونتعلم منه بأن لا نسمح للكائنات الحية الأخرى أن تلقى مصير بقر البحر، وأن نغير من أسلوب ونمط تنميتنا بحيث أن تكون تنمية تُعمر ولا تفسد، وتبني ولا تهدم، فتكون تنمية مستدامة تورث الأجيال موارد بيئية نظيفة، وسليمة، ومنتجة، نتمتع بها في هذا الجيل والأجيال اللاحقة.

 

الثلاثاء، 22 نوفمبر 2022

تداعيات التغير المناخي أسرع من قرارات الإنسان

تداعيات التغير المناخي الكثيرة والمتنوعة على الأرض لا تنتظر قرارات الدول ومواقفها، وانعكاسات سخونة الأرض وارتفاع حرارتها لا تتوقف ولا تتأجل لكي تأخذ الدول مواقف إيجابية في كل سنة يجتمعون فيها، وإنما هذه الانعكاسات ماضية في طريقها، وتسير بخطى سريعة جداً منذ أكثر من قرنين، ومنذ أن بدأ الإنسان باستخدام أنواع الوقود الأحفوري في تحريك قطار التنمية نحو الأمام، وبخاصة في الدول الصناعية المتقدمة.

 

فالمجتمع الدولي ممثلاً في اجتماعات الأمم المتحدة السنوية للدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي منذ الاجتماع الأول في برلين عام 1995، عادة ما تكون آلية اتخاذ القرارات معقدة، ومتداخلة، وبطيئة جداً، فالقرارات في مثل هذه الاجتماعات الأممية حول المناخ تؤخذ بالإجماع والتوافق العام على أية قضية تطرح للنقاش والتفاوض حولها، وهناك صعوبة جداً، بل واستحالة في بعض القضايا أن تكون كل دول العالم على قلب رجلٍ واحد، فتوافق جميعها على قرار جماعي مشترك. فالدول والحكومات تختلف في مصالحها الشخصية والحزبية، ولكل دولة خصوصياتها وهمومها ومشاكلها التي قد تختلف جذرياً عن الدول الأخرى، ولكل دولة أولوياتها التي لا تتفق مع أولويات دول أخرى، ولذلك ففي الكثير من الحالات لكي تحصل على الاجماع والتوافق تكون القرارات ضعيفة، ومائعة، ولا تحقق الهدف منها، ولا تصب في مصلحة إيقاف مد تداعيات التغير المناخي منذ قيام الثورة الصناعية.

 

ففي كل اجتماع تأتي الوفود من معظم دول العالم الموقعة على معاهدات وتفاهمات التغير المناخي وتمضي نحو أسبوعين في المناقشات والمفاوضات حول البنود المتعلقة بالتغير المناخي، سواء أكانت بنوداً بيئية بحتة، أو سياسية متعلقة بأمن الطاقة، أو اقتصادية ومالية، وقد تصل بعد هذه المفاوضات إلى توافق حول بعض البنود وتقوم بالتوقيع عليها، ثم تذهب الوفود إلى بلادها فتنسى ما توافقت عليها مع الدول الأخرى وتنشغل بهمومها ومشاكلها الداخلية، وفي بعض الحالات مع تغير الحكومات تقوم بنقض كلما وقَّعت عليها، بل والانسحاب كلياً من المعاهدة، كما حدث في عدة دول منها الولايات المتحدة الأمريكية أثناء انتقال الحكم من الديمقراطي كلينتون إلى الجمهوري جورج بوش الابن، ثم تكررت هذه الحالة مرة ثانية، عندما جلس في البيت الأبيض الجمهوري ترمب خلفاً للديمقراطي أوباما.

 

وبعد ذلك يأتي الاجتماع الآخر للتغير المناخي، فتتكرر المشاهد السابقة نفسها، فتعيد الدول الكرَّة مرة ثانية، فاجتماع، ثم مناقشات، ثم تفاوض، ثم التوقيع، وأخيراً لكي تكتمل الدائرة المفرغة يأتي الانسحاب ونقض ما تم التوقيع عليه، وهكذا نحن على هذا الحال منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

 

وأثنا غرقنا في بحر المفاوضات العبثية والعقيمة، لم تتوقف يوماً ما انبعاثات الدول حول العالم من الغازات المسؤولة عن إصابة كوكبنا بالحمى المزمنة وارتفاع حرارتها يوماً بعد يوم، فأكثر من مائتي عام ونحن نسمح بغاز ثاني أكسيد الكربون من الانطلاق من محطات توليد الكهرباء ومن السيارات والطائرات والمصانع، ومنذ ذلك الوقت ونحن نُطلق أيضاً غاز الميثان وغازات الاحتباس الحراري الأخرى، ومع هذه الانبعاثات المستمرة تفاقمت ظاهرة التغير المناخي، وارتفعت وتسارعت وتيرة تأثيراتها على نطاق جغرافي أوسع وأشد، وانكشفت في كل سنة تداعيات وانعكاسات جديدة لم تكن في الحسبان، ولم تخطر على بال أحد، كالجانب الصحي، والأمني، والظواهر المناخية المتطرفة من الأمواج الحرارية الشديدة، والفيضانات المدمرة للسواحل والمرافق الساحلية، وحرائق الغابات، فقراراتنا وممارساتنا أصبحت لا تواكب سرعة وقع هذه التداعيات علينا وعلى كوكبنا، واجتماعاتنا غير المجدية لا تتوافق ولا تتناسب مع حجم هذه التداعيات.

 

وقد وثَّقت الكثير من التقارير والدراسات الميدانية سرعة انتشار وتعاظم تداعيات التغير المناخي في كل شبر من الأرض. فعلى سبيل المثال، نُشر تقرير للأمم المتحدة الصادر من "المنظمة العالمية للأرصاد الجوية"(World Meteorological Organization) في السادس من نوفمبر 2022 حول حالة المناخ حتى نهاية سبتمبر عام 2022 تحت عنوان: "التقرير الأولي حول حالة المناخ الدولي"(Provisional State of the Global Climate). وقد تم نشر هذا التقرير الأممي تزامناً مع افتتاح الاجتماع رقم (27) للدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي في شرم الشيخ.

 

وهذا التقرير الجامع يشير إلى أن الكرة الأرضية تمر الآن بمرحلة الخطر والتهديد الشديدين، فهي الآن تقع تحت وطأة الأزمة المناخية وانعكاساتها التي شملت جميع دول العالم.

 

فانبعاثات غازات الدفيئة المسؤولة عن التغير المناخي، والمتمثلة في غاز ثاني أكسيد الكربون في ازدياد مطرد، حيث نَشر "مشروع الكربون الدولي"(Global Carbon Project) تقريراً في 11 نوفمبر 2022 تحت عنوان: "الميزانية العالمية للكربون"(Global Carbon Budget)، وقدَّر التقرير بأن الانبعاثات عام 2022 ستكون قرابة 36.6 بليون طن وهو أعلى من عام 2021 بنسبة 1%. وهذه الانبعاثات المتعاظمة تنعكس على تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي والذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وحطم الأرقام القاسية السابقة، حيث وصل إلى أكثر من 419 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء، مقارنة بتركيزه في السنوات ما قبل الثورة الصناعية، والذي يقدر بنحو 280 جزءاً في المليون. وهذه الانبعاثات والتركيز المرتفع لثاني أكسيد الكربون هي التي زادت من سخونة كوكبنا ورفعت من حرارته سنة بعد سنة. ويشير التقرير من المنظمة العالمية للأرصاد الجوية والتقرير والتقييم السادس حول التغير المناخي والصادر من الهيئة شبه الحكومية المعنية بالتغير المناخي بأن معدل ارتفاع درجة حرارة الأرض في العشر سنوات من 2013 إلى 2022 يقدر بنحو 1.14، وهو أعلى مقارنة بدرجة 1.09 للفترة من 2011 إلى 2020. كما تشير التقديرات بأنه مع عدم خفض انبعاثات الدول للغازات المسببة للتغير المناخي فإن معدل الارتفاع في سخونة الأرض قد يصل إلى 2.1 درجة مئوية، علماً بأن الهدف الأعلى الذي حدده الإنسان في اجتماعات التغير المناخي هو تجنب رفع معدل الحرارة أعلى من 1.5 درجة مئوية، وهذا سيكون صعب المنال حسب الوضع الحالي لانبعاثات الدول، بل وفي تقديري فإن سقف معدل حرارة كوكبنا سيكون أعلى من هذا الرقم.

 

وما حدث من ارتفاع تاريخي في درجة حرارة الأرض ينطبق على تداعيات أخرى تمخضت عن سخونة الأرض، منها الارتفاع غير المسبوق في درجة حرارة المسطحات المائية، وفي نسبة حموضتها، وارتفاع مستوى سطح هذه المسطحات، وزيادة انصهار الجليد، إضافة إلى الموجات الحرارية، وازدياد تكرار وتوسع دائرة حرائق الغابات، والفيضانات والأعاصير التي تدمر السواحل والمرافق الساحلية.

 

ويؤيد نتائج هذا التقرير الأممي ما نُشر في الولايات المتحدة الأمريكية في السابع من نوفمبر من 13 وكالة حكومية متخصصة ضمن "البرنامج البحثي للتغيرات الدولية (US Global Change Research Program)، تحت عنوان: "التقييم الوطني الخامس للمناخ"( Fifth National Climate Assessment)، حيث يؤكد تهديدات تداعيات التغير المناخي على الأسرة الأمريكية وحياتهم اليومية.

 

فكل هذه التقارير تؤكد على حقيقة واحدة أن تداعيات التغير المناخي أسرع بكثير من قرارات ومواقف الإنسان، وآخرها "قرارات" الاجتماع رقم (27) الذي عُقد في شرم الشيخ، فجميع القرارات التي اتخذها الاجتماع ما هي إلا التكرار والتأكيد على القرارات السابقة القديمة، أي أن الاجتماع لم يأت بأي قرارٍ أو موقف دولي جديد يخفف ويبطئ من سرعة وقوع تداعيات التغير المناخي، فما يقوم به الإنسان من خفض للانبعاثات المعنية بالتغير المناخي لا تلاحق ولا تواكب الزيادة المطردة منذ قرنين لسخونة الأرض وما تفرزه هذه الظاهرة على مكونات البيئة وصحة الإنسان وسلامة كوكبنا، فنحن اليوم في سباق وجودي ومصيري بين ممارساتنا وتحركاتنا لمكافحة التغير المناخي وسرعة وقوع تداعياته على الأرض، والمؤشرات تفيد بأننا نخسر السباق حتى الآن، فما زلنا بعيدين جداً عن خط النهاية.

 

 

 

الخميس، 17 نوفمبر 2022

قضية القرن الصحية


التاريخ يعيد نفسه، والمشهد التاريخي القديم يتجدد ويستمر، فما يحدث اليوم للمخدرات، وبالتحديد بالنسبة لقضية انتشار وباء الأفيون في المجتمع الأمريكي، قد وقع بالفعل قبل زهاء 25 عاماً، ولكن دارت مشاهد القضية وأحداثها حول تدخين السجائر التقليدية، والأضرار الصحية الفردية والمجتمعية التي نجمت عن تعاطيها للمدخن نفسه ولغير المدخنين.

فقد توصلت الجهات المتنازعة قضائياً إلى تسوية تاريخية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً بين شركات التبغ والسجائر الأمريكية الكبرى مثل موريس، ورينولد، ولورلارد، وبروان أند ويليامسون من جهة، والنيابة العامة في حكومة 46 ولاية من الولايات الأمريكية والشعب الأمريكي والجمعيات والمنظمات الأهلية من جهة أخرى.

فبعد محاكمات ماراثونية عصيبة استغرقت عقوداً طويلة من الزمن، وبعد مخاضٍ شديد، ومعارك ضارية شرسة، جاءت الولادة العسيرة، وأعلنت شركات التبغ هزيمتها أمام الأدلة الدامغة الصحية الموثوقة التي قدَّمتها النيابة العامة، ورضخت أمام توثيق الأمراض المستعصية التي أفرزتها السجائر على الملايين من الناس في كل أنحاء العالم منذ أكثر من قرن من التدخين، حيث اضطرت شركات التبغ رغم أنفها مجبرة على تسوية واتفاقية مشتركة في 23 نوفمبر 1998 تحت مسمى: "اتفاقية تسوية التبغ"( Tobacco Master Settlement Agreement)، وقامت بدفع مبلغ قياسي لا مثيل له في تاريخ البشرية وصل إلى 246 بليون دولار. كما جاء من ضمن بنود الاتفاقية أن تقوم شركات التبغ العملاقة بوضع إعلانات في وسائل الإعلام لفترة طويلة من الزمن تؤكد فيها بأن السجائر مضرة للإنسان، وتصيبه بعدة أنواع من السرطان، في مقدمتها سرطان الرئة، وتؤدي به إلى الهلاك الحتمي والدخول إلى القبر في سنٍ مبكرة.

واليوم نقف أمام مشهدٍ لا يختلف عن مشهد شركات التبغ والسجائر قبل قرابة ربع قرن، ولكن هذه المرة مع شركات الموت والقتل الجماعي التي أنتجت في مصانعها، ووزعت، وسوقت، ونشرت الوباء إلى كل شبرٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، بل وإلى الكثير من دول العالم، فدخلت منتجاتها السامة المسببة للإدمان إلى كل أسرة أمريكية، غنية كانت أم فقيرة، متعلمة ومثقفة كانت أم جاهلة ومتأخرة.

فقد أنتجت هذه الشركات التي لا ترقب في أحدٍ إلا ولا ذمة حبوباً تحت مسمى الحبوب المهدئة والمسكنة والمزيلة للألم، ولكن هذه الحبوب التي ظاهرها الرحمة والعلاج والسكينة، كان باطنها الإدمان والعذاب والموت المفاجئ والسريع.

فهذه الشركات زرعت وغرست بذرة خبيثة في المجتمع الأمريكي وبين الشعب في كل قرى ومدن أمريكا، وخططت بشكلٍ ممنهج ودقيق ومحسوب على أن تروي هذه البذرة فتصل هذه الحبوب من الأفيون خاصة والهيروين عامة إلى كل صغير وكبير، وجنَّدت بذلك كل قوى الشر والمرتزقة للقيام بهذه العملية، وأسست شبكة شيطانية على المستوى الاتحادي للقيام بهذه المهمة، وتكونت هذه الشبكة المعقدة من الشركات الصغيرة، والصيدليات، والعيادات الصحية، والأطباء والممرضين، إضافة إلى شركات الدعاية والإعلام لتلميع صورة هذه الحبوب، وإظهارها بمظهر علاجي بريء لا يسبب إدمان الشعب عليها ولا توجد لها أية آثارٍ جانبية مزمنة.

وبالفعل فإن هذه البذرة الخبيثة على مدى أكثر من أربعين عاماً نمت، وترعرعت، وتحولت إلى شجرة عظيمة لها فروع كبيرة في كل مكان، وأعطت ثمراً كثيراً، وقدمت خيراً وفيراً عمَّ هذه الشركات الكبرى، وانعكس مالياً أيضاً على كل المشتركين في شبكة الشر والدمار للبشرية.

ولكن مع الوقت اتضحت الصورة الحقيقة للشعب الأمريكي، وانكشفت أسرار وخداع وغش هذه الشركات، وخاصة بعد أن قضت هذه الحبوب المخدرة والمدمنة على قرابة نصف مليون أمريكي في الفترة من 1999 إلى 2020، إضافة إلى نحو مائة ألف وفاة في عام 2021 فقط، حسب الإحصاءات القومية لمركز الصحة الأمريكي. ونظراً لهول الوباء على الشعب الأمريكي، وغزوه لكل عائلة أمريكية، فقد أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في 26 أكتوبر 2017 أزمة الأفيون وإدمان الشعب الأمريكي على المخدرات كحالة طوارئ صحية عامة.

ومع الوقت كذلك تراكمت الدعاوى القضائية المرفوعة ضد هذه الشبكة الفاسدة والمدمرة للصحة، حتى بلغت أكثر من أربعة آلاف قضية، وتم جر أصحاب هذه الشركات إلى المحاكم الأمريكية لسنوات طويلة. فبعد أن حصحص الحق، وانكشف المستور، وافتضح أمر هذه الشبكة السرية وأزيل الستار عنها أمام الجميع، رفعت هذه الشركات العلم الأبيض واحدة تلو الأخرى، واستسلمت للأمر الواقع والخبر البين.

وبدأت هذه الشركات بالسقوط في الهاوية وبالرضوخ ذليلة أمام هذه الإدانات القضائية لدورها في اشعال فتيل وباء المخدرات والعمل بلعب دور الوقود الذي جعل الفتيل يستمر في الاشتعال عدة عقود، ومنذ بداية هذا العام، ركضت كل شركة منها لتسوية أمرها، ودَفْع مبالغ طائلة للشعب الأمريكي. فعلى سبيل المثال، وافقت شركتان تُعدان من أكبر منتجي وموزعي الأدوية وهما(Walgreens Boots Alliance)( CVS Health)في الثاني من نوفمبر 2022 على تسوية أولية بمبلغ عشرة بلايين دولار لكافة المتضررين من جميع المستويات، سواء أكانت حكومية أو قبائل الهنود الحمر من السكان الأصليين الذين عانوا بشدة من الإدمان وكثرة الوفيات، علماً بأن التسوية النهائية قد تصل إلى خمسين بليون دولار. كما وافقت شركة بورود فارما العائلية(Purdue Pharma) التي تنتج حبوب الأفيون المخدرة والمدمنة "أوكسي كونتين(OxyContin) في مارس 2022 على تسوية بمبلغ ستة بلايين، وشركة جونسون أند جونسون بمبلغ وقدره خمسة بلايين دولار. كذلك وصلت شركة(Teva Pharmaceutical Industries) في يوليو 2022 إلى تسوية آلاف القضايا المرفوعة ضدها على المستوى الاتحادي بمبلغ 4.35 بليون دولار، إضافة إلى ثلاث شركات أخرى بمبلغ 21 بليون دولار، علاوة على شركة وال مارت(Walmart)التي بلغت التسوية الأولية 3.1 بليون دولار، والبقية قادمة، وقائمة الشركات التي تسقط يوماً بعد يوم تطول، وليس هنا المجال لذكرها.

فجميع عناصر هذه الشبكة المهلكة للبشر ستدفع مبلغاً باهظاً وحسب تقديري، لا يقل عن 150 بليون دولار كتسوية للقضايا المرفوعة ضدها، كما حدث من قبل بالنسبة لشركات التبغ والسجائر القاتلة قبل نحو ثلاثة عقود.

 

السبت، 12 نوفمبر 2022

هل البيئة كائن حي؟

لا عجب، ولا غرابة عندما أدَّعي بأن البيئة تنطق، ولكن نُطقها ليس كنطق البشر، ومكونات البيئة تحس وتتألم وتتفاعل معنا، ولكن ليس بالأسلوب الذي نراه ونشاهده بين بني آدم، والبيئة تصرخ ولكن صراخها ليس كصراخ الإنسان، والبيئة تحس وتعاني ولكن تظهر بطريقة تختلف عن إحساس ومعاناة البشر.

 

فالبيئة تشتكي، وترفع صوتها، وتكشف عن ألمها عندما يُفسد الإنسان في جسدها الحي فيصرف فيه السموم والملوثات الخطرة يوماً بعد يوم دون توقف، والبيئة تصرخ من شدة الألم الذي يصيبها كلما زاد وتفاقم تعدي الإنسان على حرمات أعضائها ومكوناتها من ماءٍ، وهواء، وتربة، فصراخها يعلو ويرتفع ويتوسع جغرافياً على قدر وحجم هذا التعدي، ففي بعض الحالات يكون الصراخ والألم وتظهر المعاناة في منطقة جغرافية ضيقة لا تتعدى حدود الدولة الواحدة، وفي حالات أخرى عندما يكون العبث في جسد البيئة برمتها وعلى مستوى كل دول العالم أجمع، فعندئذٍ قد ينتشر ويشتد صراخها ومعاناتها في كل أرجاء المعمورة، فيسمعه ويراه كل الناس في كل مكان، أينما كانوا على وجه الأرض.

 

فصراخ البيئة وأصواتها بسبب معاناتها وألمها من انتهاك الإنسان لحرماتها والتعدي على حقوقها يمكن للبشر سماعها وتحسسها عن كثب على هيئة مظاهر وصور حية تنكشف في أحد مكونات وعناصر البيئة، فقد تكون هذه المظاهر في السماء الدنيا فوق رؤوسنا مباشرة، أو في الفضاء والسماء العليا، أو في المسطحات المائية العذبة والمالحة، أو تكون على شكل أعراضٍ مرضية واضحة تتمثل في سخونتها وارتفاع حاراتها، كما يحدث بالضبط بالنسبة للإنسان عندما يُصاب بالمرض فتنكشف عليه الأعراض، مثل ارتفاع حرارة جسمه، أو ارتفاع ضغط دمه.  

 

فعلى سبيل المثال، عندما أَطْلقَ الإنسان العنان لملوثات الفلورو كلورو كربون، أو المعروفة بمركبات الـ "سي إف سي" أو الفريون إلى الهواء الجوي سنواتٍ طويلة وفي جميع قرى، ومدن العالم الغنية منها والفقيرة، المتقدمة منها والمتأخرة، انتقلت هذه الملوثات رويداً رويداً، وفي كل ساعة من كل يوم، حتى بلغت عشرات الكيلومترات فوق سطح الأرض، وفي طبقة محددة من طبقة الاستراتسفير في الغلاف الجوي يُطلق عليها طبقة الأوزون. وهناك أخذت هذه الملوثات تلعب دوراً خبيثاً ومدمراً لغاز الأوزون في طبقة الأوزون، حيث قامت هذه الملوثات التي أطلقناها بأيدينا في البيئة بتحليل غاز الأوزون وإفساد وظيفته التي خُلق من أجلها ووضع في ذلك الموقع المحدد في أعالي السماء. وعندها نطقت البيئة، وعندها فقط صرخت من عظم الألم الذي نزل عليها، فحدث ما يعرف بالثقب في طبقة الأوزون الذي رآه العلماء في جميع أنحاء العالم من خلال انخفاض تركيز الأوزون في تلك الطبقة، كما شاهد الجميع معاناة البيئة وسمع أصواتها المرتفعة من خلال زيادة نسبة الأشعة البنفسجية القاتلة التي نزلت على سطح الأرض، فأضرت بالبشر والشجر والحجر على حدٍ سواء.   

 

كذلك عندما سمحنا منذ قرابة قرنين من الزمن بانطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون، وغازات أخرى تنتج من حرق الوقود الأحفوري من المصانع ووسائل النقل إلى الهواء الجوي، فهذه الغازات أيضاً انتقلت إلى السماء الدنيا وشكلت مظلة حرارية لا تسمح بهذه الملوثات من الانتشار والتخفيف في السماء العليا الواسعة، ومع الوقت ومع ارتفاع حجم هذه الملوثات على مدى القرنين الماضيين، بدأت البيئة في تنبيهنا بهذه التهديدات التي تمثلها هذه الغازات على كوكب الأرض، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ثم تحولت هذه التنبيهات إلى صراخٍ وعويل وألم شهده كل سكان الأرض نتيجة الحمى التي نزلت على جسد كوكبنا، وارتفاع سخونتها سنة بعد سنة. وعلاوة على ذلك فقد انكشف صراخ البيئة، وتبينت أحاسيسها المرهفة الضعيفة من خلال تداعيات سخونة الأرض كارتفاع مستوى سطح البحر ووقوع الفيضانات وتدمير البنية التحتية الساحلية، إضافة إلى زيادة حموضة المحيطات، وتكرار حرائق الغابات في شتى بقاع الأرض.

 

 فهذه الصرخات البيئية العالية التي دوَّتْ في أعماق كوكبنا فتردد صداها في أرجاء الدنيا قاطبة ووصلت عنان السماء، أكدت بأن بيئتنا بمكوناتها المختلفة والمتعددة تشعر، وتحس، وتتألم، وتنطق، وتتفاعل معنا عندما نتعدى على أحد أعضاء جسدها، فتكشف كل ذلك على هيئة إفرازات واقعية، ومظاهر جلية واضحة شهدها كل سكان الأرض في كل بقعة صغيرة أو كبيرة من هذا الكون الشاسع العظيم.

 

فكل هذه المظاهر التي رأيناها وشاهدناها أمامنا جميعاً، سواء أكانت على المستوى الدولي، أي على مستوى كوكب الأرض برمته، أو على مستوى إقليمي كصراخ الأمطار الحمضية والسوداء التي نزلت على البشر بسبب تلويث الهواء الجوي، أو على مستوى جغرافي ضيق كتحول السماء الجميلة الصافية الزرقاء اللون إلى اللون الأصفر والبني، أو تحول البحار إلى اللون الأحمر الفاقع أو الأخضر، أو البني، فهي جميعها إفرازات واقعية ناجمة عن تلوث البيئة، وهي تؤكد أننا لا نتعامل مع جماد لا حياة فيه ولا روح له، وإنما نحن أمام جسد ديناميكي حي ينبض بالروح والحياة، ويتأثر بكل صغيرة أو كبيرة تنزل عليه بفعل أيدينا وممارساتنا اليومية، ولذلك يجب علينا أن نتعامل مع البيئة وعناصرها ككائنات حية تتأثر وتؤثر، فنغير طبيعة علاقتنا وإدارتنا مع كل مكونات البيئة، بحيث تكون مبنية على تبادل المصالح والمنافع، وتكون علاقة تقدير واحترام لكل من الطرفين، الإنسان من جهة والبيئة من جهة أخرى.

 

ومن هذا المنطلق كَتَبَ أحد العلماء مقالاً في 17 أكتوبر 2022 في مجلة(PLOS Biology)تحت عنوان:" العيش في علاقة مع المحيط لتحويلها للحوكمة في عقد الأمم المتحدة للمحيطات"، حيث يدعو هذا العالم إلى أن تعترف الأمم المتحدة بالمحيطات ككائن حي له حقوق مثل الإنسان، مما يفرض على الإنسان حماية هذا الكائن الحي، والالتزام بحقوقه علينا من ناحية حقه في الازدهار، والإنتاج، والعطاء، ومن ناحية منع التلوث، وتجنب صرف المخلفات السائلة والصلبة، ومنع الصيد الجائر، وتقنين استخراج المعادن في المياه العميقة العليا خارج الحدود الجغرافية للدول، وتنظيم عملية الصيد في المواقع البحرية العامة والمشتركة، إضافة إلى حمايتها والمحافظة على أمنها وسلامتها ليتمتع ويستفيد منها الجميع في هذا الجيل والأجيال المتلاحقة. كذلك إعطاء قيمة نقدية للطبيعة ومكونات البيئة الحية وغير الحية، والتعامل معها على أنها ليست عناصر مجانية لا قيمة مالية لها، فيستبيح الجميع حرماتها، ويتعدى عليها دون أن يعاقب على ما ارتكبت يداه، كما يجب دفع ثمن تعديه على حقوق هذه البيئة واستباحت أمنها وصحتها.

 

فهذه النظرة الجديدة إلى البيئة ككائن حي له حقوق هي التي تضمن استدامة عطاء هذا البيئة لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا.