الثلاثاء، 27 أبريل 2021

ملوثات جديدة تغزوا أجسادنا

مازلتُ أتذكر ذلك اليوم من عام 1976 عندما كنتُ طالباً في جامعة تكساس في مدينة أوستن، عاصمة الولاية، فبالرغم من مضي أكثر من 45 سنة على ذلك اليوم، إلا أنني لم أنساه حتى الآن، وكأنه حدث البارحة. ففي ذلك اليوم ذهبتُ إلى مجمع تجاري في المدينة اسمه "هاي لاند مول"، وهناك أثناء تجوالي في المجمع شاهدتُ في وسط المجمع حشداً غفيراً من الناس، وكما يقول المثل: "حشر مع الناس عيد"، فذهبتُ إلى موقع التجمع، وإذا بي أرى في وسط هؤلاء الجمع رجلاً يطبخ البيض على مقلاة خاصة "سحرية"، وهو يطبخ البيض بدون إضافة قطرة من الزيت، كما يُزيل البيض من المقلاة دون أن يلتصق بها كلياً، ودون أن يترك أي أثرٍ لبقايا البيض، ودون أن تتوسخ المقلاة كلياً، فلا حاجة لأي نوعٍ من أدوات التنظيف. فهذه العملية التي رأيتُها أمامي كانت بالنسبة لي وللجمهور ضرباً من السحر، وأعجوبة علمية جديدة لم نسمع عنها من قبل، وتطوراً وحدثاً تاريخياً وثورة انقلابية في مجال طبخ المأكولات التي كانت تحتاج إلى الزيت لإعدادها، أو تنظيف الأواني بعد الطبخ.

 

والسبب الذي يجعلني أتذكر هذه الحادثة التي شاهدتها في المجمع، هو أن هذه المادة السحرية التي تُغلف المقلاة من الداخل، أو معدات الطبخ الكثيرة بشكلٍ عام، تُشكل الآن تهديداً خطيراً لصحة الإنسان في كل أنحاء العالم وصحة الحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني. فالنسبة لي، فهذه الحادثة كأنها غرست البذرة الخبيثة الأولى في المجتمع البشري، وروت هذه البذرة الفاسدة بمياه هذه المادة السحرية عقوداً طويلة من الزمن، حتى أصبحت شجرة ناضجة كبيرة امتدت جذورها في باطن الأرض، وارتفعت فروعها الخبيثة في عنان السماء، فتغلغلت طوال هذه السنوات ببطء وبشكلٍ تدريجي في كل أعضاء بيئتنا وفي أجسادنا.

 

فهذا البذرة والشجرة أعطت ثمارها حنظلاً مُراً قاسياً يدمر صحة الحياة الفطرية ويهلك أعضاء أجسادنا، وهذه الحالة التي وصلنا إليها أكدتها الدراسات والأبحاث العلمية المخبرية والميدانية التي سبرت غور هذه الحالة الكارثية، وتابعتْ وراقبتْ عن كثب تحركات هذه المادة السحرية، وانتقالها عبر السلسلة الغذائية من وسط بيئي إلى آخر، ثم إلى خلايا أعضاء أجسادنا.

 

فالتهديد من هذه المادة واقعي وليس نظري، وهو موجود أمامنا وتجذر في كل أعضاء بيئتنا، وبخاصة أننا لا نتحدث عن مادة واحدة فقط، أو مركب كيميائي واحد فقط، وإنما هناك نحو 4000 مادة كيميائية من هذا الصنف الأعجوبة استُخدم، ومازال يستخدم في منتجات كثيرة نستعملها يومياً ولا تعد ولا تحصى، منها أدوات الطبخ والمعروفة بالتِيفَال، ومنها الأثاث المنزلي والمكتبي، ومنها مواد إطفاء الحريق، ومنها معجون الأسنان ومنتجات التبرج والزينة، ومنها غشاء الأوراق الخاصة والعلب.

 

فخواص هذه المركبات وصفاتها "الفريدة والمميزة" جعلت الإنسان يُفرط في استخدامها في تطبيقات كثيرة وفي مجالات متعددة، فهي عبارة عن مركبات عضوية تحتوي على أعدادٍ كبيرة من عنصر الفلورين، ويُطلق عليها إسم بي إف أي إس(PFAS)، وهذا العنصر عندما يرتبط بالكربون يُكوِّن رابطة قوية جداً لا تتحلل، ولا تنكسر، ولذلك فهذه المواد عندما تدخل في البيئة لها القدرة على الثبات والاستقرار وعدم التحلل، مما يجعلها تتراكم وتتضخم مع الوقت في السلسلة الغذائية، ويزيد تركيزها في أجسام الكائنات الحية.

 

وهناك الكثير من الدراسات التي أُجريت حول وجود هذه الملوثات الجديدة في مكونات البيئة برمتها وفي جسم الإنسان والحياة الفطرية على حدٍ سواء، كما أشارت هذه الأبحاث إلى أن التركيز في ارتفاع مطرد مع الزمن، وسأذكر البعض منها على سبيل المثال لا الحصر. فهناك دراسة صينية منشورة في مجلة تقنية وعلوم البيئة في السابع من أغسطس عام 2017 تحت عنوان: "التقرير الأول حول وجود والتراكم الحيوي لأحد الملوثات العضوية متعددة الفلورين"، حيث تم اكتشافها في مياه نهر(Xiaoqing) بالقرب من المصنع الذي ينتج هذه المواد في مدينة(Huantai County)، فقد بلغ التركيز في مياه النهر 68500 نانوجرام من الملوثات العضوية متعددة الفلور في اللتر الواحد من ماء النهر، كذلك في أسماك النهر وصل إلى 1510 نانوجرامات لكل مليلتر، وفي الإنسان 2.93 نانوجرام لكل مليليتر. ودراسة صينية أخرى نُشرت في 26 مارس 2021 في المجلة نفسها تحت عنوان: "المركبات العضوية متعددة الفلور في غبار البيئات الخارجية والداخلية في الصين"، حيث تراوح التركيز في الغبار الخارجي من 105 إلى 321 نانوجراماً لكل جرام، وفي الغبار في البيئة الداخلية تراوح من 185 إلى 913. كذلك أفادت دراسة في مجلة علوم وتقنية البيئة في الثاني من أبريل 2021 تحت عنوان: "المركبات العضوية متعددة الفلور تنتقل من المياه الجوفية إلى الأنهار في ولاية نورث كارولاينا الأمريكية"، بأن تركيز هذه الملوثات في المياه الجوفية تراوح بين 20 إلى 4773 نانوجراماً في اللتر، وفي مياه الأنهار من 426 إلى 3617. كما أفادت دراسة أخرى منشورة في 22 يوليو 2020 في المجلة نفسها عن وجود هذه الملوثات في دم الإنسان في هذه الولاية الأمريكية، حيث بلغ معدل التركيز 25.3 نانوجرام في المليلتر، كما تم اكتشاف هذه الملوثات في الدم في المواطن الإيطالي في منطقة فينيتو(Veneto Region) وبمعدل تركيز بلغ 44.4 نانوجرام لكل مليليتر، حسب الدراسة المنشورة في 18 فبراير 2020 في مجلة شؤون صحة البيئة، مما يثبت انتقال وغزو هذه المجموعة من الملوثات جسم الإنسان.

 

كذلك نُشرت دراسة في مجلة علوم وتقنية البيئة في العدد الصادر في 11 يونيو 2020 حول العلاقة بين تعرض المرأة الحامل للملوثات العضوية متعدد الفلور وجنس هرمونات الجنين في مدينة شنغهاي الصينية، وأفادت بأن هذه الملوثات تُعد سامة للجنين وقد تسبب له مشكلات في النمو، ودراسة أخرى منشورة في المجلة نفسها في عام 2017 قامت بقياس مستوى هذه الملوثات في دم الأطفال في مدينة بوسطن الأمريكية، ودراسة أخرى قاست مستوى هذه الملوثات في مياه السواحل في محيطات وبحيرات مختلف دول العالم والمنشورة في مجلة علوم وتقنية البيئة في الأول من مارس من العام الجاري، كذلك نُشرت دراسة حول تعرض الطفل الرضيع لهذه الملوثات عن طريق حليب الأم، والصادرة في 20 أغسطس 2015 في مجلة علوم وتقنية البيئة، أي أن أطفال المستقبل ستكون أجسادهم مسمومة بهذه الملوثات.

 

وختاماً فهناك بعض الاستنتاجات العامة التي أودُ نقلها لكم حول هذه الملوثات الجديدة، كما يلي:

أولاً: الملوثات الموجودة في المنتجات الاستهلاكية التي نستخدمها يومياً تصل إلينا خلال المكونات البيئية، ومن خلال مياه المجاري المعالجة التي تصب في المسطحات المائية فتنتقل إلى الأحياء البحرية، ثم إلى الإنسان، كما هو الحال بالنسبة لهذه الملوثات العضوية متعددة الفلورين.

ثانياً: هذه الملوثات استغرقت عقوداً طويلة من الزمن حتى غزت كل عناصر البيئة ثم انتقلت إلينا بطرق مباشرة وغير مباشرة.

ثالثاً: تركيز هذه الملوثات في الأوساط البيئية وفي جسم الإنسان في ازدياد مع الزمن.

رابعاً: هناك حاجة لدراسات حول العلاقة بين وجود هذه الملوثات في بيئتنا وأجسادنا وتأثيرها الصحي علينا، إضافة إلى الأمراض التي من الممكن أن نصاب بها نتيجة لذلك.

 

والأيام القادمة ستكشف لنا المزيد من المفاجئات غير السارة عن هذه الملوثات الجديدة علينا، وملوثات أخرى ستكشف عن نفسها لاحقاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق