الثلاثاء، 22 نوفمبر 2022

تداعيات التغير المناخي أسرع من قرارات الإنسان

تداعيات التغير المناخي الكثيرة والمتنوعة على الأرض لا تنتظر قرارات الدول ومواقفها، وانعكاسات سخونة الأرض وارتفاع حرارتها لا تتوقف ولا تتأجل لكي تأخذ الدول مواقف إيجابية في كل سنة يجتمعون فيها، وإنما هذه الانعكاسات ماضية في طريقها، وتسير بخطى سريعة جداً منذ أكثر من قرنين، ومنذ أن بدأ الإنسان باستخدام أنواع الوقود الأحفوري في تحريك قطار التنمية نحو الأمام، وبخاصة في الدول الصناعية المتقدمة.

 

فالمجتمع الدولي ممثلاً في اجتماعات الأمم المتحدة السنوية للدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي منذ الاجتماع الأول في برلين عام 1995، عادة ما تكون آلية اتخاذ القرارات معقدة، ومتداخلة، وبطيئة جداً، فالقرارات في مثل هذه الاجتماعات الأممية حول المناخ تؤخذ بالإجماع والتوافق العام على أية قضية تطرح للنقاش والتفاوض حولها، وهناك صعوبة جداً، بل واستحالة في بعض القضايا أن تكون كل دول العالم على قلب رجلٍ واحد، فتوافق جميعها على قرار جماعي مشترك. فالدول والحكومات تختلف في مصالحها الشخصية والحزبية، ولكل دولة خصوصياتها وهمومها ومشاكلها التي قد تختلف جذرياً عن الدول الأخرى، ولكل دولة أولوياتها التي لا تتفق مع أولويات دول أخرى، ولذلك ففي الكثير من الحالات لكي تحصل على الاجماع والتوافق تكون القرارات ضعيفة، ومائعة، ولا تحقق الهدف منها، ولا تصب في مصلحة إيقاف مد تداعيات التغير المناخي منذ قيام الثورة الصناعية.

 

ففي كل اجتماع تأتي الوفود من معظم دول العالم الموقعة على معاهدات وتفاهمات التغير المناخي وتمضي نحو أسبوعين في المناقشات والمفاوضات حول البنود المتعلقة بالتغير المناخي، سواء أكانت بنوداً بيئية بحتة، أو سياسية متعلقة بأمن الطاقة، أو اقتصادية ومالية، وقد تصل بعد هذه المفاوضات إلى توافق حول بعض البنود وتقوم بالتوقيع عليها، ثم تذهب الوفود إلى بلادها فتنسى ما توافقت عليها مع الدول الأخرى وتنشغل بهمومها ومشاكلها الداخلية، وفي بعض الحالات مع تغير الحكومات تقوم بنقض كلما وقَّعت عليها، بل والانسحاب كلياً من المعاهدة، كما حدث في عدة دول منها الولايات المتحدة الأمريكية أثناء انتقال الحكم من الديمقراطي كلينتون إلى الجمهوري جورج بوش الابن، ثم تكررت هذه الحالة مرة ثانية، عندما جلس في البيت الأبيض الجمهوري ترمب خلفاً للديمقراطي أوباما.

 

وبعد ذلك يأتي الاجتماع الآخر للتغير المناخي، فتتكرر المشاهد السابقة نفسها، فتعيد الدول الكرَّة مرة ثانية، فاجتماع، ثم مناقشات، ثم تفاوض، ثم التوقيع، وأخيراً لكي تكتمل الدائرة المفرغة يأتي الانسحاب ونقض ما تم التوقيع عليه، وهكذا نحن على هذا الحال منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

 

وأثنا غرقنا في بحر المفاوضات العبثية والعقيمة، لم تتوقف يوماً ما انبعاثات الدول حول العالم من الغازات المسؤولة عن إصابة كوكبنا بالحمى المزمنة وارتفاع حرارتها يوماً بعد يوم، فأكثر من مائتي عام ونحن نسمح بغاز ثاني أكسيد الكربون من الانطلاق من محطات توليد الكهرباء ومن السيارات والطائرات والمصانع، ومنذ ذلك الوقت ونحن نُطلق أيضاً غاز الميثان وغازات الاحتباس الحراري الأخرى، ومع هذه الانبعاثات المستمرة تفاقمت ظاهرة التغير المناخي، وارتفعت وتسارعت وتيرة تأثيراتها على نطاق جغرافي أوسع وأشد، وانكشفت في كل سنة تداعيات وانعكاسات جديدة لم تكن في الحسبان، ولم تخطر على بال أحد، كالجانب الصحي، والأمني، والظواهر المناخية المتطرفة من الأمواج الحرارية الشديدة، والفيضانات المدمرة للسواحل والمرافق الساحلية، وحرائق الغابات، فقراراتنا وممارساتنا أصبحت لا تواكب سرعة وقع هذه التداعيات علينا وعلى كوكبنا، واجتماعاتنا غير المجدية لا تتوافق ولا تتناسب مع حجم هذه التداعيات.

 

وقد وثَّقت الكثير من التقارير والدراسات الميدانية سرعة انتشار وتعاظم تداعيات التغير المناخي في كل شبر من الأرض. فعلى سبيل المثال، نُشر تقرير للأمم المتحدة الصادر من "المنظمة العالمية للأرصاد الجوية"(World Meteorological Organization) في السادس من نوفمبر 2022 حول حالة المناخ حتى نهاية سبتمبر عام 2022 تحت عنوان: "التقرير الأولي حول حالة المناخ الدولي"(Provisional State of the Global Climate). وقد تم نشر هذا التقرير الأممي تزامناً مع افتتاح الاجتماع رقم (27) للدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي في شرم الشيخ.

 

وهذا التقرير الجامع يشير إلى أن الكرة الأرضية تمر الآن بمرحلة الخطر والتهديد الشديدين، فهي الآن تقع تحت وطأة الأزمة المناخية وانعكاساتها التي شملت جميع دول العالم.

 

فانبعاثات غازات الدفيئة المسؤولة عن التغير المناخي، والمتمثلة في غاز ثاني أكسيد الكربون في ازدياد مطرد، حيث نَشر "مشروع الكربون الدولي"(Global Carbon Project) تقريراً في 11 نوفمبر 2022 تحت عنوان: "الميزانية العالمية للكربون"(Global Carbon Budget)، وقدَّر التقرير بأن الانبعاثات عام 2022 ستكون قرابة 36.6 بليون طن وهو أعلى من عام 2021 بنسبة 1%. وهذه الانبعاثات المتعاظمة تنعكس على تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي والذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وحطم الأرقام القاسية السابقة، حيث وصل إلى أكثر من 419 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء، مقارنة بتركيزه في السنوات ما قبل الثورة الصناعية، والذي يقدر بنحو 280 جزءاً في المليون. وهذه الانبعاثات والتركيز المرتفع لثاني أكسيد الكربون هي التي زادت من سخونة كوكبنا ورفعت من حرارته سنة بعد سنة. ويشير التقرير من المنظمة العالمية للأرصاد الجوية والتقرير والتقييم السادس حول التغير المناخي والصادر من الهيئة شبه الحكومية المعنية بالتغير المناخي بأن معدل ارتفاع درجة حرارة الأرض في العشر سنوات من 2013 إلى 2022 يقدر بنحو 1.14، وهو أعلى مقارنة بدرجة 1.09 للفترة من 2011 إلى 2020. كما تشير التقديرات بأنه مع عدم خفض انبعاثات الدول للغازات المسببة للتغير المناخي فإن معدل الارتفاع في سخونة الأرض قد يصل إلى 2.1 درجة مئوية، علماً بأن الهدف الأعلى الذي حدده الإنسان في اجتماعات التغير المناخي هو تجنب رفع معدل الحرارة أعلى من 1.5 درجة مئوية، وهذا سيكون صعب المنال حسب الوضع الحالي لانبعاثات الدول، بل وفي تقديري فإن سقف معدل حرارة كوكبنا سيكون أعلى من هذا الرقم.

 

وما حدث من ارتفاع تاريخي في درجة حرارة الأرض ينطبق على تداعيات أخرى تمخضت عن سخونة الأرض، منها الارتفاع غير المسبوق في درجة حرارة المسطحات المائية، وفي نسبة حموضتها، وارتفاع مستوى سطح هذه المسطحات، وزيادة انصهار الجليد، إضافة إلى الموجات الحرارية، وازدياد تكرار وتوسع دائرة حرائق الغابات، والفيضانات والأعاصير التي تدمر السواحل والمرافق الساحلية.

 

ويؤيد نتائج هذا التقرير الأممي ما نُشر في الولايات المتحدة الأمريكية في السابع من نوفمبر من 13 وكالة حكومية متخصصة ضمن "البرنامج البحثي للتغيرات الدولية (US Global Change Research Program)، تحت عنوان: "التقييم الوطني الخامس للمناخ"( Fifth National Climate Assessment)، حيث يؤكد تهديدات تداعيات التغير المناخي على الأسرة الأمريكية وحياتهم اليومية.

 

فكل هذه التقارير تؤكد على حقيقة واحدة أن تداعيات التغير المناخي أسرع بكثير من قرارات ومواقف الإنسان، وآخرها "قرارات" الاجتماع رقم (27) الذي عُقد في شرم الشيخ، فجميع القرارات التي اتخذها الاجتماع ما هي إلا التكرار والتأكيد على القرارات السابقة القديمة، أي أن الاجتماع لم يأت بأي قرارٍ أو موقف دولي جديد يخفف ويبطئ من سرعة وقوع تداعيات التغير المناخي، فما يقوم به الإنسان من خفض للانبعاثات المعنية بالتغير المناخي لا تلاحق ولا تواكب الزيادة المطردة منذ قرنين لسخونة الأرض وما تفرزه هذه الظاهرة على مكونات البيئة وصحة الإنسان وسلامة كوكبنا، فنحن اليوم في سباق وجودي ومصيري بين ممارساتنا وتحركاتنا لمكافحة التغير المناخي وسرعة وقوع تداعياته على الأرض، والمؤشرات تفيد بأننا نخسر السباق حتى الآن، فما زلنا بعيدين جداً عن خط النهاية.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق