السبت، 17 أبريل 2021

من المتهم في قتل رمز أمريكا؟

منذ أكثر من عقدين من الزمان والرمز القومي للولايات المتحدة الأمريكية يحتضر، ويعاني بشدة من سكرات الموت العصيبة، فأعداد كبيرة من هذه النسور وُجدت وهي تعاني من أعراضٍ مرضية غربية وفريدة من نوعها، فقد كانت تسقط جماعات من أعالي السماء على الأرض كسقوط قطرات المطر وهي مكسورة الأضلاع ومحطمة الجناح، ومُصابة بالشلل النصفي، والتشنج، ثم بعد سويعات تلقى نحبها فتموت موتاً جماعياً بسبب هذه الأعراض الغامضة.

 

 

وهذه الظاهرة المرضية التي كانت تُصيب هذا النوع من النسور المعروفة بالنسر الأصلع، وكادت أن تقضي عليها كلياً فتضعها ضمن قائمة الكائنات الحية المنقرضة، حيَّرت كبار العلماء لسنواتٍ طويلة، وجعلتهم يقضون السنوات العجاف في الميدان وفي المختبرات لإيجاد حلٍ علمي وطبي موثوق لهذا اللغز العصيب الغامض، بل وأنفقت الولايات المتحدة الأمريكية الملايين من الدولارات لسبر غور هذه الحالة المرضية القاتلة الفريدة حفاظاً على هذا الرمز الأمريكي للحياة الفطرية، وحماية له من الزوال من على وجه الأرض.

 

ويأتي المشهد الأول لهذه المجازر الجماعية للنسر الأصلع في عام 1994، وبالتحديد من بحيرة دي جراي(DeGray Lake) في مدينة كراك(Clark) بولاية أركنساس، حيث شاهد الناس 29 جثة هامدة لهذا الرمز الأمريكي، ثم تكرر هذا المشهد عدة مرات، ومنها أيضاً في هذه الولاية وموت 70 نسراً، وهكذا انتشرت مثل هذه المشاهد المحزنة والمؤلمة الغامضة والغريبة في 31 ولاية من ولايات جنوب شرق أمريكا.

 

وهذه الصور الحية النادرة انتقلت إلى جميع ولايات أمريكا، بل وانتقلت إلى كل أسرة وبيت، وإلى البيت الأبيض خاصة عندما كان بل كلينتون رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، أي منذ قرابة 27 عاماً والعلماء مشغولون كلياً لفك شفرات هذا اللغز المحير، وسبر غور هذه الظاهرة القاتلة والتعرف عن كثب على مصادر وأسباب هذا الموت الجماعي لهذا النسر العظيم.

 

وبعد جهود مضنية استغرقت أكثر من عقدين من الزمن، وبعد بحوث ماراثونية متعبة وشاقة ومعقدة شارك فيها المئات من أفضل علماء أمريكا وأكثرهم خبرة في أمراض الطيور وفي علم السموم والكيمياء والأحياء، توصل فريق العلماء إلى حل هذا اللغز الشائك وتعرف بدقة على أسباب وملابسات الموت الجماعي للنسور في أكثر من 31 ولاية، حيث نشر الباحثون اكتشافاتهم هذه في مجلة العلوم المرموقة(Science) في 26 مارس 2021 تحت عنوان:" اصطياد قاتل النسور: بكتيريا تُفرز ملوثات سامة للأعصاب تسبب اختلال في النخاع الشوكي". فالخطوة الأولى في هذه الأبحاث، والاكتشاف الأول كان بالنسبة لنوع المرض الفريد الذي أصاب النسور، وهو يعرف الآن بمرض اعتلال واختلال النخاع الشوكي(Vacuolar myelinopathy (VM))، وهو مرض عصبي قاتل لم يعرفه العلماء قبل هذه الحالات التي نزلت على النسور. ومن أعراض المرض الشلل، والتشنج، وبروز تجاويف وفراغات في المادة البيضاء في المخ وفي العمود الفقري. ثم جاء الاكتشاف الثاني وتمثل في أن هذا المرض العضال أصاب كائنات مائية حية أخرى تعيش في المسطحات العذبة على حدٍ سواء، مثل الأسماك، والزواحف، والضفادع، والسلاحف، إضافة إلى طيور أخرى، وبالتحديد طيور الغرة السوداء الرمادية اللون(coots) والتي تعتبر الغذاء الرئيس للنسر الأصلع.

 

وأما الاكتشاف الثالث فقد أجاب عن السؤالين التاليين: ما مصدر هذا المرض الذي أصاب هذه الحيوانات المائية؟ ومن هو المتهم في الإصابة بالمرض؟

لقد اتجهت أعين العلماء واهتمامهم نحو نوعٍ من الأعشاب المائية، أو الطحالب التي تعيش في المسطحات المائية العذبة والتي تتغذى عليها كل الكائنات المصابة بهذا المرض، وهي عشبة خضراء غير أصيلة، وغازية لهذه البيئة، حيث تم إدخالها في الستينيات من القرن المنصرم إلى هذه البيئة المائية وتُعرف علمياً باسم(Hydrilla verticillata)، حيث اكتشف العلماء بأن أوراق هذه النبتة الواسعة الانتشار تُعتبر حاضنة مثالية، وبيئة مناسبة جداً لنمو وتكاثر نوع سام من البكتيريا الزرقاء(cyanobacterium)، والتي يُطلق عليها علمياً اسم( Aetokthonos hydrillicola)، وهذه البكتيريا ومع وجود عنصر البرومين في المياه العذبة تُكوِّن مادة سامة وخطرة تؤثر على الجهاز العصبي وتحتوي على خمس ذرات من عنصر البرومين ويُطلق عليها اسم(aetokthonotoxin (AETX)) وعلمياً يعرف بـ(pentabrominated biindole alkaloid). ومع إجراء التحاليل المخبرية تأكد للعلماء أن المتهم في القتل الجماعي للنسور وغيرها من الحيوانات والطيور المائية والإصابة بالمرض هو هذه المادة السامة للأعصاب التي تنتجها البكتيريا التي تنمو على الأعشاب المائية، حيث إن هذه المادة لها القدرة على التراكم في السلسلة الغذائية من جهة، والتركيز في أجسام الكائنات الحية من جهة أخرى، أي أنها تنتقل عبر السلسلة الغذائية من كائن حي إلى آخر.

 

ومع تتبع السلسلة الغذائية للنسر الأصلع تم كشف النقاب كلياً، وإزالة الستار عن سر الموت الجماعي للنسور، فطيور الغرة تأكل العشبة المائية والكائنات المائية الصغيرة الأخرى كالسلاحف والضفادع التي تكون قد تلوثت وتسممت بالمادة التي تنتجها البكتيريا، وهذه الطيور التي تلوثت وتسممت بهذه المادة الكيميائية تُعتبر الغذاء الرئيس للنسر الأصلع، مما أدى أيضاً إلى تسممه وإصابته بالمرض ثم موته بشكل مفاجئ وجماعي.

  

فهذه القصة الواقعية للموت الجماعي للنسر الأصلع خاصة، والكائنات المائية الأخرى عامة تُعلمنا الكثير من الدروس والعبر، منها ما يلي:

أولاً: لا يريد الإنسان أن يستفيد من هفواته وزلاته، ولا يريد أن يتعظ من تجاربه وخبراته، فالدافع الرئيس والحافر الأساس لكل أعماله وتحركاته مازال هو المال، فحُبه لكنز الذهب والفضة، وجشعه لجمع الدولار والدينار أعماه كل الجوانب والمردودات الأخرى لبرامجه وأنشطته التنموية. فالإنسان يجهل، أو يتجاهل بأن أعضاء مكونات البيئة مرتبطة مع بعض بوشائج معقدة وقوية، بحيث إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الجسد البيئي بالسهر والحمى، ولذلك فكل ما ُيلقيه في مكونات البيئة من هواء، وماء، وتربة لا يذهب هباءً ويفنى من الأرض فينتهي ويزول، وإنما يرجع إليه مرة ثانية إما بشكلٍ مباشر عندما يتعرض لهذه الملوثات، أو بشكلٍ غير مباشر بعد فترة من الزمن عبر السلسلة الغذائية.

 

ثانياً: على الإنسان أن لا يعبث ببيئته إلا بعلمٍ وسلطان، فلا يتدخل في مكونات البيئة إلا وهو يدرك نتائج عمله وتدخله، ولا ينقل كائناً حياً من بيئة محددة إلى بيئة أخرى غريبة عليه وعلى الكائنات الحية التي تعيش فيها، فيسبب خللاً في النظام البيئي ويؤدي إلى مشكلات بيئية تنعكس عليه بشكل مباشر، كما حدث بالنسبة للنسر الصلع عندما أدخلت يد الإنسان كائناً نباتياً غير أصيل وغريب على تلك البيئة المائية فتسبب في وقوع قضية معقدة لم تُحل إلا بعد أكثر من 27 عاماً من المعاناة الجسدية والعقلية والنفسية وإنفاق الأموال الكثيرة.  

  

وبعد كل هذا، لا أظن بأن الإنسان سيعتبر ويتعلم من أخطائه، فالكوارث والحوادث البيئية تنزل علينا منذ أكثر من قرن، وهي مستمرة حتى يومنا هذا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق