الخميس، 29 أبريل 2021

هل سيكون الهيدروجين وقود المستقبل؟


يعاني المجتمع الدولي من ورطة جامعة عصيبة، ويمر منذ عقود بأزمة خانقة طويلة لا يعرف كيفية الخروج منها. فمنذ أن وضع قضية التغير المناخي في جدول الأعمال الأممي في قمة الأرض التاريخية التي عقدت في ريو دي جانيرو في يونيو 1992، أي قبل أكثر من 29 عاماً، وهو مازال يراوح في مكانه لإيجاد الحلول الجذرية الناجعة، ومازال يقف عند المربع الأول الذي بدأ منه ليواجه هذه القضية الدولية المشتركة، فكلما تقدم خطوة إلى الأمام ليقترب من الحل الأمثل، جاءت ظروف دولية، ووقعت تغيرات سياسية في بعض الدول الكبرى المتقدمة أرجعته إلى الوراء خطوات كثيرة.

 

فدول العالم حددت أهدافاً تحاول من خلالها أن تلتزم بها لتخفض من انبعاثات الغازات المتهمة بحدوث التغير المناخي لكوكبنا، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون، وتكافح التداعيات الناجمة عنه من سخونة الأرض وارتفاع مستوى سطح البحر، إضافة إلى الانعكاسات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن هذه الأهداف تصطدم بعدم واقعيتها وجدواها على الأرض، فلم يتمكن عقل الإنسان حتى الآن من إبداع العلاج الجذري المستدام والمشترك بين كل دول العالم، كما أن ضمير رجال السياسة في الدول، وبخاصة الدول الصناعية العظمى التي لها دور واسهام كبير في انبعاث الملوثات المسؤولة عن وقوع التغير المناخي، لم يصحو حتى الآن ليضع قضية التغير المناخي على رأس قائمة أولويات وبرامج الحكومات.

 

ونتيجة لهذه الاختلافات بين دول العالم على مدى العقود الماضية، فإن الظاهرة المناخية أخذت في التفاقم، والقضية زادت تعقيداتها وتشابكها مع أبعاد تنموية واقتصادية للدول. فعلى سبيل المثال، أكد مرصد مايونا لاو في هاواي (Mauna Loa Observatory) في السادس من أبريل من العام الجاري بأن تركيز ثاني أكسيد الكربون بلغ أعلى مستوى له وهو 421.21 جزء في المليون، علماً بأن التركيز في نهاية الخمسينيات كان 315 فقط، كما أن التقديرات الجديدة التي نُشرت في العشرين من أبريل من العام الجاري من وكالة الطاقة الدولية في تقريرها تحت عنوان "مراجعة الطاقة الدولية"(Global Energy Review) أفادت بأن الأزمة المناخية ستتفاقم في عام 2022 مع التعافي التدريجي من وباء كورونا، وتحرك الدول من الخروج من مياه الاقتصاد الآسنة والراكدة عن طريق ازدياد الحاجة إلى الفحم وارتفاع الطلب على الطاقة عامة، إضافة إلى ازدهار حركة النقل الجوي من جديد داخلياً ودولياً، مما يعني زيادة انبعاث غازات الدفيئة، أو غازات الاحتباس الحراري، أي الرجوع إلى ما  وضعٍ أسوأ مما كُنا عليه سابقاً قبل عصر وباء كورونا.

 

ولذلك لا بد من المجتمع الدولي أن يفكر في حلول عملية، وأدوات واقعية ومجدية اقتصادياً لإزالة هذا الكابوس المناخي المخيم على كوكبنا، ومساعدة الدول على الالتزام بتعهداتها من أجل خفض الانبعاثات بنسب محددة وفي فترة زمنية واضحة. وقد اتجهت الأنظار نحو المصدر الرئيس المسبب للتغير المناخي وهو الطاقة، ونوعية الوقود المستخدم في السيارات، والطائرات، والقطارات، والمصانع، وتوليد الكهرباء، فوجود الوقود النظيف، والمتجدد، وغير الملوث للبيئة هو حجر الأساس لمواجهة مردودات التغير المناخي والوصول إلى مجتمع خال من الكربون، أو خال من الانبعاثات المؤدية للتغير المناخي.

 

وبناءً عليه، فالتوجه العالمي انطلق نحو التحول التدريجي من الاقتصاد المعتمد على الوقود الأحفوري كالفحم، والبترول، والغاز الطبيعي إلى الاقتصاد الأخضر، أو الدائري الذي يعتمد على مصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس، والرياح، والوقود العضوي، وأخيراً طاقة الهيدروجين.

 

وهذا المصدر الجديد نسبياً للطاقة بدأ يأخذ زخماً دولياً، واهتماماً مشهوداً من الشركات الصناعية للقيام بإنتاجه على مستويات كبيرة. فلوقود لهيدرجين مقومات وخصائص تجعله أهلاً لتحقيق الأهداف العالمية المتعلقة بمجتمع خال من الكربون، ومنها أن وقود الهيدروجين له صفة "التنوع" في الاستخدام من حيث استعماله في وسائل النقل، وبخاصة السيارات، وفي توليد الكهرباء، وفي تشغيل المصانع، ووقود الصواريخ، كما أن هذا الوقود يستخدم كمادة خام لإنتاج مواد كيميائية أخرى، مثل اليوريا، إضافة إلى أن وقود الهيدروجين لا تنبعث عنه ملوثات تسبب التغير المناخي إذا تم تصنيعه من مصادر للطاقة غير الفحم والنفط والغاز الطبيعي، ولذلك يمكن الاعتماد عليه كمصدر متجدد ونظيف للطاقة ويساعد الدول على تحقيق أهدافها حول خفض الانبعاثات من غازات الدفيئة، وبالتالي تجميد الارتفاع في درجة حرارة الأرض. 

 

والآن التحدي الذي يواجه دول العالم يكمن في التقنية المستخدمة في إنتاج هذا الغاز، حيث إن التقنية لها دور ملحوظ في خفض الانبعاثات بشكلٍ عام، سواء الملوثات التي لها دور في وقوع التغير المناخي، أو الملوثات التي تفسد وتدهور جودة الهواء. فهناك عدة تقنيات مستخدمة في الوقت الحالي، منها ما يعتمد على الوقود الأحفوري لإنتاجه، وهذا غير مجدي بيئياً ومناخياً وصحياً على المدى البعيد، وهناك في المقابل "الوقود الهيدروجيني الأخضر"، وهو المطلوب عالمياً، حيث يتم إنتاج الهيدروجين من مصادر متجددة للطاقة مثل الطاقة الشمسية عن طريق التحليل الكهربائي للماء إلى الهيدروجين والأكسجين، أي لا توجد ملوثات كلياً تنبعث من عملية الإنتاج.

 

وقد تنبهت بعض دول الخليج إلى هذا المصدر المستقبلي للطاقة المبني على الهيدروجين، والذي يحقق لدولنا عدة أهداف منها التحقيق المستدام لأمن الطاقة من خلال التنوع في مصادر الوقود ومصادر الدخل وخفض الاعتماد على البترول والغاز الطبيعي، إضافة إلى تحقيق الأهداف البيئية والاقتصادية المتعلقة بخفض انبعاث الملوثات بشكلٍ عام. فقد أعلنت المملكة العربية السعودية في عدة مناسبات عن جهودها في مجال الطاقة الخضراء، وبناء مجتمعٍ متكامل ضمن مشروع مدينة نيوم يتركز على إنتاج الهيدروجين الأخضر من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، كما أن هناك تعاوناً إماراتياً يابانياً لإنتاج الوقود الهيدروجيني.

 

وفي تقديري لكي ينجح الهيدروجين في اكتساح سوق مصادر الطاقة المتجددة والخضراء، ويكون بالفعل المصدر المستقبلي الرئيس، فيجب تحقيق ما يلي:

أولاً: إنتاج الهيدروجين الأخضر، أي تصنيع الهيدروجين من مصدر متجدد للطاقة، وليس إنتاجه من الفحم أو الغاز الطبيعي، لكي نضمن أن تكون العملية مستدامة، وخالية من الانبعاثات الملوثة للبيئة، وتساعد في الوقت نفسه الدول على تحقيق أهدافها في خفض انطلاق الملوثات المسببة للتغير المناخي.

ثانياً: خفض كلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر من خلال تطوير التقنية المستخدمة حالياً، إضافة إلى تقليل كلفة إنتاج الكهرباء من الشمس ومن الرياح وغيرهما من مصادر الطاقة المتجددة والتي تستخدم لإنتاج الهيدروجين.

ثالثاً: تطوير وتحسين القضايا المتعلقة بالأمن والسلامة، من حيث التخزين الآمن للوقود الهيدروجيني، حتى نتجنب الانفجارات التي وقعت من قبل. 

                          

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

ملوثات جديدة تغزوا أجسادنا

مازلتُ أتذكر ذلك اليوم من عام 1976 عندما كنتُ طالباً في جامعة تكساس في مدينة أوستن، عاصمة الولاية، فبالرغم من مضي أكثر من 45 سنة على ذلك اليوم، إلا أنني لم أنساه حتى الآن، وكأنه حدث البارحة. ففي ذلك اليوم ذهبتُ إلى مجمع تجاري في المدينة اسمه "هاي لاند مول"، وهناك أثناء تجوالي في المجمع شاهدتُ في وسط المجمع حشداً غفيراً من الناس، وكما يقول المثل: "حشر مع الناس عيد"، فذهبتُ إلى موقع التجمع، وإذا بي أرى في وسط هؤلاء الجمع رجلاً يطبخ البيض على مقلاة خاصة "سحرية"، وهو يطبخ البيض بدون إضافة قطرة من الزيت، كما يُزيل البيض من المقلاة دون أن يلتصق بها كلياً، ودون أن يترك أي أثرٍ لبقايا البيض، ودون أن تتوسخ المقلاة كلياً، فلا حاجة لأي نوعٍ من أدوات التنظيف. فهذه العملية التي رأيتُها أمامي كانت بالنسبة لي وللجمهور ضرباً من السحر، وأعجوبة علمية جديدة لم نسمع عنها من قبل، وتطوراً وحدثاً تاريخياً وثورة انقلابية في مجال طبخ المأكولات التي كانت تحتاج إلى الزيت لإعدادها، أو تنظيف الأواني بعد الطبخ.

 

والسبب الذي يجعلني أتذكر هذه الحادثة التي شاهدتها في المجمع، هو أن هذه المادة السحرية التي تُغلف المقلاة من الداخل، أو معدات الطبخ الكثيرة بشكلٍ عام، تُشكل الآن تهديداً خطيراً لصحة الإنسان في كل أنحاء العالم وصحة الحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني. فالنسبة لي، فهذه الحادثة كأنها غرست البذرة الخبيثة الأولى في المجتمع البشري، وروت هذه البذرة الفاسدة بمياه هذه المادة السحرية عقوداً طويلة من الزمن، حتى أصبحت شجرة ناضجة كبيرة امتدت جذورها في باطن الأرض، وارتفعت فروعها الخبيثة في عنان السماء، فتغلغلت طوال هذه السنوات ببطء وبشكلٍ تدريجي في كل أعضاء بيئتنا وفي أجسادنا.

 

فهذا البذرة والشجرة أعطت ثمارها حنظلاً مُراً قاسياً يدمر صحة الحياة الفطرية ويهلك أعضاء أجسادنا، وهذه الحالة التي وصلنا إليها أكدتها الدراسات والأبحاث العلمية المخبرية والميدانية التي سبرت غور هذه الحالة الكارثية، وتابعتْ وراقبتْ عن كثب تحركات هذه المادة السحرية، وانتقالها عبر السلسلة الغذائية من وسط بيئي إلى آخر، ثم إلى خلايا أعضاء أجسادنا.

 

فالتهديد من هذه المادة واقعي وليس نظري، وهو موجود أمامنا وتجذر في كل أعضاء بيئتنا، وبخاصة أننا لا نتحدث عن مادة واحدة فقط، أو مركب كيميائي واحد فقط، وإنما هناك نحو 4000 مادة كيميائية من هذا الصنف الأعجوبة استُخدم، ومازال يستخدم في منتجات كثيرة نستعملها يومياً ولا تعد ولا تحصى، منها أدوات الطبخ والمعروفة بالتِيفَال، ومنها الأثاث المنزلي والمكتبي، ومنها مواد إطفاء الحريق، ومنها معجون الأسنان ومنتجات التبرج والزينة، ومنها غشاء الأوراق الخاصة والعلب.

 

فخواص هذه المركبات وصفاتها "الفريدة والمميزة" جعلت الإنسان يُفرط في استخدامها في تطبيقات كثيرة وفي مجالات متعددة، فهي عبارة عن مركبات عضوية تحتوي على أعدادٍ كبيرة من عنصر الفلورين، ويُطلق عليها إسم بي إف أي إس(PFAS)، وهذا العنصر عندما يرتبط بالكربون يُكوِّن رابطة قوية جداً لا تتحلل، ولا تنكسر، ولذلك فهذه المواد عندما تدخل في البيئة لها القدرة على الثبات والاستقرار وعدم التحلل، مما يجعلها تتراكم وتتضخم مع الوقت في السلسلة الغذائية، ويزيد تركيزها في أجسام الكائنات الحية.

 

وهناك الكثير من الدراسات التي أُجريت حول وجود هذه الملوثات الجديدة في مكونات البيئة برمتها وفي جسم الإنسان والحياة الفطرية على حدٍ سواء، كما أشارت هذه الأبحاث إلى أن التركيز في ارتفاع مطرد مع الزمن، وسأذكر البعض منها على سبيل المثال لا الحصر. فهناك دراسة صينية منشورة في مجلة تقنية وعلوم البيئة في السابع من أغسطس عام 2017 تحت عنوان: "التقرير الأول حول وجود والتراكم الحيوي لأحد الملوثات العضوية متعددة الفلورين"، حيث تم اكتشافها في مياه نهر(Xiaoqing) بالقرب من المصنع الذي ينتج هذه المواد في مدينة(Huantai County)، فقد بلغ التركيز في مياه النهر 68500 نانوجرام من الملوثات العضوية متعددة الفلور في اللتر الواحد من ماء النهر، كذلك في أسماك النهر وصل إلى 1510 نانوجرامات لكل مليلتر، وفي الإنسان 2.93 نانوجرام لكل مليليتر. ودراسة صينية أخرى نُشرت في 26 مارس 2021 في المجلة نفسها تحت عنوان: "المركبات العضوية متعددة الفلور في غبار البيئات الخارجية والداخلية في الصين"، حيث تراوح التركيز في الغبار الخارجي من 105 إلى 321 نانوجراماً لكل جرام، وفي الغبار في البيئة الداخلية تراوح من 185 إلى 913. كذلك أفادت دراسة في مجلة علوم وتقنية البيئة في الثاني من أبريل 2021 تحت عنوان: "المركبات العضوية متعددة الفلور تنتقل من المياه الجوفية إلى الأنهار في ولاية نورث كارولاينا الأمريكية"، بأن تركيز هذه الملوثات في المياه الجوفية تراوح بين 20 إلى 4773 نانوجراماً في اللتر، وفي مياه الأنهار من 426 إلى 3617. كما أفادت دراسة أخرى منشورة في 22 يوليو 2020 في المجلة نفسها عن وجود هذه الملوثات في دم الإنسان في هذه الولاية الأمريكية، حيث بلغ معدل التركيز 25.3 نانوجرام في المليلتر، كما تم اكتشاف هذه الملوثات في الدم في المواطن الإيطالي في منطقة فينيتو(Veneto Region) وبمعدل تركيز بلغ 44.4 نانوجرام لكل مليليتر، حسب الدراسة المنشورة في 18 فبراير 2020 في مجلة شؤون صحة البيئة، مما يثبت انتقال وغزو هذه المجموعة من الملوثات جسم الإنسان.

 

كذلك نُشرت دراسة في مجلة علوم وتقنية البيئة في العدد الصادر في 11 يونيو 2020 حول العلاقة بين تعرض المرأة الحامل للملوثات العضوية متعدد الفلور وجنس هرمونات الجنين في مدينة شنغهاي الصينية، وأفادت بأن هذه الملوثات تُعد سامة للجنين وقد تسبب له مشكلات في النمو، ودراسة أخرى منشورة في المجلة نفسها في عام 2017 قامت بقياس مستوى هذه الملوثات في دم الأطفال في مدينة بوسطن الأمريكية، ودراسة أخرى قاست مستوى هذه الملوثات في مياه السواحل في محيطات وبحيرات مختلف دول العالم والمنشورة في مجلة علوم وتقنية البيئة في الأول من مارس من العام الجاري، كذلك نُشرت دراسة حول تعرض الطفل الرضيع لهذه الملوثات عن طريق حليب الأم، والصادرة في 20 أغسطس 2015 في مجلة علوم وتقنية البيئة، أي أن أطفال المستقبل ستكون أجسادهم مسمومة بهذه الملوثات.

 

وختاماً فهناك بعض الاستنتاجات العامة التي أودُ نقلها لكم حول هذه الملوثات الجديدة، كما يلي:

أولاً: الملوثات الموجودة في المنتجات الاستهلاكية التي نستخدمها يومياً تصل إلينا خلال المكونات البيئية، ومن خلال مياه المجاري المعالجة التي تصب في المسطحات المائية فتنتقل إلى الأحياء البحرية، ثم إلى الإنسان، كما هو الحال بالنسبة لهذه الملوثات العضوية متعددة الفلورين.

ثانياً: هذه الملوثات استغرقت عقوداً طويلة من الزمن حتى غزت كل عناصر البيئة ثم انتقلت إلينا بطرق مباشرة وغير مباشرة.

ثالثاً: تركيز هذه الملوثات في الأوساط البيئية وفي جسم الإنسان في ازدياد مع الزمن.

رابعاً: هناك حاجة لدراسات حول العلاقة بين وجود هذه الملوثات في بيئتنا وأجسادنا وتأثيرها الصحي علينا، إضافة إلى الأمراض التي من الممكن أن نصاب بها نتيجة لذلك.

 

والأيام القادمة ستكشف لنا المزيد من المفاجئات غير السارة عن هذه الملوثات الجديدة علينا، وملوثات أخرى ستكشف عن نفسها لاحقاً.

الاثنين، 19 أبريل 2021

لا تضعوا ثقتكم كلياً في شركات الأدوية!

أطلقَت الطبيبة الفرنسية المختصة في أمراض الجهاز التنفسي، وبالتحديد الرئة، إريني فراشون(Irène Frachon) من مستشفى(Brittany) في عام 2007 صفارة الإنذار الصحية، معلنة اكتشاف كارثة صحية نزلت على الآلاف من الفرنسيين عند تعاطيهم لدواء اسمه بنفلوركس(Benfluorex)، ويُباع تحت مسمى مديتر(Mediator)، فولَّعت بذلك الشرارة الأولى لأكبر فضيحة مجتمعية وصحية وقضائية مُدوية لم تنته تداعياتها وآلامها إلا في 29 مارس من العام الجاري، بعد أن أصدرت المحكمة الباريسية قرارها وحكمها النهائي، أي بعد معاناة مارا ثانوية استمرت قرابة 14 عاماً.

فالمشهد الأول لهذه الطامة الكبرى التي نزلت على فرنسا ينطلق من محكمة في العاصمة الفرنسية باريس، وبالتحديد في سبتمبر 2019 عندما فتحت هذه المحكمة أبوابها لقبول القضية، والاستماع إلى أكثر من 6500 مدعي من الذين اشتكوا من هذا الدواء وتضرروا صحياً من تداعيته وآثاره الجانبية، حيث شارك فيها قرابة 400 محامي يمثلون كافة الأطراف المتورطة في هذه النائبة الصحية، وبالتحديد كانت القضية بين ثاني أكبر شركة منتجة للأدوية في فرنسا وهي شركة مختبرات سيرفير(Les Laboratories Servier ) من جهة، والمتهمة بقتل ما يقارب من 2000 فرنسي ومرض عشرات الآلاف، والطرف الحكومي المختص بالسماح بالأدوية وهي الوكالة القومية للأدية(national medicines agency (ANSM)) من جهة ثانية، إضافة إلى الشعب الفرنسي، والتحديد قرابة خمسة ملايين فرنسي من الذين تعاطوا الدواء وتجرعوا كأس الموت البطيء أو المرض العضال في الفترة من عام 1976 إلى نوفمبر 2009 عندما تم سحب الدواء من الأسواق.

وأما المشاهد الأخرى فكلها تقع في داخل أروقة المحاكم، ومن خلال جلساتها التي استمرت حتى يوليو 2020، ثم المداولات والنطق بالحكم في 29 مارس 2021.

وأثناء الجلسات الساخنة والمؤلمة لأقرباء الموتى من الدواء، وللذين عانوا من انعكاساتها الجانبية على صحتهم، انكشفت الكثير من الحقائق، وظهرت الفضائح التي يجب أن نقف عندها لنرى أمام أعيننا وتحت أسماعنا الجرائم التي ارتكبتها هذه الشركة المصنعة للدواء، وكذبها وتحايلها على الناس، وجشعها لجمع المال على حساب الصحة العامة ورفاهية وسلامة الناس.

فقد كشفت جلسات المحكمة أن هذا الدواء بقي في الأسواق الفرنسية قرابة 33 عاماً، ومنذ أن دخل الأسواق كان يستخدم كعلاج لمرضى السكري من النوع الثاني، وبالتحديد مع البدناء الذين يعانون من الوزن الزائد، كما تم وصفه من قبل الأطباء، ومن غير دليل صحي ومن غير تجارب سريرية، لعلاج حالات التخفيف من الوزن وإضعاف شهية الإنسان نحو الأكل حتى لا يزيد وزنه.

وخلال تلك السنوات انكشفت العديد من الحقائق الطبية السريرية التي كانت من المفروض أن تدعو الشركة إلى سحب الدواء مبكراً قبل عام 2009، ولكن بالرغم من وجود الأدلة العلمية على الآثار الجانبية والمضاعفات التي يسببه للقلب إلا ان الشركة استمرت في بيع الدواء، والتستر على هذه المعلومات الموثقة حول أضرار الدواء، وتجاهل الدراسات الميدانية التي انكشفت حول هذه القضية. ومن هذه الأدلة سحب الدواء من أسواق بعض الدول الأوروبية مثل سويسرا وإسبانيا وإيطاليا في الفترة ما بين عام 1997 و 2004، إضافة إلى سحبه في التسعينيات من القرن المنصرم من أسواق الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن تأكد بأن أضراره تفوق فوائده، وأن آثاره الجانبية تزيد على منافعه. كذلك من الإثباتات الطبية على إفساد الدواء للقلب هي الدراسات الإكلينيكية التي قامت بها الطبيبة الفرنسية التي أطلقت بكل جرأة وشجاعة صفارة الإنذار، وأكدت بأن هناك علاقة بين أخذ الدواء والإصابة بأمراض القلب، وبالتحديد المتعلقة بصمامات القلب(heart valve disease).

وقد قامت رئيسة المحكمة الجنائية بإصدار حكمها في وثيقة مكونة من 1988 صفحة، ولخصت قرارها النهائي قائلة:" بالرغم من معرفة شركة "سيرفير" للمخاطر الناجمة عن استخدام الدواء لسنوات طويلة، إلا أنها لم تتخذ أبداً الإجراءات الضرورية لمنع هذه المخاطر، ولذلك فهي مذنبة بخداع الناس"، كما صرحت بأن تجاوزات هذه الشركة غير المسؤولة "ضعَّفتْ الثقة بالنظام الصحي". وبناءً عليه فقد أُدينت الشركة بهذه الفضيحة الطبية الأخلاقية بتهمتين، الأولى هي "القتل غير العمد"، والثانية "التحايل والغش"، كما تم تغريم الشركة مالياً بمبلغ قرابة  2.7 مليون يورو، أو نحو 3.2 مليون دولار، إضافة إلى الغرامة التي فُرضت على الوكالة الحكومية للأدية والتي بلغت 303 آلاف يورو لتغطيتها ومشاركتها الشركة الفاسدة على السكوت على مخاطر الدواء، وفشلها في اتخاذ الإجراءات الحازمة والعاجلة لدرء الضرر الصحي عن الناس، كما تم الحكم بالسجن على نائب رئيس شركة صناعة الدواء.      

فهذه الحالة الفرنسية لممارسات شركات الأدوية اللاأخلاقية والفاسدة ليست فريدة من نوعها، وليست هي الأولى، ولن تكون حتماً الأخيرة، فقد نشرتُ مقالات كثيرة أفضح فيها ثقافة هذه الشركات العملاقة المتجذرة في تاريخها المبني على الربح أولاً وأخيراً وعلى حساب كل شيء آخر، سواء أكان صحة الناس، أو صحة وسلامة البيئة، ومنها المقال في أخبار الخليج في السادس من نوفمبر 2020 تحت عنوان: "الاعتراف بالذنب"، حيث اعترفت شركة "بُوردو فَارما"( Purdue Pharma) في 21 أكتوبر 2020 بذنبها ودورها في إدمان الشعب الأمريكي على حبوب الأفيون المسكنة للألم والمعروفة بأوكسي كونتين(OxyContin) وموت مئات الآلاف بسبب الإدمان عليها، وذلك من خلال التسوية التاريخية التي توصلت إليها مع وزارة العدل وبمبلغٍ كبير جداً حطم كافة الأرقام القياسية، وكسر موسوعة جينيس للأرقام القياسية المتعلقة بالغرامات التي تؤخذ على الشركات المخالفة للأنظمة والقوانين الاتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو دَفْع مبلغ وقدره 8.34 بليون دولار أمريكي، فأقرتْ بذلك بجرائمها المتعمدة التي ارتكبتها ضد الشعب الأمريكي في بيانٍ مقتضب جاء فيه: "الشركة تُعبِّر عن أسفها العميق، وتتحمل كامل المسؤولية عن ممارساتها الخاطئة التي جاء تفصيلها من قبل وزارة العدل". وهذه الشركة لم تعمل لوحدها فقد كانت شريكة في هذه الجريمة مع شركة استشارية كبيرة تُقدم لها الأفكار والحيل الشيطانية من أجل تحقيق المزيد من الكسب الحرام والتربح على حساب صحة الشعب، وهي شركة مكنزي التي وافقت أيضاً على تسوية نهائية مع وزارة العدل في 23 مارس من العام الجاري، ودفع مبلغ وقدره 619 مليون دولار، علماً بأن هذه الشركة الفاسدة في استشاراتها كانت تعمل كمستشارة لعدة دول خليجية وعربية.

واليوم نشهد نوعاً آخر من الممارسات اللاإنسانية من شركات الأدوية والعقاقير، وتتمثل في احتكار لقاح كورونا في الدول الغربية المتقدمة والغنية خاصة وتلقيح الشعب الغربي أولاً، ثم عرقلة أية جهود من الدول النامية والفقيرة ترمي إلى إنتاج اللقاح في هذه الدول، كما أكدت على ذلك محطة الـ بي بي سي عندما كشفت عن تقرير سري، ووثيقة مسربة حَصلتْ عليها في 20 مارس من العام الجاري. وهذه الوثيقة تؤكد بأن هناك دولاً غربية غنية ومتقدمة من ضمنها بريطانيا العظمى، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي تعمل بشكلٍ جدي على عرقلة تصنيع وإنتاج اللقاحات في الدول النامية، وتقف حجر عثرة أمام الجهود التي تبذلها الدول الفقيرة والنامية عن طريق المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة الدولية لتحويل جزءٍ من إنتاج وصناعة اللقاح إلى دولها من أجل التسريع في الإنتاج، وتلقيح شعوبها قبل فوات الأوان، ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى مقالي تحت عنوان:" معركة احتكار اللـقـاح المـضاد لكورونا" والمنشور في الأول من أبريل في أخبار الخليج.

فهذه الشركات تاريخياً لا ترقُب في أحدٍ إلا ولا ذمة، ولا يهمها سوى المصلحة العليا للشركة، وهي الربح الوفير، والكسب الغزير، وبأسرع وقت ممكن.

السبت، 17 أبريل 2021

من المتهم في قتل رمز أمريكا؟

منذ أكثر من عقدين من الزمان والرمز القومي للولايات المتحدة الأمريكية يحتضر، ويعاني بشدة من سكرات الموت العصيبة، فأعداد كبيرة من هذه النسور وُجدت وهي تعاني من أعراضٍ مرضية غربية وفريدة من نوعها، فقد كانت تسقط جماعات من أعالي السماء على الأرض كسقوط قطرات المطر وهي مكسورة الأضلاع ومحطمة الجناح، ومُصابة بالشلل النصفي، والتشنج، ثم بعد سويعات تلقى نحبها فتموت موتاً جماعياً بسبب هذه الأعراض الغامضة.

 

 

وهذه الظاهرة المرضية التي كانت تُصيب هذا النوع من النسور المعروفة بالنسر الأصلع، وكادت أن تقضي عليها كلياً فتضعها ضمن قائمة الكائنات الحية المنقرضة، حيَّرت كبار العلماء لسنواتٍ طويلة، وجعلتهم يقضون السنوات العجاف في الميدان وفي المختبرات لإيجاد حلٍ علمي وطبي موثوق لهذا اللغز العصيب الغامض، بل وأنفقت الولايات المتحدة الأمريكية الملايين من الدولارات لسبر غور هذه الحالة المرضية القاتلة الفريدة حفاظاً على هذا الرمز الأمريكي للحياة الفطرية، وحماية له من الزوال من على وجه الأرض.

 

ويأتي المشهد الأول لهذه المجازر الجماعية للنسر الأصلع في عام 1994، وبالتحديد من بحيرة دي جراي(DeGray Lake) في مدينة كراك(Clark) بولاية أركنساس، حيث شاهد الناس 29 جثة هامدة لهذا الرمز الأمريكي، ثم تكرر هذا المشهد عدة مرات، ومنها أيضاً في هذه الولاية وموت 70 نسراً، وهكذا انتشرت مثل هذه المشاهد المحزنة والمؤلمة الغامضة والغريبة في 31 ولاية من ولايات جنوب شرق أمريكا.

 

وهذه الصور الحية النادرة انتقلت إلى جميع ولايات أمريكا، بل وانتقلت إلى كل أسرة وبيت، وإلى البيت الأبيض خاصة عندما كان بل كلينتون رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، أي منذ قرابة 27 عاماً والعلماء مشغولون كلياً لفك شفرات هذا اللغز المحير، وسبر غور هذه الظاهرة القاتلة والتعرف عن كثب على مصادر وأسباب هذا الموت الجماعي لهذا النسر العظيم.

 

وبعد جهود مضنية استغرقت أكثر من عقدين من الزمن، وبعد بحوث ماراثونية متعبة وشاقة ومعقدة شارك فيها المئات من أفضل علماء أمريكا وأكثرهم خبرة في أمراض الطيور وفي علم السموم والكيمياء والأحياء، توصل فريق العلماء إلى حل هذا اللغز الشائك وتعرف بدقة على أسباب وملابسات الموت الجماعي للنسور في أكثر من 31 ولاية، حيث نشر الباحثون اكتشافاتهم هذه في مجلة العلوم المرموقة(Science) في 26 مارس 2021 تحت عنوان:" اصطياد قاتل النسور: بكتيريا تُفرز ملوثات سامة للأعصاب تسبب اختلال في النخاع الشوكي". فالخطوة الأولى في هذه الأبحاث، والاكتشاف الأول كان بالنسبة لنوع المرض الفريد الذي أصاب النسور، وهو يعرف الآن بمرض اعتلال واختلال النخاع الشوكي(Vacuolar myelinopathy (VM))، وهو مرض عصبي قاتل لم يعرفه العلماء قبل هذه الحالات التي نزلت على النسور. ومن أعراض المرض الشلل، والتشنج، وبروز تجاويف وفراغات في المادة البيضاء في المخ وفي العمود الفقري. ثم جاء الاكتشاف الثاني وتمثل في أن هذا المرض العضال أصاب كائنات مائية حية أخرى تعيش في المسطحات العذبة على حدٍ سواء، مثل الأسماك، والزواحف، والضفادع، والسلاحف، إضافة إلى طيور أخرى، وبالتحديد طيور الغرة السوداء الرمادية اللون(coots) والتي تعتبر الغذاء الرئيس للنسر الأصلع.

 

وأما الاكتشاف الثالث فقد أجاب عن السؤالين التاليين: ما مصدر هذا المرض الذي أصاب هذه الحيوانات المائية؟ ومن هو المتهم في الإصابة بالمرض؟

لقد اتجهت أعين العلماء واهتمامهم نحو نوعٍ من الأعشاب المائية، أو الطحالب التي تعيش في المسطحات المائية العذبة والتي تتغذى عليها كل الكائنات المصابة بهذا المرض، وهي عشبة خضراء غير أصيلة، وغازية لهذه البيئة، حيث تم إدخالها في الستينيات من القرن المنصرم إلى هذه البيئة المائية وتُعرف علمياً باسم(Hydrilla verticillata)، حيث اكتشف العلماء بأن أوراق هذه النبتة الواسعة الانتشار تُعتبر حاضنة مثالية، وبيئة مناسبة جداً لنمو وتكاثر نوع سام من البكتيريا الزرقاء(cyanobacterium)، والتي يُطلق عليها علمياً اسم( Aetokthonos hydrillicola)، وهذه البكتيريا ومع وجود عنصر البرومين في المياه العذبة تُكوِّن مادة سامة وخطرة تؤثر على الجهاز العصبي وتحتوي على خمس ذرات من عنصر البرومين ويُطلق عليها اسم(aetokthonotoxin (AETX)) وعلمياً يعرف بـ(pentabrominated biindole alkaloid). ومع إجراء التحاليل المخبرية تأكد للعلماء أن المتهم في القتل الجماعي للنسور وغيرها من الحيوانات والطيور المائية والإصابة بالمرض هو هذه المادة السامة للأعصاب التي تنتجها البكتيريا التي تنمو على الأعشاب المائية، حيث إن هذه المادة لها القدرة على التراكم في السلسلة الغذائية من جهة، والتركيز في أجسام الكائنات الحية من جهة أخرى، أي أنها تنتقل عبر السلسلة الغذائية من كائن حي إلى آخر.

 

ومع تتبع السلسلة الغذائية للنسر الأصلع تم كشف النقاب كلياً، وإزالة الستار عن سر الموت الجماعي للنسور، فطيور الغرة تأكل العشبة المائية والكائنات المائية الصغيرة الأخرى كالسلاحف والضفادع التي تكون قد تلوثت وتسممت بالمادة التي تنتجها البكتيريا، وهذه الطيور التي تلوثت وتسممت بهذه المادة الكيميائية تُعتبر الغذاء الرئيس للنسر الأصلع، مما أدى أيضاً إلى تسممه وإصابته بالمرض ثم موته بشكل مفاجئ وجماعي.

  

فهذه القصة الواقعية للموت الجماعي للنسر الأصلع خاصة، والكائنات المائية الأخرى عامة تُعلمنا الكثير من الدروس والعبر، منها ما يلي:

أولاً: لا يريد الإنسان أن يستفيد من هفواته وزلاته، ولا يريد أن يتعظ من تجاربه وخبراته، فالدافع الرئيس والحافر الأساس لكل أعماله وتحركاته مازال هو المال، فحُبه لكنز الذهب والفضة، وجشعه لجمع الدولار والدينار أعماه كل الجوانب والمردودات الأخرى لبرامجه وأنشطته التنموية. فالإنسان يجهل، أو يتجاهل بأن أعضاء مكونات البيئة مرتبطة مع بعض بوشائج معقدة وقوية، بحيث إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الجسد البيئي بالسهر والحمى، ولذلك فكل ما ُيلقيه في مكونات البيئة من هواء، وماء، وتربة لا يذهب هباءً ويفنى من الأرض فينتهي ويزول، وإنما يرجع إليه مرة ثانية إما بشكلٍ مباشر عندما يتعرض لهذه الملوثات، أو بشكلٍ غير مباشر بعد فترة من الزمن عبر السلسلة الغذائية.

 

ثانياً: على الإنسان أن لا يعبث ببيئته إلا بعلمٍ وسلطان، فلا يتدخل في مكونات البيئة إلا وهو يدرك نتائج عمله وتدخله، ولا ينقل كائناً حياً من بيئة محددة إلى بيئة أخرى غريبة عليه وعلى الكائنات الحية التي تعيش فيها، فيسبب خللاً في النظام البيئي ويؤدي إلى مشكلات بيئية تنعكس عليه بشكل مباشر، كما حدث بالنسبة للنسر الصلع عندما أدخلت يد الإنسان كائناً نباتياً غير أصيل وغريب على تلك البيئة المائية فتسبب في وقوع قضية معقدة لم تُحل إلا بعد أكثر من 27 عاماً من المعاناة الجسدية والعقلية والنفسية وإنفاق الأموال الكثيرة.  

  

وبعد كل هذا، لا أظن بأن الإنسان سيعتبر ويتعلم من أخطائه، فالكوارث والحوادث البيئية تنزل علينا منذ أكثر من قرن، وهي مستمرة حتى يومنا هذا؟

الاثنين، 12 أبريل 2021

جوازان لكل مسافر

فكرة جديدة فرضت نفسها أمام العالم لمواجهة واحدة من أكبر وأعقد الكوارث الصحية والأوبئة المرضية التي نزلت على بني البشر طوال تاريخه الطويل. فموت قرابة ثلاثة ملايين إنسان، وإصابة 131 مليون حتى الساعة كانت كفيلة بإثارة الكثير من الوسائل والأدوات الإبداعية عند العلماء والمختصين ورجال السياسة للتخفيف من حدة هذه الطامة الكبرى التي نزلت على الإنسان فجأة دون سابق إنذار، وأخذته على حين غرة من حيث لا يتوقع ولا يحتسب.

 

ولكن هذه الفكرة منذ أن طُرحت قبل زهاء شهرٍ واحد، ما يزال الغموض يحيط بها، فلم تنضج بعد لتتحول إلى فكرة واضحة المعالم عند الجميع، فهي تمر الآن بمرحلة التنظير، والتطوير، والنقد والحوار المحتدم من قبل الجهات المعنية بالموافقة عليها وتنفيذها. 

 

فتحولت هذه الفكرة التي تبدو بسيطة لأول وهلة إلى قضية معقدة وشائكة تدخل فيها الجوانب المتعلقة بحقوق الإنسان، وخصوصية الفرد، والمبادئ الدستورية للدول المتعلقة بحرية الرأي وعدم التمييز والمساواة بين الناس، وهذه القضية  الخلافية بين المعنيين حول هذه الفكرة التي تدور حول إصدار وثيقة معينة تفيد بأن حامل هذه الوثيقة قد أخذ اللقاح تتمثل في النقاط التالية:

أولاً: ليس هناك إجماعاً دولياً، أو حتى قومياً على مستوى الدولة الواحدة كالولايات المتحدة الأمريكية حول الاسم الرسمي لهذه الفكرة، فهل هي ستكون تحت مسمى "جواز سفر لقاح كورونا"، أو "جواز سفر فيروس كورونا"، أو "شهادة التلقيح ضد كورونا"، أو غير ذلك من المسميات؟

ومن جانبٍ آخر هناك السؤال حول مجال ونطاق استخدام هذه الوثيقة، فهل ستستخدم كجواز السفر الصحي للانتقال بين الدول؟ أو أنها وثيقة وشهادة صحية حول فيروس كورونا للسماح للفرد في الدخول إلى المرافق العامة في الدولة الواحدة، كالملاعب، والمطاعم، والمدارس والجامعات، وغيرها من التجمعات؟

ثانياً: هناك جدال محتدم حول "المبدأ" من إصدار الجواز أو هذه الوثيقة والشهادة، فهل يتفق مع أسس وقواعد حقوق الإنسان المتعلقة بالخصوصية، والتي من المفروض أن يتمتع بها كل إنسان، وبالتحديد هنا في مجال عدم التعدي على خصوصية الحالة الصحية للإنسان، وخصوصية المعلومات الصحية المتعلقة بالأفراد. وهذه القضية بالذات أثارت الخلافات الدستورية في البلد الواحد كالولايات المتحدة الأمريكية. فالرئيس الأمريكي جو بايدن أبدى تحمسه لإصدار مثل هذا الجواز، ولكن من خلال التنسيق والتعاون مع القطاع الخاص، والعمل على وضع المعايير والاشتراطات والتوجيهات العامة المتعلقة بهذه الوثيقة، حيث إن المعلومات الشخصية الصحية للأفراد لا تحتفظ بها الحكومة الاتحادية فهي موجودة على مستوى الولايات.

وفي المقابل أكد بعض قادة السياسة في بعض الولايات، وبخاصة من الذين ينتمون للحزب الجمهوري تحفظهم، أو رفضهم قطعياً على اصدر هذا الجواز لتجاوزه حدود الحرية الشخصية، والتعدي على المعلومات الصحية الخاصة بكل فرد. فعلى سبيل المثال، أصدر حاكم ولاية فلوريدا في الثاني من أبريل أمراً تنفيذياً يؤكد فيه حماية حقوق الأفراد الصحية الشخصية، حيث منع فيه إصدار جواز سفر اللقاح الخاص بفيروس كورونا، كما جاء في الأمر بأن القانون لا يلزم أحداً ولا يفرض عليه أخذ اللقاح وأن سجل اللقاح والمعلومات الخاصة به تُعد معلومات صحية خاصة. ولكن في الوقت نفسه حسب المقال في مجلة النيوزويك في الثاني من أبريل، فقد أكد على أن عدة مدن مثل نيويورك ولاس فيجس استحدثت جواز، أو وثيقة السماح والدخول في مرافق جماهيرية محددة، وأُطلقت عليها (Excelsior Pass).

أما في المملكة المتحدة، فقد أعلن بوريس جونسون في الثاني من أبريل دعمه لفكرة الجواز، أو الشهادة الصحية، وأَطلقَ عليها "شهادة حالة كوفيد"( Covid status certification)، فهي حسب تصريحات رئيس الوزراء البريطاني خطوة نحو رفع الحجر عن الأفراد والجماعات وتمهد الطريق للسماح بالفتح التدريجي والجزئي للاقتصاد والرجوع بالأوضاع إلى طبيعتها إلى حالة ما قبل كورونا بالرغم من بعض التحفظات المبدئية والأخلاقية. وهذه السياسة المتوازنة والتوفيقية بين حماية صحة الناس والتماشي مع مبادئ حقوق الإنسان، اتبعها الاتحاد الأوروبي، حيث يعمل حالياً على إصدار "شهادة رقمية خضراء"( Digital Green Certificate) تهدف إلى تسهيل الحركة الصحية الآمنة للناس بين دول الاتحاد وتتضمن معلومات عن فحص كورونا والتلقيح ضد المرض.

وعلى مستوى المنظمات الأممية، فقد أبدت منظمة الصحة العالمية قلقها بشأن هذا الجواز، حيث أشارت إلى أنه يخلق حالة من التمييز وعدم المساواة والعدالة في التعامل مع البشر على المستوى القومي والدولي، كما يتدخل في خصوصية الفرد والحرية الشخصية من حيث الإفصاح عن الوضح الصحي والحالة المرضية التي يعاني منها. فاللقاح، كما هو معلوم غير متوافر للملايين في دول العالم، وبخاصة الدول النامية والفقيرة، أي أن جواز فيروس كورونا قد يُعمق مثل هذه الحالة من التمييز، ويمنع الفقراء فقط من الحركة والسفر بين الدول.

ثالثاً: والنقطة الخلافية الثالثة تدور حول محتوى هذا الجواز، أو الوثيقة والشهادة الصحية والجانب الأمني المتعلق بسرية المعلومة، إضافة إلى شكلها وتاريخ انتهاء العمل بها أو تاريخ صلاحيتها، والجهة المعنية والمخولة بإصدارها والتحقق من المعلومات الواردة فيها. كذلك من النقاط التي تحوم حول هذه الفكرة هي هل تكون جوازاً رقمياً على أحد تطبيقات الهواتف النقالة فتكون عندئذٍ ذو كلفة عالية لارتفاع أسعار الهواتف الذكية فتخلق مشكلة اجتماعية واقتصادية للطبقة الفقيرة، أو تكون جوازاً ورقياً كجواز السفر العادي المعروف لدى الجميع؟

ولذلك من الواضح أن هناك أغلبية دولية تدعم فكرة إصدار وثيقة صحية تحت مسمى جواز، أو شهادة، أو بطاقة صفراء، أو غير ذلك من المسميات المختلفة التي تهدف إلى توفير الشعور بالأمان الصحي لدى الناس والإحساس بالطمأنينة أثناء السفر، أو التنقل، أو المشاركة في المناسبات الجماهيرية، كذلك فإن مثل هذه الوثيقة تمهد الطريق بشكلٍ تدريجي أمام فتح كافة الأنشطة الاقتصادية، علماً بأن هذه الوثيقة لن تكون بديلة عن الالتزام بالاحتياطات الشخصية والجماعية المتمثلة في لبس الكمامة، والتباعد الاجتماعي، وتجنب البيئات الداخلية المغلقة ضعيفة التهوية والمكتظة بالناس، فكل هذه الإجراءات معاً هي التي تضمن الحصانة والمناعة الجماعية من المرض.

 

الجمعة، 9 أبريل 2021

ماذا يعني ارتفاع مستوى سطح البحر بالنسبة للبحرين؟


خطورة قضية التغير المناخي المتمثلة في سخونة الأرض وارتفاع حرارتها تكمن أساساً في التداعيات التي تنجم عنها وفي المردودات المتشابكة والمعقدة التي تتمخض عن هذا الارتفاع في حرارة كوكبنا.

 

وهناك انعكاسات وتهديدات كثيرة تنكشف كل يوم بسبب التغير المناخي الواقع على الكرة الأرضية، وآخرها الارتفاع السريع والمتزايد في مستوى سطح البحر في كل دول العالم، والذي يظهر بشكلٍ جلي وخطير على المدن الساحلية وعلى سكان هذه المدن والمرافق الموجودة على هذه السواحل.

 

فقد أكدت آخر دراسة منشورة في الثامن من مارس من العام الجاري في مجلة طبيعة التغير المناخي(Nature Climate Change) تحت عنوان: "تقييم دولي للانخفاض والتغير النسبي في مستوى البحر"، والتي ركزت بدرجة كبيرة على واقعية سرعة ارتفاع مستوى سطح البحر، بأن المعدل النسبي العالمي لارتفاع مستوى سطح البحر يُقدر بنحو 2.5 مليمتر في السنة خلال العشرين سنة الماضية، كما أفادت نتائج الدراسة بأن معدل مستوى سطح البحر يرتفع أسرع أربع مرات في المدن الساحلية مقارنة بغيرها، أي أن ارتفاع سطح البحر في السواحل أشد وأكبر وأسرع أربع مرات، حيث يبلغ المعدل 7.8 إلى 9.9 مليمتر في السنة. وهذه النتيجة تؤكد التهديد الواقعي العظيم الذي يعاني منه الملايين من سكان المناطق الساحلية والذين يشكلون قرابة 58% من سكان العالم. وجدير بالذكر فإن مستوى سطح البحر على كوكبنا ارتفع بمقدار نحو 21 سنتيمتراً منذ أن بدأ العلماء دراسة هذه الظاهرة، أي قرابة عام 1900.

 

ويمكن تقديم مثال واحد من بين أمثلة كثيرة تؤكد بأن هذا التهديد المتمثل في أزمة التغير المناخي وسخونة الأرض التي تشهدها الكرة الأرضية منذ قرن من الزمان على صورة ارتفاع مستوى سطح البحر وتمدد مياهه، واقعية ومشهودة، ولا يمكن تجاهلها، أو غض الطرف عنها. فقبل سنوات أعلنت الحكومة الإندونيسية بأنها ستنقل عاصمتها جاكرتا الواقعة على الساحل إلى موقعٍ آخر، وبالتحديد إلى مقاطعة شرق كاليمنتان(East Kalimantan) في جزيرة بورنيو(Borneo)، وبكلفة قُدرت بنحو 33 بليون دولار.

 

فما هي الأسباب التي تدعو هذه الدولة إلى نقل عاصمتها العريقة بكافة مرافقها ومؤسساتها، وتحَمُل هذه النفقات الإضافية العالية، والكلفة الباهظة لعملية التحويل هذه؟

فقد أجمعت الدراسات الميدانية بأن جاكرتا ستنخسف تدريجياً، وستغرق كلياً في البحر بحلول عام 2025، حيث إنها تنخفض وتنزل الآن عن مستوى سطح البحر بنسبٍ رهيبة غير مسبوقة في عصرنا الحديث، وتتراوح بين 10 إلى 17 سنتيمتراً في السنة.

ولكن ما هي أسباب غرق هذه المدينة الساحلية؟

فالدراسات تفيد بأن هناك مجموعة من العوامل والأسباب التي أدت إلى ظهور مثل هذه الحالة في مدينة جاكرتا، ومدن ساحلية أخرى حول العالم مثل مدينة نيو أورلينز الساحلية بولاية لويزيانا الأمريكية، ومدينة شنغهاي الصينية، وكل هذه العوامل لعبت دوراً مجموعياً تراكمياً مشتركاً مع الزمن، وأدت إلى بروز هذه الظاهرة المستجدة. فالعامل الأول هو أن ارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب الملوثات التي نُطلقها كل ثانية إلى الهواء الجوي منذ أكثر من مائتي عام، مثل غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما الكثير أدت إلى ارتفاع حرارة مياه البحر وتمددها وارتفاع مستواها وإحداث الفيضانات والأعاصير وغيرهما من الكوارث المناخية الطبيعية والتي من صنع أيدينا، فغطت السواحل، وهدَّمت المرافق الساحلية كلها، وهجَّرت الناس من منازلهم وقراهم الساحلية. وأما العامل الثاني فيتمثل في ظاهرة هبوط وانخساف التربة والأرض في المناطق الساحلية(subsidence) نتيجة للضخ المتزايد والسحب المستمر لسنواتٍ طويلة من المياه الجوفية الساحلية والآبار الضحلة الموجودة في المنطقة الساحلية، مما أدى مع الوقت إلى انخساف وهبوط الأرض عن مستوى سطح البحر. كذلك هناك عوامل أخرى ساهمت في تفاقم هذه الكارثة البيئية، مثل عمليات حفر البحر واستخراج الرمال من المناطق الساحلية، إضافة إلى عمليات التنقيب عن النفط والغاز والمعادن وذوبان الثلوج.

وعلاوة على ارتفاع مستوى سطح البحر كظاهرة ناتجة عن سخونة الأرض، فإن هناك تداعيات أخرى تُفاقم من الأزمة المناخية وتأثيراتها على الإنسان والكائنات التي تعيش معه. ومن هذه التداعيات هي أن ارتفاع حرارة المياه يؤدي إلى انخفاض نسبة الأكسجين الذائب فيها، وقد عُرض تقرير في اجتماع الأمم المتحدة السنوي الـ 25 للدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي في منتصف شهر ديسمبر 2019 في العاصمة الإسبانية مدريد حول هذه الظاهرة، حيث أكد التقرير عن وجود مواقع في بحار العالم تُعد ميتة بيولوجياً بسبب فقر الأكسجين الذائب، فتحولت إلى مقابر جماعية صامتة وصحراء جرداء لا حياة فيها، وهذه المقابر زادت أعدادها من نحو 45 في الستينيات من القرن المنصرم إلى أكثر من 700 موقع حالياً، ومن هذه المواقع ما يصل مساحتها إلى قرابة 20 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين بنحو 25 مرة. كذلك من التداعيات ارتفاع حموضة مياه المحيطات بسبب ذوبان غاز ثاني أكسيد الكربون الحمضي في المياه، حيث قدَّرت الدراسات بأنه ومنذ بدء الثورة الصناعية زادت الحموضة بنسبة 26%، والتقديرات المستقبلية تشير إلى أن نسبة الزيادة ستكون 170% بحلول عام 2100.

 

وهذه التداعيات المهددة لأمن الدول ومكتسباتها التنموية لسنا بمنأى عنها في البحرين التي تتكون من مجموعة من أكثر من 36 جزيرة صغيرة منخفضة السطح، وجزء كبير من مساحة البحرين التي بلغت الآن حسب المخطط الهيكلي الاستراتيجي لعام 2016، 934 كيلومتراً مربعاً، يُعد مساحات ساحلية مدفونة من جسم البحر ووصلت إلى قرابة 290 كيلومتراً مربعاً، فهي إذن تقع على مستوى سطح البحر وتكون عرضة مباشرة لأي تغيرات، ولو كانت طفيفة قد تحدث لبحر ولمستوى سطح البحر خاصة، مما يعني أن كل المنتجعات والفنادق الفخمة والمرافق السياحية والصناعية والسكنية التي شيدناها حديثاً، وأنفقنا عليها الملايين من الدنانير على السواحل المدفونة من البحر ستكون هي الأشد تنكيلاً وضرراً من تداعيات التغير المناخي وارتفاع مستوى سطح البحر، إضافة إلى التهديدات التي سيعاني منها الناس الذين يعيشون في هذه المناطق الساحلية المدفونة بشكلٍ مباشر. ولذلك من أجل الحفاظ على هذه المكتسبات التنموية الوطنية وحمايتها من تداعيات التغير المناخي، علينا تبني وتنفيذ سياسة "الوقاية خير من العلاج"، أو المبدأ "الاحترازي" المبني على سياسة منع وتجنب الضرر قبل وقوعه، واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لذلك من خلال سن التشريعات والقوانين المتعلقة بتحديد مصادر تلوث الهواء وخفض انبعاث الملوثات منها، ثم من خلال الرصد والمراقبة المستمرة للتغيرات الزمانية والمكانية لحالة البحر على سواحلنا من حيث مستوى سطح البحر، ونسبة الأكسجين الذائب في الماء، ودرجة حموضة المياه، ونسبة الملوثات الموجودة فيها، إضافة إلى وضع البرامج التنفيذية لتفعيل هذه القوانين على المستوى الحكومي الرسمي وعلى مستوى الجمعيات الأهلية الطوعية والشركات والمصانع الخاصة، فنحن جميعاً شركاء في مواجهة هذا التحدي الواقعي.