السبت، 12 نوفمبر 2022

هل البيئة كائن حي؟

لا عجب، ولا غرابة عندما أدَّعي بأن البيئة تنطق، ولكن نُطقها ليس كنطق البشر، ومكونات البيئة تحس وتتألم وتتفاعل معنا، ولكن ليس بالأسلوب الذي نراه ونشاهده بين بني آدم، والبيئة تصرخ ولكن صراخها ليس كصراخ الإنسان، والبيئة تحس وتعاني ولكن تظهر بطريقة تختلف عن إحساس ومعاناة البشر.

 

فالبيئة تشتكي، وترفع صوتها، وتكشف عن ألمها عندما يُفسد الإنسان في جسدها الحي فيصرف فيه السموم والملوثات الخطرة يوماً بعد يوم دون توقف، والبيئة تصرخ من شدة الألم الذي يصيبها كلما زاد وتفاقم تعدي الإنسان على حرمات أعضائها ومكوناتها من ماءٍ، وهواء، وتربة، فصراخها يعلو ويرتفع ويتوسع جغرافياً على قدر وحجم هذا التعدي، ففي بعض الحالات يكون الصراخ والألم وتظهر المعاناة في منطقة جغرافية ضيقة لا تتعدى حدود الدولة الواحدة، وفي حالات أخرى عندما يكون العبث في جسد البيئة برمتها وعلى مستوى كل دول العالم أجمع، فعندئذٍ قد ينتشر ويشتد صراخها ومعاناتها في كل أرجاء المعمورة، فيسمعه ويراه كل الناس في كل مكان، أينما كانوا على وجه الأرض.

 

فصراخ البيئة وأصواتها بسبب معاناتها وألمها من انتهاك الإنسان لحرماتها والتعدي على حقوقها يمكن للبشر سماعها وتحسسها عن كثب على هيئة مظاهر وصور حية تنكشف في أحد مكونات وعناصر البيئة، فقد تكون هذه المظاهر في السماء الدنيا فوق رؤوسنا مباشرة، أو في الفضاء والسماء العليا، أو في المسطحات المائية العذبة والمالحة، أو تكون على شكل أعراضٍ مرضية واضحة تتمثل في سخونتها وارتفاع حاراتها، كما يحدث بالضبط بالنسبة للإنسان عندما يُصاب بالمرض فتنكشف عليه الأعراض، مثل ارتفاع حرارة جسمه، أو ارتفاع ضغط دمه.  

 

فعلى سبيل المثال، عندما أَطْلقَ الإنسان العنان لملوثات الفلورو كلورو كربون، أو المعروفة بمركبات الـ "سي إف سي" أو الفريون إلى الهواء الجوي سنواتٍ طويلة وفي جميع قرى، ومدن العالم الغنية منها والفقيرة، المتقدمة منها والمتأخرة، انتقلت هذه الملوثات رويداً رويداً، وفي كل ساعة من كل يوم، حتى بلغت عشرات الكيلومترات فوق سطح الأرض، وفي طبقة محددة من طبقة الاستراتسفير في الغلاف الجوي يُطلق عليها طبقة الأوزون. وهناك أخذت هذه الملوثات تلعب دوراً خبيثاً ومدمراً لغاز الأوزون في طبقة الأوزون، حيث قامت هذه الملوثات التي أطلقناها بأيدينا في البيئة بتحليل غاز الأوزون وإفساد وظيفته التي خُلق من أجلها ووضع في ذلك الموقع المحدد في أعالي السماء. وعندها نطقت البيئة، وعندها فقط صرخت من عظم الألم الذي نزل عليها، فحدث ما يعرف بالثقب في طبقة الأوزون الذي رآه العلماء في جميع أنحاء العالم من خلال انخفاض تركيز الأوزون في تلك الطبقة، كما شاهد الجميع معاناة البيئة وسمع أصواتها المرتفعة من خلال زيادة نسبة الأشعة البنفسجية القاتلة التي نزلت على سطح الأرض، فأضرت بالبشر والشجر والحجر على حدٍ سواء.   

 

كذلك عندما سمحنا منذ قرابة قرنين من الزمن بانطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون، وغازات أخرى تنتج من حرق الوقود الأحفوري من المصانع ووسائل النقل إلى الهواء الجوي، فهذه الغازات أيضاً انتقلت إلى السماء الدنيا وشكلت مظلة حرارية لا تسمح بهذه الملوثات من الانتشار والتخفيف في السماء العليا الواسعة، ومع الوقت ومع ارتفاع حجم هذه الملوثات على مدى القرنين الماضيين، بدأت البيئة في تنبيهنا بهذه التهديدات التي تمثلها هذه الغازات على كوكب الأرض، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ثم تحولت هذه التنبيهات إلى صراخٍ وعويل وألم شهده كل سكان الأرض نتيجة الحمى التي نزلت على جسد كوكبنا، وارتفاع سخونتها سنة بعد سنة. وعلاوة على ذلك فقد انكشف صراخ البيئة، وتبينت أحاسيسها المرهفة الضعيفة من خلال تداعيات سخونة الأرض كارتفاع مستوى سطح البحر ووقوع الفيضانات وتدمير البنية التحتية الساحلية، إضافة إلى زيادة حموضة المحيطات، وتكرار حرائق الغابات في شتى بقاع الأرض.

 

 فهذه الصرخات البيئية العالية التي دوَّتْ في أعماق كوكبنا فتردد صداها في أرجاء الدنيا قاطبة ووصلت عنان السماء، أكدت بأن بيئتنا بمكوناتها المختلفة والمتعددة تشعر، وتحس، وتتألم، وتنطق، وتتفاعل معنا عندما نتعدى على أحد أعضاء جسدها، فتكشف كل ذلك على هيئة إفرازات واقعية، ومظاهر جلية واضحة شهدها كل سكان الأرض في كل بقعة صغيرة أو كبيرة من هذا الكون الشاسع العظيم.

 

فكل هذه المظاهر التي رأيناها وشاهدناها أمامنا جميعاً، سواء أكانت على المستوى الدولي، أي على مستوى كوكب الأرض برمته، أو على مستوى إقليمي كصراخ الأمطار الحمضية والسوداء التي نزلت على البشر بسبب تلويث الهواء الجوي، أو على مستوى جغرافي ضيق كتحول السماء الجميلة الصافية الزرقاء اللون إلى اللون الأصفر والبني، أو تحول البحار إلى اللون الأحمر الفاقع أو الأخضر، أو البني، فهي جميعها إفرازات واقعية ناجمة عن تلوث البيئة، وهي تؤكد أننا لا نتعامل مع جماد لا حياة فيه ولا روح له، وإنما نحن أمام جسد ديناميكي حي ينبض بالروح والحياة، ويتأثر بكل صغيرة أو كبيرة تنزل عليه بفعل أيدينا وممارساتنا اليومية، ولذلك يجب علينا أن نتعامل مع البيئة وعناصرها ككائنات حية تتأثر وتؤثر، فنغير طبيعة علاقتنا وإدارتنا مع كل مكونات البيئة، بحيث تكون مبنية على تبادل المصالح والمنافع، وتكون علاقة تقدير واحترام لكل من الطرفين، الإنسان من جهة والبيئة من جهة أخرى.

 

ومن هذا المنطلق كَتَبَ أحد العلماء مقالاً في 17 أكتوبر 2022 في مجلة(PLOS Biology)تحت عنوان:" العيش في علاقة مع المحيط لتحويلها للحوكمة في عقد الأمم المتحدة للمحيطات"، حيث يدعو هذا العالم إلى أن تعترف الأمم المتحدة بالمحيطات ككائن حي له حقوق مثل الإنسان، مما يفرض على الإنسان حماية هذا الكائن الحي، والالتزام بحقوقه علينا من ناحية حقه في الازدهار، والإنتاج، والعطاء، ومن ناحية منع التلوث، وتجنب صرف المخلفات السائلة والصلبة، ومنع الصيد الجائر، وتقنين استخراج المعادن في المياه العميقة العليا خارج الحدود الجغرافية للدول، وتنظيم عملية الصيد في المواقع البحرية العامة والمشتركة، إضافة إلى حمايتها والمحافظة على أمنها وسلامتها ليتمتع ويستفيد منها الجميع في هذا الجيل والأجيال المتلاحقة. كذلك إعطاء قيمة نقدية للطبيعة ومكونات البيئة الحية وغير الحية، والتعامل معها على أنها ليست عناصر مجانية لا قيمة مالية لها، فيستبيح الجميع حرماتها، ويتعدى عليها دون أن يعاقب على ما ارتكبت يداه، كما يجب دفع ثمن تعديه على حقوق هذه البيئة واستباحت أمنها وصحتها.

 

فهذه النظرة الجديدة إلى البيئة ككائن حي له حقوق هي التي تضمن استدامة عطاء هذا البيئة لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق