الثلاثاء، 27 مارس 2018

سبب جديد لارتفاع معدلات الجرائم


 


يُرجع العلماء المختصون أسباب وقوع الجرائم وارتفاع معدلات ارتكاب الجريمة في بعض الدول إلى عدة عوامل، منها العامل الديني والمتمثل في ضعف الوازع الديني وتردي قوة إيمان الفرد والذي يؤدي إلى انحراف السلوك وفساد تصرفات الفرد والتهاون في ارتكاب الجريمة، ثم هناك العامل الاجتماعي المتمثل في التربية الأسرية ومصاحبة الأشرار ورفقاء السوء والفساد وشرب الخمر وتعاطي المخدرات. وهناك أيضاً العامل الاقتصادي الذي قد يؤدي بالإنسان إلى القيام بأعمال إجرامية كالفقر المدقع وشُح المال، إضافة إلى البطالة والفراغ المميت. وعلاوة على هذه العوامل، فبعض العلماء يعزون قيام الأفراد بالجريمة إلى عوامل نفسية وبيولوجية والمتمثلة في الأمراض النفسية من الاضطرابات والاكتئاب المزمن من جهة والعوامل الوراثية التي يكتسبها الإنسان من آبائه وأجداده.


 


وكل هذه العوامل تعد من الأسباب التاريخية القديمة والمعروفة منذ زمنٍ بعيد، ولكن الأيام كشفت لنا عن عوامل جديدة لم تكن في الحسبان، ولم تخطر على بال أحد وتؤدي إلى قيام الأفراد بأعمال العنف والجريمة، وارتكاب أعمال مخالفة للنظام والقانون وأمن الدول.


 


وهذا العامل استجد الآن مع وضوح الرؤية حول البيئة وهمومها وشؤونها، وبالتحديد بالنسبة لمصير الملوثات السامة والخطرة التي سمحت أيدينا بانطلاقها ودخولها إلى عناصر البيئة من هواءٍ وماءٍ وتربة، ومن مصادر لا تعد ولا تحصى، فكل هذه الملوثات التي أطلقناها أنفسنا وبرضانا وأمام أعيننا لأكثر من قرنٍ طويلٍ من الزمن بدأت ترجع إلينا مرة ثانية، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبعد سنواتٍ طويلة من مكوثها في مكونات بيئتنا وانتقالها مع الزمن من منطقة إلى أخرى حتى بلغت أعضاء أجسادنا دون أن ندري أو أن نحس بوجودها فينا. فهذه الملوثات نفسها بعد هذه السنوات كشرَّت الآن عن أنيابها، وبدأت تظهر فوق السطح على هيئة أمراض جسدية فسيولوجية مستعصية على العلاج، أو أسقامٍ نفسية وسلوكية.


 


ومن تأثيرات هذه الملوثات على سلوك الإنسان وتصرفاته اليومية هي جعله أكثر ميلاً للعنف وأعمال الشغب وارتكاب الجرائم. وهذه الظاهرة تعد حديثة نسبياً على المجتمع العلمي والطبي، فالأبحاث تنشر منذ أكثر من عقدين للتعرف أكثر على هذه الحالة المرضية السلوكية واكتشاف دور التلوث في إثارتها وتعميقها وآلية حدوثها.


 


ومن آخر الأبحاث التي نُشرت لدراسة مسؤولية ومساهمة التلوث في ارتكاب الجرائم، هي الدراسة التي صدرت في السابع من فبراير من العام الجاري في مجلة "العلوم النفسية" التابعة للجمعية الأمريكية لعلم النفس"، تحت عنوان: "تلوث الأخلاقيات: تلوث الهواء يتوقع الأنشطة الإجرامية والتصرفات غير الأخلاقية"، حيث أشارت نتائج الدراسة بأن التعرض لتلوث الهواء يؤدي إلى التصرفات العدائية وغير الأخلاقية كارتكاب الجرائم والقيام بأعمال العنف وممارسة الغش، أي بعبارة أخرى فإن هناك علاقة وطيدة بين درجة التعرض لتلوث الهواء وسلوكيات الإنسان الإجرامية. ونتائج هذه الدراسة تتوافق مع نتائج دراسة شاملة أجريت على 9360 مدينة أمريكية حول العلاقة بين تلوث الهواء في هذه المدن ومعدلات ارتكاب الجريمة في كل مدينة مثل القتل والاعتداء والسرقة، حيث أكدت بأنه كلما زاد تلوث الهواء في المدينة ارتفعت مستويات الجريمة، أي أن للتلوث دوراً حقيقياً في رفع درجات ارتكاب الجرائم بكل أنواعها في المجتمعات البشرية. 


 


فهذه الأبحاث الرائدة التي بدأت تخرج إلينا رويداً رويداً وبعد كل فترة من الزمن في مجال علاقة تلوث الهواء بسلوك الإنسان الإجرامي، تؤكد بأن كُلفة وانعكاسات التلوث لا تنحصر كما كان معروفاً سابقاً على الجوانب البيئية، أو الصحية العضوية، أو الاقتصادية، وإنما تتعدى هذه الحدود الجغرافية التقليدية لتكون لها كلفة خطيرة ومزمنة تهدد الإنسانية جمعاء، وهي البعد الأخلاقي والسلوكي الاجتماعي المتمثل في بُروز وانتشار الجريمة وأعمال العنف وعدم الاستقرار في مدن العالم.


 


والآن بعد أدركتَ العلاقة الوطيدة بين تلوث الهواء وارتكاب الجرائم، عليكَ أن تتخيل ماذا سيحدث للإنسانية وللمجتمعات البشرية في كل مدن العالم والتي تتعرض كل ثانية لمستويات مرتفعة من الملوثات التي تنبعث من وسائل النقل في البر والبحر والجو ومحطات توليد الكهرباء والمصانع، فهل سيتحول كل هؤلاء الملايين من البشر الذين يعيشون في المدن إلى مجرمين، وتتحول المدن إلى جحيم لا يطاق؟

الأحد، 18 مارس 2018

مخلفات الحروب تُذكرنا بمرارة الحروب


مطار مدينة لندن يُغلق أبوابه أمام حركة الطائرات وحركة المسافرين ويلغي جميع الرحلات الخارجة والداخلة في 11 فبراير من العام الجاري ليس لأسباب أمنية أو هجمات إرهابية، أو بسبب نزول الريح الصرصر العاتية التي تدمر كل شيء يقف في وجهها، أو الثلوج الكثيفة العقيمة التي تشل حركة الطيران، ولكن أُغلق هذا المطار لأسباب تعُود إلى ما قبل أكثر من سبعين عاماً، وبالتحديد ترجع إلى تلك الأيام العصيبة والمرَّة التي عانى منها معظم دول العالم أثناء الحرب العالمية الثانية.

 

وعلاوة على شل عمل المطار كلياً، فقد توقفت خدمات النقل العام من الحافلات والقطارات والسيارات الشخصية المتجهة إلى منطقة المطار، حيث توقف بعض وسائل المواصلات من الحافلات والقطارات في منطقة قطرها 214  متراً حول المطار، أُقيمت كمنطقة آمنة لإبعاد الناس عن هذا الخطر المرتقب، كما تم جبرياً إخلاء السكان من منازلهم حماية لأراوحهم وسلامتهم.

 

وفي ذلك اليوم أيضاً هرَعت جميع خدمات الطوارئ في لندن بأقصى سرعة وكأنهم حُمرٌ مُستنفرة فرَّت من قسورة، فالجميع من سيارات الإسعاف، والمطافئ، وعدد كبير من الشرطة والمخابرات في المدينة، وبعض أفراد الجيش وطاقم متخصص في الغطس من منتسبي البحرية الملكية، كلهم اتجهوا فوراً إلى مبنى المطار لمواجهة هذا التهديد.

 

فقد اكتشف عمال البناء قنبلة عملاقة لم تنفجر، طولها أكثر من خمسة أقدام، وتزن أكثر من نصف طن، فقد وجدوا هذه المخلفات الحربية وهي مدفونة في الطين في نهر التيمز الشهير على عمق قرابة 30 قدماً تحت سطح النهر في نهاية مدرج المطار. وأكد الخبراء بأن هذه القنبلة سقطت أثناء دك الطيران الألماني لبريطانيا بعشرات الآلاف من القنابل، أو زهاء 50 ألف طن من المتفجرات بمختلف أنواعها وأشكالها وأحجامها في الفترة من 1940 إلى 1941 التي انهمرت على بريطانيا كالأمطار الغزيرة ولمدة ثمانية أشهر عجاف، حيث قُتل في تلك الفترة نحو 43 ألف بريطاني وشُرد أكثر من مليون، ولكن هذه القنابل لم تنفجر كلها فبقيت خالدة في الغابات أو في أعماق البحار أو الأنهار، وأصبحت هذه المخلفات تكشر عن أنيابها بين الحين والآخر في مختلف دول العالم، وتحولت إلى ذكريات مريرة خالدة تحيي عند الإنسان آلام الحروب وقسوتها وشدتها على الإنسان وبيئته، فكلما نسي جيل من أجيال البشر المعاناة من هذه الحروب، ظهرت هذه المخلفات لتجدد مرة ثانية هذه الآلام والأحزان والمخاوف من وقوعها مرة ثانية.

 

وفي هونك كونج في الأول من فبراير من العام الحالي ثم بعد خمسة أيام تم العثور على مخلفات حربية أخرى مدفونة منذ أكثر من 70 عاماً في أعماق الأرض عند قام العمال بالحفر لأعمال البناء والإنشاء في منطقة تجارية كثيفة ومزدحمة بالسكان، وهي عبارة عن قنبلتين ثقيلتين مخيفتين من أيام الحرب العالمية الثانية سقطتا عندما قام الطيران الأمريكي بإنزال قنابله على هونك كونك التي كانت في تلك الفترة واقعة تحت الاحتلال الياباني. وهذه الحالة جعلت سكان هونك كونج بعد أن نسي الناس كلياً تلك الحرب الضروس القاسية، يعيشون أياماً عصيبة مفزعة، إذ جددت في ذاكرتهم أيام الحرب الكئيبة والموجعة.

 

فإذا كانت مخلفات الحرب العالمية الأولى والثانية مازالت جاثمة في أراضينا وبحارنا، وتخرج إلينا بين الحين والآخر، فماذا عن الحروب المعاصرة التي شاهدناها جميعاً من قبل ونشاهدها اليوم، فحرب الخليج الأولى والثانية نقشت بصماتها واضحة في بيئتنا وتغلغلت في أعماقها، فهناك الآلاف من مخلفات الذخائر والصواريخ والقنابل والألغام الأرضية التي مازالت موجودة في البر ولا نعلم الكثير عنها، وهناك أيضاً الكثير من هذه المخلفات الخطرة إضافة إلى مخلفات السفن الغارقة الجاثمة في أعماق الخليج في مواقع عدة متفرقة، ولا توجد أية دراسات موثقة أو معلومات دقيقة حول هويتها ونوعية حمولتها ومواقع غرقها، وهذه المخلفات حتماً في يومٍ ما، ولو بعد حين ستنكشف فوق السطح في البر أو البحر فتهدد حياتنا وتذكرنا بأنها موجودة وتحيي في نفوسنا المشاهد المؤلمة التي رأيناها من قبل.

 

والآن هناك الحروب التي مازالت مستمرة في أفغانستان، وسوريا، واليمن، والتي نأمل أن تنتهي قريباً، ولكن حتى لو انتهت فسنبدأ حرباً جديدة تتمثل في مخلفاتها الخالدة المنتشرة في كل مكان، وهذه الحرب لن تكون سهلة وقصيرة الأمد، ولن تنتهي أبداً كما هو الحال بالنسبة للحرب العالمية الأولى والثانية، فتجاربنا تؤكد بأن الحرب في نهاية المطاف ستنتهي ولكن مخلفاتها ستكون باقية أبداً تشهد وقوع هذه الحروب الدامية والطاحنة، وكلي أمل أن تكون هذه المخلفات الباقية عبرة وعظة للجميع لتجنب الدخول في نفق الحروب المظلمة التي يكون الجميع فيها خاسراً.

الجمعة، 16 مارس 2018

حرق البخور يساوي حرق السجائر



أجريتُ دراسة سريعة للإجابة عن السؤال التالي: هل حرق البخور يساوي تدخين السجائر؟ أي بعبارة أخرى هل الملوثات والآثار الصحية التي تنجم عن حرق البخور لا تختلف عن حرق السجائر؟

أما بالنسبة للتدخين فهناك إجماع دولي عند كل المعنيين بالتدخين سواء العلماء ورجال السياسة والقانون أو شركات التبغ نفسها التي تبيع السجائر، فالجميع يعترف بأن هناك أكثر من 4000 ملوث ينبعث عند حرق السجائر، منها أكثر من عشرين مادة مسرطنة، كما يؤكد الجميع بأن التدخين "قاتل" للبشرية.

ولكن المشكلة تكمن في حرق البخور والعود وغيرهما من الأنواع الكثيرة التي تدخل تحت مسمى "البخور"، فهناك الكثير من الناس الذين لم يقتنعوا بعد بأن الملوثات التي تنطلق عند حرق "البخور" لا تختلف كثيراً عن الملوثات والسموم والمواد المسرطنة التي تنبعث من السجائر، كما لا يعلمون بأن الآثار والأضرار الصحية تكاد تكون متشابهة إلى حدٍ بعيد.

فقد قمتُ بدراسة حول الملوثات التي تصدر عن البخور، وأكدتُ من خلال تحليل هذه الملوثات أن البعض منها يسبب السرطان كالبنزين والفورمالدهيد والدخان، إضافة إلى المئات من الملوثات الأخرى السامة. وهناك دراسة أُجريت في دولة الإمارات وأفادت بوجود ملوثات مشابهة للملوثات التي تنبعث عن السجائر مثل الدخان وأكاسيد النيتروجين وأول أكسيد الكربون والفورمالدهيد، كما أشارت الدراسة إلى وجود علاقة بين حرق البخور والإصابة بالصداع، كذلك نُشرت دراسة في قطر على مائة طفل وأكدت أن حرق البخور في المنزل يزيد من خطورة تعرض الطفل للربو.

أما في دول شرق آسيا، فقد نُشر بحث عنوانه: "حرق البخور "عُود المسجد" في التايوان أثناء الحمل وتأثيره على وزن الجنين ومحيط رأسه"، حيث هدف إلى التعرف على الآثار الصحية التي تنتج من حرق البخور أثناء الحمل على 15773 مولوداً من حيث وزن المولود ومحيط الرأس، وأشارت الدراسة إلى وجود علاقة بين التعرض للبخور وانخفاض وزن الجنين، كما أفادت بأن البخور يؤدي إلى قصر محيط الرأس. كذلك نشر بحث عنوانه: "حرق البخور وموت الصينيين في سنغافورا من أمراض القلب" وهدف إلى التعرف على الآثار الصحية التي تنتج من حرق البخور عند 63257صينياً يعيشون في سنغافورا، وأشارت النتائج إلى وجود علاقة بين حرق البخور يومياً والتعرض للملوثات التي تنبعث منه وزيادة مخاطر أن يلقي الإنسان حتفه من أمراض القلب. 

فهذه أمثلة قليلة جداً للأبحاث التي أُتابعها باستمرار حول الملوثات التي تنبعث عن البخور والمردودات الصحية للتعرض لهذه الملوثات، والخلاصة التي توصلتُ إليها وللإجابة عن السؤال الذي طرحته في مقدمة المقال هي أن نوعية الملوثات التي تنبعث عن حرق البخور لا تختلف كثيراً عن حرق السجائر، وأما بالنسبة للانعكاسات الصحية فلا شك بأن البخور يضر بصحة الإنسان ولكن درجة الضرر تعتمد على عدة عوامل منها فترة تعرضنا لملوثات البخور وما إذا كُنا نستنشق هذه الملوثات أم لا.

الجمعة، 9 مارس 2018

قواعد أمريكا العسكرية مُهددة، وجُزرنا مهددة أيضاً



نشر البنتاجون أو وزارة الدفاع الأمريكي تقريراً مفصلاً وشاملاً في 31 يناير من العام الجاري يؤكد فيه أن تداعيات ظاهرة التغير المناخي والمتمثلة في رفع مستوى سطح البحر وحدوث الفيضانات والأعاصير والرياح الصرصر العاتية ورفع درجة حرارة الأرض تؤدي إلى التهديد المباشر لأكثر من نصف القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في الكثير من دول العالم، وبالتحديد ستُحدث هذه الانعكاسات الناجمة عن التغيرات المناخية تدميراً كلياً لـ 1684 قاعدة عسكرية من أكثر من 3500 موقع عسكري موجود بالقرب من السواحل البحرية حول العالم.

وقد قام مركز المناخ والأمن الأمريكي وبتكليف من الكونجرس والبنتاجون بإجراء هذه الدراسة البيئية الأمنية التي جاءت تحت عنوان :" تقييم المخاطر المتعلقة بالمناخ للقواعد العسكرية التابعة لوزارة الدفاع"، والتي هدفت أساساً إلى التعرف عن كثب على تداعيات التغير المناخي على القواعد العسكرية، وبالتحديد تلك الواقعة على الشواطئ البحرية في مختلف دول العالم.

وجدير بالذكر أن هذا التقرير الذي يحذر من تداعيات التغير المناخي على الأمن القومي الأمريكي وعلى قواعدها العسكرية خاصة وعلى الأمن والاستقرار الدولي ليس هو الأول من نوعه، فقد حذر الخبراء العسكريون وعدد كبير من الشخصيات الأمريكية المرموقة والمختصة بشؤون الأمن القومي الأمريكي في 16 سبتمبر 2016 بأن التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض يشكل تهديداً حقيقياً للقواعد العسكرية الأمريكية الساحلية نتيجة لارتفاع مستوى سطح البحر ونزول الفيضانات على المناطق الساحلية، كما أكدوا بأن سخونة الأرض والمردودات الناجمة عنها ستُشعل فتيل النزاعات على المستوى الدولي. كذلك أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في 14 سبتمبر 2016 بأن البنتاجون يؤكد بأن التغير المناخي يشكل "تهديداً مضاعفاً" على الأمن القومي الأمريكي، وبالتالي سيعمل على إدخال وضم البعد المتعلق بالتغير المناخي في كافة أعماله وبرامجه التنفيذية، سواء أكانت متعلقة بتطوير الأسلحة والذخائر واختبارها، أو البرامج الخاصة بإعداد الجنود للحروب ورفع مستوى جاهزيتهم لخوض المعارك.كما وصف المتحدث باسم البيت الأبيض أثناء حكم أوباما التغير المناخي قائلاً بأنه: "لا يوجد تحد يهدد مستقبل أجيالنا اللاحقة أعظم من التغير المناخي، فالتغير المناخي لا يحترم الحدود الجغرافية للدول، وليس هناك دولة قادرة لوحدها على مواجهة التغير المناخي".

ولكن التناقض الذي أشاهده الآن في السياسة الأمريكية المناخية ولا أجد تفسيراً منطقياً له هو أن هذه التقارير الفنية المتواترة التي صدرت من جهات حكومية حول المردودات الأمنية للتغير المناخي على الأمن القومي الأمريكي لا تنعكس على مواقف واستراتيجيات وتوجهات ترمب الحالية، فهو في المقام الأول يشك في دور الإنسان ومسؤوليته في إحداث التغيرات المناخية ووصف أثناء حملته الانتخابية الرئاسية التغير المناخي بأنها "خدعة" صينية لضرب الاقتصاد الأمريكي، وأكد على هذا الرأي من خلال انسحابه في يونيو من عام 2017 من معاهدة باريس للتغير المناخي لعام 2015 التي وافقت عليها الغالبية العظمى لدول العالم، كما أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي نشرها البيت الأبيض مؤخراً خلت من الاعتراف بدور التغير المناخي على البيئة بشكلٍ عام وعلى الأمن القومي الأمريكي بشكلٍ خاص. وعلاوة على هذا، فإن سياسات ترمب المناخية تجد صداها في مواقف المسئولين عن البيئة الأمريكية، فعلى سبيل المثال، وفي الثامن من فبراير من العام الجاري قال رئيس وكالة حماية البيئة في جلسة استماع في الكونجرس بأن التغير المناخي لو كان واقعاً مشهوداً فهو قد يكون مفيداً للبشرية، فهو ليس "بالأمر السيئ بالضرورة"!

فاليوم نقف على مفترق طرق خطير، لا ندري من سيكون الرابح في نهاية الطريق، ولمن ستكون الغلبة والقول الفصل، هل هو المجتمع الدولي الذي أقرَّ بالإجماع معاهدة باريس للتغير المناخي لعام 2015 وأكد على دور الإنسان في رفع درجة حرارة الأرض، أم لأعظم دولة على وجه الأرض وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي انسحبت للمرة الثانية من معاهدة التغير المناخي، الأول من بروتوكول كيوتو للتغير لعام 1996 في عهد بوش الإبن، والثاني من اتفاقية باريس الحالية؟

أما نحن في البحرين فعلينا أولاً تبني مخرجات واستنتاجات التقارير الفنية الموثقة والأبحاث العلمية الموضوعية المتعلقة بالتغير المناخي، وثانياً تنفيذ قرارات المجتمع الدولي التي تؤخذ بالإجماع، كاتفاقية باريس للتغير المناخي. وانطلاقاً من هذه السياسة علينا اتخاذ الاحتياطات اللازمة وتبني الإجراءات الاستباقية للحفاظ على الأمن الوطني من تداعيات التغير المناخي، وبخاصة أن للبحرين وضعاً مميزاً وخاصاً تتضاعف فيه المردودات الناجمة عن التغير المناخي والمتمثلة في رفع مستوى سطح البحر ووقوع الأعاصير والفيضانات الساحلية. فجزر البحرين تقع أمتاراً بسيطة فوق سطح البحر، إضافة إلى أن أكثر من 33% من مساحة البحرين قد تم دفنها، فهي إذن تقع على مستوى سطح البحر فتكون عرضة مباشرة لأي تغيرات، ولو كانت بسيطة قد تحدث لمستوى سطح البحر، علماً بأن آخر دراسة نُشرت في 13 فبراير من العام الحالي في مجلة وقائع الأكاديمية الأمريكية القومية للعلوم أفادت بأن مستوى سطح البحر سيرتفع سنتيمتراً واحداً سنوياً.

فكيف نحمي جزرنا الطبيعية وجزرنا ومنتجعاتنا السياحية المصطنعة من شر التغير المناخي القادم؟

الخميس، 8 مارس 2018

الديمقراطية التي لا أُريد



المجتمع الغربي، أو الديمقراطية الغربية تقوم أساساً على حكم الشعب للشعب، أي أن غالبية الشعب إذا رغبت في السماح لأي شيء مهما كان ذلك الشيء، فسيكون هذا المحرم حلالاً طيباً، وإذا الغالبية العظمى من المواطنين في الدولة صوتت من أجل قضية محددة ووافقت على وجودها وممارستها في المجتمع فسيتحول إلى أمرٍ قانوني مباح لا غبار عليه، أي أن الشعب هو مصد السلطات كلها، فإذا قضى أمراً فيقول له كن فيكون، فلا توجد قِيم عليا، ولا أخلاقيات ومُثل فاضلة، ولا ثوابت وطنية دائمة، ولا مبادئ أساسية سامية للمجتمع، ولا توجد قيود أو مُحرمات على الشعب فهو الذي بيد حكم التحليل والتحريم.

وهذه ورطة كبيرة خانقة، وأزمة حقيقة عصيبة وقعت فيها المجتمعات الغربية الآن، ولا تعرف طريق الخروج منها، أو التعامل السليم معها، أو إدارتها بأسلوب مستدام.

ولكي أوضح لكم هذه الفكرة، أُقدم مثالاً واحداً فقط مُستخلصاً من تجربة وخبرة الولايات المتحدة الأمريكية مع المخدرات، وبالتحديد مع الحشيش، أو الماريوانا، أو ما يُرف بنبات القِنب.

فهذا المخدر القاتل المعروف قديماً، والمتغلغل منذ سنوات في المجتمع الأمريكي، والذي تُصنفه الولايات المتحدة الأمريكية وحكومتها الاتحادية حتى يومنا هذا بأنه خطر كالهيروين، وليس له فوائد طبية، رأى الآن غالبية الشعب الأمريكي في أنه يمكن فك القيود المفروضة على استعماله سواء لأغراض طبية علاجية، أو لأغراض شخصية للترفيه والترويح والتسلية عن النفس.

وهذا التوجه للشعب الأمريكي ورغبته في أن يُحِل استعمال هذا المخدر المـُحرَّم المهلك للحرث والنسل على المستوى الاتحادي، لم يأت بين عشيةٍ وضحاها وإنما جاء رويداً رويداً مع مرور السنين ولأسباب عدة. فمنذ أن بدأت استطلاعات الرأي حول الحشيش في عام 1969، كانت نسبة الأمريكيين الذين يرغبون في السماح للحشيش نحو12%، وارتفعت النسبة في عام 1970 إلى 25%، ثم تضاعفت النسبة بشكلٍ مشهود فبلغت 60% عام 2016، وارتفعت مرة أخرى إلى 64% في أكتوبر 2017، وهناك استطلاع آخر للرأي أشار إلى موافقة 86% من الأمريكيين لاستخدام الحشيش تحت أي مسمى.

وهذه الاستطلاعات للرأي انعكست على الاستفتاءات التي أجرتها الولايات لتحليل هذا الوباء المدمر للصحة والمجتمع، فأول ولاية فتحت الباب أمام الحشيش هي كاليفورنيا التي سمحت باستخدامه لأغراض طبية عام 1996، وهي التي مهدت الطريق للولايات الأخرى وشجعتهم على السير في خطاها حتى وصل عدد الولايات إلى29ولاية، في حين أن في ولاية كولورادو صوَّت الأمريكيين في الولاية في عام 2012، ولأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية للسماح باستعمال الحشيش للترويح عن النفس ولأغراض فردية وشخصية، ثم في يناير 2014 تم افتتاح أول محل مرخص رسمياً لبيع الحشيش للجميع، والآن تسع ولايات سمحت بهذا الاستخدام، إضافة إلى العاصمة واشنطن دي سي.

وفي تقديري هناك عدة أسباب دعت معظم الشعب الأمريكي إلى السماح لتعاطي الحشيش والسماح لانتشار هذه الآفة، منها ضعف الوازع الديني وانعدام ثقافة الأخلاقيات والفضائل والضوابط، والرغبة الجامحة القصيرة الأمد نحو الترفيه والترويح وبلوغ الذروة في الشهوات المادية والرفاهية الجسدية بكافة أشكالها مهما كانت انعكاساتها على صحة الفرد والمجتمع، وتعاطي الحشيش يمثل أحد هذه الأشكال. والثاني فهو استفحال استخدام الحشيش إلى درجة خطيرة وكبيرة بلغت نسبته في عام 2015 إلى 12.9%، بحيث أن الجهات الأمنية أصبحت غير قادرة على تحمل أعباء ومتابعة اعتقال المتعاطين ومحاكمتهم وسجنهم، إضافة إلى الكلفة الباهظة لهذه العملية التي ترهق كاهل ميزانيات الولايات العاجزة، حيث أفادت دراسة نُشرت عام 2012 بأن عدد المعتقلين في 2010 بلغ 750 ألف، وبكلفة مالية وصلت إلى 3.6 بليون دولار. وفي المقابل نقلت صحيفة الواشنطن تايمس في 12 يناير من العام الحالي دراسة أُجريت حول صناعة الحشيش وقدَّرت هذه الدراسة بأن السماح لاستخدام الحشيش على المستوى الاتحادي سيُثري وينعش الاقتصاد الأمريكي ويملأ خزينة الدولة بنحو 132 مليار دولار كضرائب بحلول عام 2025، إضافة إلى خلق أكثر من  1.1مليون وظيفة جديدة.

فمما لا شك فيه بأن المخدرات بشكلٍ عام وباعتراف المجتمع الدولي وباعتراف الحكومة الأمريكية نفسها ممثلة في الرئيس ترمب الذي أعلن في أكتوبر 2017 حالة الطوارئ الصحية حول المخدرات، وبالتحديد إدمان الشعب الأمريكي على الأفيون، تُعد تهديداً مهلكاً لصحة الفرد من جهة، وتهديداً عصيباً لأمن وسلامة واستقرار المجتمع، فهل نترك قضية بهذه الخطورة، أو قضايا أخرى مشابهة للاستفتاء العام، ونتبع وسيلة الديمقراطية لتحليله أو تحريمه في المجتمع؟