السبت، 26 نوفمبر 2022

انقراض بقر البحر، وماذا يعنيه لنا؟

حيوان بحري كبير وضخم الحجم والمنظر، ومخيف الهيئة والشكل لطوله الذي يزيد عن الثلاثة أمتار، ووزنه الثقيل الذي يتجاوز الـ 550 كيلوجراماً، ولكنه في الوقت نفسه وديع وأليف، ولا يؤذي أحداً، بل هو مُسالم جداً فلا يفترس ولا يأكل أي كائن حي آخر، وإنما يعيش على النباتات البحرية، وبخاصة الحشائش التي تنمو في السواحل الضحلة. كما أن هذا الكائن الحي الوديع والطيب تحول إلى رمزٍ للسكينة، والسلم، والألفة، والمحبة في الكثير من كتب الروايات والقصص والأساطير والخيال العلمي، وبالتحديد تلك الروايات حول عرائس البحر.

 

 هذا الحيوان الذي يُعتبر من أحد أنواع الثدييات البحرية هو أحد فصائل الأطوم، أو خروف البحر، ونُطلق عيه في البحرين ببقر البحر، أو الدو جونج(dugong)، حيث يعيش معنا وبجوارنا منذ آلاف السنين بأعداد كبيرة نسبياً مقارنة بما هو موجود الآن في بحار العالم، فهو يقضي حياته تحت ظلالنا فيتكاثر ويُكون أسراً جديدة من بقر البحر، ويتواجد بالتحديد في السواحل الضحلة من مياه البحرين في جزر حوار وفي خليج سلوى، ولذلك نعدُّه في بلادنا من التراث الطبيعي الفطري الذي نتمتع به، ونعتبره كنزاً حيوياً وتراثياً ثرياً يجب حمايته والحافظ عليه. فرعاية هذا الحيوان والاهتمام به وحمايته من كل العوامل التي تؤثر على سلامته يعتبر مؤشراً عملياً على حماية البحرين للحياة الفطرية، ودليل واقعي على اهتمامنا بتعزيز التنوع الحيوي البحري والحفاظ عليه كتراث لنا وللأجيال القادمة من بعدنا، بل وإن هذا الحيوان بصفةٍ خاصة يُعد تراثاً طبيعياً حيوياً للعالم أجمع وله قيمة عالية ومميزة على المستوى الدولي، وذلك بسبب نُدرة وجوده، وانخفاض أعداده حول العالم، وتصنيفه على المستوى الدولي كحيوان بحري نادر ومهدد بالانقراض، أو يوشك على الانقراض.

 

ولكن هذا الحيوان الوديع، كغيره من الحيوانات البحرية أو البرية يعاني منذ سنوات من ضغوطٍ شديدة، وممارسات جائرة، وبرامج تنموية معوقة أحادية الجانب تعدَّتْ على حرمات بيئته البحرية الساحلية، وأضرت كثيراً بالمورد الوحيد لغذائه اليومي، ودمرت كمياً ونوعياً مصدر هذا الغذاء الذي لا حياة لهذا الحيوان بدونه.

 

وكل هذه الممارسات المستمرة في كل دول العالم منذ عقود على بيئة هذا الحيوان وعلى جسده، أضعفت قوته وحيوته، فانهار صريعاً ميتاً حتى اختفى كلياً من بعض المناطق البحرية، وتم تصنيفه ضمن الأموات والكائنات الحية المنقرضة من بحارنا ومن على سطح كوكبنا.

 

وهذا ليس سيناريو نظري أتحدث عنه، وليست توقعات مستقبلية مني شخصياً حول مصير هذا الحيوان، أو غيره، والذي يتعرض لكل هذه الضغوط الشديدة والمستمرة من أنشطة البشر التنموية، ولكنه في الواقع هذا حدثٌ ميداني رأيناه ينزل في الصين، ونُشرت حوله الدراسات العلمية الميدانية التي أثبت اختفاء بقر البحر إلى الأبد، وأكدت على انقراضه كلياً في الصين.

 

فق تم الإعلان رسمياً بأن بقر البحر قد انقرض وظيفياً في الصين، أي اختفى من المشهد البحري ومن أعين الناس، أو أنه وإنْ وُجد بأعدادٍ منخفضة جداً فليس له دور وأهمية في النظام البيئي في تلك المنطقة البحرية، فقد جاء في الإعلان الصريح بأن بقر البحر الموجود منذ مئات السنين في بحر الصين لم يشاهده أحد منذ عام 2008، حيث تم نشر هذا الاعتراف الرسمي بانقراضه في مجلة بريطانية تابعة للجمعية الملكية لعلم الحيوان(Royal Society of Open Science) في 24 أغسطس 2022، تحت عنوان: "الانقراض الوظيفي لبقر البحر في الصين".

 

فقد أكدت الدراسة بأن أعداد بقر البحر بدأت واقعياً في الانحدار الشديد والانخفاض المستمر منذ عام 1975 مع دخول الصين والشروع في الأعمال التنموية الشاملة في كافة القطاعات، مما اضطر السلطات الصينية في عام 1988 إلى تصنيف بقر البحر بأن حيوان "محمي من الدرجة الأولى على المستوى القومي"، أي أعلى مستوى للحماية والرعاية. ولكن، كما هو الحال بالنسبة لجميع دول العالم بدون استثناء، فإن مثل هذه التشريعات البيئية الفطرية لا تُفعَّل، ولا تصمد أمام التنمية الاقتصادية والربح السريع والكبير، فالأولوية دائماً للنمو الاقتصادي وليس النمو البيئي، والأولوية دائماً لجمع المال وليس لحماية الثروات البيئية الفطرية.

 

وقد عزت الدراسة أسباب انقراض بقر البحر إلى عدة عوامل مرتبطة مباشرة ببرامج التنمية في كل القطاعات. فهناك أولاً القطاع السمكي المتمثل في الصيد الجائر للثروة السمكية بشكلٍ عام، إضافة إلى تعرقل هذا الحيوان في شباك الصيد واختناقه وموته، أو تناول المخلفات البلاستيكية صغيرة الحجم بالخطأ. وثانياً هناك الأنشطة التعميرية الساحلية وبناء مرافق في الساحل، والتي تتطلب عمليات حفر مواقع بحرية ودفن السواحل الضحلة، وبعضها قد تكون بيئات للأعشاب والطحالب التي يتغذى عليهما بقر البحر، مما يتسبب في مجاعة جماعية لهذه الكائنات العشبية وغيرها من الأسماك التي تعيش في تلك البيئات. أما السبب الثالث فهو حوادث اصطدام السفن ببقر البحر والقضاء عليه فوراً، ورابعاً هو تلوث البحر من مصادر متعددة منها صرف مياه المجاري ومياه الصرف الزراعي، إضافة إلى مياه المصانع، فكل هذه المصادر مجتمعة تعمل بشكلٍ تراكمي ومجموعي ومع الزمن على التدهور النوعي والكمي لبيئات بقر البحر، وتؤدي إلى انخفاض أعدادها وفساد استمرارية حياتها نوعياً وكمياً، ثم انقراضها إذا استمرت هذه المصادر في تدمير البيئة البحرية.

 

فهذا الموضوع الذي أتحدث عنه في هذا المقال ليس فقط حول حيوان بحري يعاني من عبث الإنسان ببيئته وتعديه على حرمات وسيادة غيره من الكائنات، وإنما هو مثال فاضح من بين أمثلة ووقائع كثيرة نشهدها منذ بدء الإنسان بالثورة الصناعية، ومنذ الشروع في أنشطته التنموية غير المستدامة وغير الرشيدة، التي جعلت الهدف الرئيس والوحيد هو النمو الاقتصادي فقط وعلى حساب كل شيء من صحة الإنسان وسلامة مكونات وثروات البيئة الحية وغير الحية.

 

فانقراض هذا الحيوان في الصين مؤشر ودليل ميداني وحيوي على ما ارتكبته أيدينا من تدميرٍ ممنهج لجودة بيئتنا من الناحيتين النوعية والكمية، ودليل على أن برامجنا التنموية غير مستدامة وتفسد البيئة والكائنات التي تعيش عليها، بما في ذلك الأمن الصحي للإنسان.

 

وانقراض هذا الحيوان من المفروض أن يكون درساً قاسياً لا ننساه أبداً، ونتعلم منه بأن لا نسمح للكائنات الحية الأخرى أن تلقى مصير بقر البحر، وأن نغير من أسلوب ونمط تنميتنا بحيث أن تكون تنمية تُعمر ولا تفسد، وتبني ولا تهدم، فتكون تنمية مستدامة تورث الأجيال موارد بيئية نظيفة، وسليمة، ومنتجة، نتمتع بها في هذا الجيل والأجيال اللاحقة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق