الخميس، 3 نوفمبر 2022

مخلفات مشعة في مدرسة ابتدائية!


نشرتْ وسائل الإعلام الأمريكية خبراً غريباً ومقلقاً في الوقت نفسه في 17 أكتوبر 2022 حول اكتشاف مستويات مرتفعة من المواد والمخلفات المشعة القاتلة للبشر في مواقع مختلفة داخل مدرسة ابتدائية واقعة في ضواحي مدينة سينت لويس العريقة في ولاية ميسوري الأمريكية.

وما حيَّرني في هذا الخبر وأثار اهتمامي وفضولي لسبر غوره، والتعرف عن قرب على تفاصيله هو كيفية وصول هذه المخلفات المشعة إلى داخل بيئة المدرسة، في الصف، وملاعب الأطفال الخارجية، ومطعم المدرسة؟ ومن أين جاءت هذه الاشعاعات الخطرة السامة وما مصدرها ومنذ متى موجودة في المدرسة؟ وما هي تأثيراتها الصحية على تلاميذ هذه المدرسة الإبتدائية؟

ولكي أُجيب عن هذه الأسئلة الغامضة والخطيرة، أَنقلكم معي إلى المشهد الأول، وبداية هذه القصة المرعبة، حيث غُرست الغرسة الخبيثة الأولى، ووضعت البذرة الفاسدة تحت الأرض في الأربعينيات من القرن المنصرم في مدينة سينت لويس، حتى كبرت وأثمرت حنظلاً مُراً وخبيثاً انكشف لجميع سكان تلك المنطقة.  

ففي حُقبة الحرب العالمية الثانية، ظهر سباق محتدم ومصيري بين الدول المتحاربة لتحقيق السبق في إنتاج أسلحة الدمار الشامل والنصر بضربة قاضية وشاملة على العدو، فشرعت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1941 في تنفيذ مخططٍ سري عسكري أُطلق عليه "مشروع منهاتن"(Manhattan Project)، وأحد أعمدة المشروع كان تكرير وتخصيب اليورانيوم بدرجة تفي بغرض صناعة أول قنبلة ذرية، حيث قامت بهذه المهمة المدمرة شركة "ملينكرودت للكيماويات"(Mallinckrodt Chemical Co) التي كان مقرها في ضواحي مدينة سينت لويس بالقرب من منطقة أنهار وروافد صغيرة تُسمى "كُولْد واتر كريك"(Coldwater Creek) وتصب في نهر مسيسيبي العظيم.

وأثناء هذه العملية المظلمة التي جرت في جُنح الليل قبل أكثر من ثمانين عاماً تولَّدت عدة أنواع من المخلفات المشعة التي يستمر اشعاعها لآلاف، بل ملايين السنين، فمنها ما تسرب مباشرة إلى الهواء الجوي فنزل على الإنسان ومكونات البيئة على هيئة تسربات جافة، أو تسربات رطبة كالأمطار، ومنها ما صُرف مباشرة إلى المسطحات المائية النهرية فلوث المياه بالمواد المشعة التي انتقلت مع الزمن إلى الكائنات النهرية ومنها إلى الإنسان، وبالتحديد في منطقة روافد نهر مسيسيبي، ومنها مخلفات صلبة وشبه صلبة تم تخزينها بطرق غير سليمة من الناحيتين البيئية والصحية في عدة مواقع منها موقع المصنع نفسه، ومنها موقع بالقرب من مطار سينت لويس.

وفي تلك الفترة الزمنية نجحت الولايات المتحدة في صُنع أول قنبلة نووية أُلقيت على هيروشيما وناجازاكي في اليابان في السادس من أغسطس 1945، فقتلت البشر ودمرت الحجر والشجر، ولكن في الوقت نفسه، وعلى أرض أمريكا نفسها ألقت أمريكا قنبلة دمار شامل من الملوثات المشعة في مختلف المواقع التي أُجريت فيها إحدى عمليات إنتاج القنبلة الذرية، وتأثيراتها مازالت مستمرة حتى يومنا هذا وستستمر عقوداً طويلة من الزمن، ومنها القيام بتجربة إلقاء هذه القنبلة في ولاية نيومكسيكو في 16 يوليو 1945، ومنها أيضاً تسرب الملوثات المشعة من آلاف البراميل التي تحتوي على مخلفات مشعة في أكثر من 36 موقعاً في ولايات أمريكا، وهذه المواقع الآن تُعد قنابل ذرية موقوتة قد تنفجر في أية لحظة.

فالنسبة للعملية التي أُجريت في مدينة سينت لويس فقد تسببت في تلوث إشعاعي شمل البر، والجو، والأنهار في مناطق كثيرة، كالتي أكتشف الإشعاع فيها في أغسطس 2022 في مدرسة جانا الإبتدائية(Jana Elementary School) الواقعة في مقاطعة مدرسة هيزلوود(Hazelwood School District)في ضواحي المدينة. فقد قامت شركة بوسطن للكيماويات(Boston Chemical Data Corp) بأخذ عينات من غبار وتربة المدرسة في عدة مواقع داخل المدرسة، وأكدت وجود نسبة عالية من عدة ملوثات مشعة بعد ثمانية عقود، منها الثوريم_230، حيث نَشرت الشركة التقرير في العاشر من أكتوبر 2022 تحت عنوان: "التلوث الإشعاعي في مدرسة جانا الإبتدائية، هيزلوود". فقد بلغ التركيز في التربة والغبار داخل المدرسة 34.3 بيكو كيوريز من المادة المشعة لكل جرام من التربة(pCi/g)، في حين أن التركيز في التربة الطبيعية العادية لا يتعدى 1.51، علماً بأن التركيز بالقرب من المدرسة وفي مناطق أخرى قريبة وصل إلى مستويات عالية جداً تهدد صحة البشر، وهي 178 ألف بيكو كيوريز لكل جرام.

فهذه الكارثة البيئية الصحية وقعت في أعظم دولة وأكثرها تقدماً على سطح الأرض، وقد تقع في أية دولة أخرى، فكيف يمكن الاستفادة منها لتجنبها في دولنا؟

ومن أهم الدروس التي يجب الاتعاظ بها والتعلم منها هو أهمية وجود تنسيق وتعاون بين كل الجهات الحكومية وغير الحكومية المعنية باستخدام الأراضي، بحيث يكون هناك فصل بين المناطق السكنية والمناطق الصناعية، وأن لا نسمح بتوغل أحدهما على الآخر، حتى لا نجد بعد عقود مدرسة، أو مناطق سكنية مبنية على أراضي صناعية وأراضي دُفنت فيها مخلفات خطرة مشعة، أو غير مشعة وسامة. ففي حالة المدرسة الأمريكية وقع غزو "عكسي"، حيث إن المدرسة هي التي توغلت على المنطقة الصناعية التي كانت بعيدة عن الناس قبل 80 عاماً، وهي التي بُنيت في حدود هذا الموقع الخطر فتضررت من وجودها هناك.

ومثل هذه الظاهرة المتمثلة في الغزو العكسي وزحف الأنشطة العمرانية على المواقع الخطرة وقعتْ عندنا في البحرين أيضاً. فعلى سبيل المثال، زحفت المناطق السكنية والعمرانية في مدينة عيسى على مدفن القمامة المنزلية الوحيد في البحرين في السبعينات من القرن المنصرم، والذي كان يُعد بعيداً عن التجمعات الحضرية، وهو مدفن البحير للمخلفات البلدية الصلبة في منطقة البحير، حيث كانت الملوثات السامة تنطلق منه والحرائق تشتعل في المدفن بين الحين والآخر بسبب انبعاث غاز الميثان الناجم عن تحلل المكونات العضوية من القمامة، مما أدى إلى ارتفاع شكاوى الناس الذين زحفوا أنفسهم وسكنوا إلى جوار موقع دفن المخلفات، فاضطرت الجهات المعنية إلى نقل المدفن إلى موقع المحاجر جنوب منطقة ألبا الصناعية، ولا ندري بعد قرن هل سيزحف العمران إلى هناك أم لا؟

كذلك بُنيت محطة توبلي لمعالجة مياه المجاري في منطقة كانت تُعتبر شبه نائية وبعيدة نسبياً عن المناطق السكنية في تلك الفترة الزمنية، ولكن مع الوقت زحفت المساكن رويداً رويداً فاقتربت من المحطة، وغزت موقع معالجة مياه المجاري، فارتفعت شكاوى القاطنين هناك من الروائح الكريهة والفاسدة التي تنبعث من المحطة! 

ومن الحالات المشابهة التي قد تقع على المدى البعيد جداً هو زحف التنمية العمرانية إلى المناطق البرية والصحراوية، ومنها منطقة كبيرة مخصصة لدفن وتخزين المخلفات الصناعية الصلبة وشبه الصلبة الخطرة والسامة، وتُعرف بمدفن حفيرة للمخلفات الصناعية الخطرة، مما يجب الحذر من الآن على فصل هذه المنطقة كلياً عن أية عملية، أو نشاط تنموي نقوم به في هذا الجيل، أو الأجيال اللاحقة بعد مئات السنين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق