الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020

بعد تلقيح البشر، هل سينتهي المرض؟

تمكن العلماء بفضل علمهم الغزير حول تكاثر الفيروسات عامة وطرق تعدِّيها على أجسام البشر، إضافة إلى خبرتهم الطويلة وتراثهم المتراكم في التعامل مع الفيروسات منذ أكثر من 128 عاماً، وبالتحديد في عام 1892 عندما دخل الإنسان لأول مرة عالم الفيروسات وتعرَّف على أول فيروس أثناء القيام بتجاربه المخبرية، أن يحقق معجزة غير مسبوقة في علم تطوير وإنتاج اللقاحات لمكافحة الفيروسات المرضية المعدية.

 

فقد نجح العلماء في تحطيم الأرقام القياسية في فترة قصيرة جداً مقارنة بالسنوات الطويلة العصيبة التي كان يقضيها في السابق في تطوير اللقاحات ضد الأمراض الفيروسية، حيث استطاعوا أن يطورا وينتجوا اللقاح الخاص بواحد من أشد الأوبئة التي نزلت على البشرية، فأصاب حتى الآن أكثر من 77 مليون من البشر في كل بقعةٍ صغيرة أو كبيرة من الأرض، كما قضى قرابة 1.7 مليون نحبهم ونقلوا إلى مثواهم الأخير، فقد صنع العلماء لقاحات خاصة ومتطورة جداً باستخدام تقنيات مختلفة ضد وباء فيروس كورونا (Sars-CoV-2) في قرابة سنة واحدة فقط، بعد إعلان وتسجيل الحالات الأولى من العدوى بهذا الفيروس القاتل في الصين في ديسمبر 2019.

 

فهناك تقنيات وأساليب جديدة تُطور لأول مرة في تاريخ البشرية، منها التي قامت شركة فايزر_بيونتك وموديرنا بتطويرها، وهي التقنية المعتمدة على التركيب الجيني للفيروس، والتي تُعرف بتقنية الحمض النووي الريبوزي (messenger RNA حيث تطور أحماض نووية يتم هندستها وراثياً وتعمل على تحفيز الخلايا لتكوين بروتينات مشابهة لبروتينات من فيروس كورونا، ومنها استخدام تقنيات قديمة تم تحديثها وتطويرها مثل خلط فيروسات الإنفلونزا غير النشطة والمعطلة مع جينات فيروس كورونا المسبب للمرض، كالتي قامت بها شركة أسترا زينيكا مع جامعة أكسفورد وجونسون و جونسون، ومنها تقنية شركتي نوفافاكس وسانوفي التي تقوم باستخلاص البروتينات من الفيروس.

 

والآن هل سينتهي هذا المرض العصيب بعد تطوير كل هذه اللقاحات وتطعيم البشر بها؟

وهل سينجح الإنسان من تحقيق معجزة ثانية تتمثل في استئصال هذا المرض من جذوره في المجتمع البشري، كما حقق نجاحاً باهراً في تطوير اللقاح في هذه الفترة الزمنية القصيرة؟

 

ففي تقديري فإن الإنسان لن يتمكن من تحقيق هذا الهدف كلياً والقضاء بشكلٍ تام على هذا الوباء الذي تفشى في كل أنحاء الكرة الأرضية، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: لا يعرف العلماء حتى الآن مدى فاعلية اللقاحات التي قام بتطويرها في قتل هذا الفيروس الخبيث، فهو كباقي الفيروسات يتغير ويتحور من سلالةٍ إلى أخرى، وقد تكون هذه اللقاحات غير مصممة للتعامل مع كل هذه التحولات الطبيعية التي تطرأ على فيروس كوفيد_19. فعلى سبيل المثال، أعلنت بريطانيا في 14 ديسمبر بأن الفيروس قد تحور إلى سلالة جديدة غير معروفة، وغول مخيف شديد العدوى للبشر، وأشد وطأة عليه وأكثر عدوانية، وقد تكون هذه السلالة أكثر مقاومة للقاحات عامة، مما اضطر رئيس الوزراء بوريس جونسون إلى الدعوة لاجتماع طارئ لمجلس الوزراء في 19 ديسمبر من العام الجاري، ثم إغلاق لندن برمتها ومنع التجمعات والاحتفالات أثناء عطلة رأس السنة الميلادية، مع العلم بأنه أعلن بأنهم فقدوا السيطرة عليها. وجدير بالذكر أن مثل هذه التحولات للفيروس الأصلي الذي ظهر في وهان، انكشف قبل أشهر في عدة دول أخرى، مثل بلجيكا، وهولندا، وأستراليا، والدنمارك، ودولة جنوب أفريقيا. 

ثانياً: فيروس كوفيد_19 كفيروسات كورونا الأخرى، مثل فيروس الإنفلونزا، أو فيروس البرد الموسمي العادي المعروف لدي الإنسان منذ عقود، والذي لم ينجح الإنسان حتى الآن من تطوير لقاحٍ خاص يقضي كلياً على مرض الإنفلونزا، فكل ما يقوم به العلماء هو إنتاج وتحديث لقاح سنوي من سلالات متعددة من فيروس الإنفلونزا يختلف عن السنة السابقة بهدف تكوين مناعة مؤقتة عند الإنسان، والتخفيف من حدة المرض عند الإصابة به.

 

ثالثاً: حتى لو سلَّمنا بأن اللقاحات التي تم تطويرها فاعليتها مرتفعة جداً في القضاء على الفيروس، فإن هذه اللقاحات لن تصل إلى البشر كلهم في كل أنحاء المعمورة. فالدول الغنية اشترت واستحوذت على الملايين من الجرعات من كل أنواع اللقاحات، وهي في حد ذاتها لا تكفي حتى لتلقيح كافة أفراد الشعب في هذه الدول، مما يعني بأن هناك مئات الملايين من البشر الذين سينتظرون دورهم بعد عدة سنوات لتلقي اللقاح، وفي هذه الأثناء سيكونون قنابل موقوتة معدية، وسيكونون عرضة للإصابة بالمرض ونقل العدوى إلى الآخرين.

 

وعلاوة على عدم توفر اللقاح لجميع البشر، فإن هناك فئة من الناس في جميع دول العالم مازالت لا تؤمن بفكرة تطعيم البشر، ولا تثق بفاعلية اللقاحات بشكلٍ عام، بل وتعمل على اقناع الناس إلى تجنب تلقي اللقاح. فقد أشارت استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية بأن 30% من الأمريكيين لا يرغبون بأخذ اللقاح، كما أن 28% من الأمريكيين من أصول أفريقية لا ينون أخذ اللقاح بسبب عدم الثقة، وعدم الاقتناع بجدواه وفاعليته. كذلك أفاد تقرير منشور في صحيفة "موسكو تايمس" في 17 ديسمبر بأن عدد المقبلين على اللقاح الروسي (Sputnik V) قليل جداً، كما أن استطلاعات الرأي في روسيا تفيد بأن 59% من الروس غير راغبين في أخذ اللقاح، وأن 13% فقط من الروس يثقون بلقاحهم. فكل هذه الأعداد الكبيرة من الناس الذين لا يرغبون في التطعيم ضد فيروس كورونا سيكونون تهديداً مباشراً على الآخرين، وحتماً سينقلون المرض إلى الأصحاء، مما يؤكد بأن المرض سيبقى منتشراً بين بني البشر.

 

كذلك فإن الشك في اللقاح ينبع من تصريحات رجال السياسة المتناقضة في الكثير من دول العالم لأغراض انتخابية والضغط على العلماء وشركات إنتاج اللقاحات في تبني الطرق السريعة غير المعتمدة في مجال إنتاج اللقاح وفرضه على الناس، إضافة إلى التعجيل في الترخيص المشروط للقاح للحالات الطارئة دون إعطاء الفرصة الكافية لمراجعات علمية مستفيضة ومعمقة، كما هو العادة بالنسبة للقاحات الجديدة. فعلى سبيل المثال، أعلن بوتين مبكراً جداً قبل نضوج مراحل تطوير اللقاح، وبخاصة المرحلة الثالثة التي تتطلب إجراء تجارب على عشرات الآلاف من البشر، وبالتحديد في 11 أغسطس بأن روسيا هي أول بلد في العالم ترخص للقاح ضد فيروس كورونا!

ولذلك من أجل كسب ثقة الناس ونيل موافقتهم على تلقي اللقاح، يقوم رجال السياسة وقادة الدول على أخذ اللقاح أمام أعين الكاميرات، وأمام رجال الإعلام، كما فعل الرئيس الأمريكي المنتخب بايدن عندما تلقى اللقاح في 21 ديسمبر.

 

وخلاصة لما سبق فإن فيروس كورونا سيمكث معنا سنوات طويلة لا يعلمها إلا الله، مما يؤكد علينا عدم التهاون في إدارة هذا المرض العضال حتى بعد تطعيم الناس، والاستمرار في تنفيذ الإجراءات واتخاذ الاحتياطات الشخصية، والجماعية، والمجتمعية الوقائية، مثل لبس الكمامات، والتباعد الاجتماعي، وغسل اليدين، وتجنب التجمعات الداخلية.

الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

شهادة الوفاة تؤكد أن تلوث الهواء سبب وفاة طفلة بريطانية!

قرار تاريخي اتخذته محكمة في العاصمة البريطانية لندن في 16 ديسمبر من العام الجاري، وهذا الحُكم المحوري لم ينعكس على بريطانيا فحسب، وإنما انتقل صداه ليعمَّ العالم أجمع، وينقش بصماته في كتب التاريخ البيئي عامة.

فربما ولأول مرة تُصدر الجهات المعنية بإخراج شهادات الوفيات في بريطانيا، شهادة وفاة لطفلة صغيرة في السن لا يتجاوز عمرها التسع سنوات، وتؤكد بأن سبب وفاة هذه الطفلة هو "تلوث الهواء" والتعرض للملوثات الخطرة، وتُسجل هذه الحالة الفريدة من نوعها سابقة في الشهادة الرسمية بأن موتها نجم عن استنشاق ملوثات قاتلة كانت موجودة في الهواء. وهذه الشهادة مستندة على قرار هذه المحكمة التاريخي الذي أثبت بأن تلوث الهواء ساهم في قتل هذه الطفلة اللندنية، حيث خلص القاضي إلى استنتاجات حول موت الطفلة، جاء فيها بأن هذه الطفلة قد انتقلت إلى مثواها الأخير "بسبب إصابتها بالربو، وأن تعرضها للهواء الجوي الملوث ساهم في سرعة موتها"، كما صدر عن القاضي أيضاً بأن: "المصدر الرئيس لتعرضها للملوثات التي أدت إلى موتها هو الانبعاثات من عوادم السيارات".

 

فولادة هذا الحكم المفصلي لم تأت بين عشية أو ضحاها، ولم تكن بهذه السهولة والبساطة التي قد يظنها البعض، وإنما جاءت بعد مخاضٍ طويل وعسير، وبعد جهد شاق متواصل، استغرق قرابة سبع سنوات، أي منذ 15 فبراير عام 2013  يوم أن قضت الطفلة نحبها، فوالدة هذه الطفلة لم تستسلم لسبب الوفاة الأصلي الذي صدر من الجهات المعنية، وجاء فيه بأن الوفاة كانت نتيجة لنوبة ربو شديدة، ومشكلات حادة في الجهاز التنفسي، فقد علمت أم هذه الطفلة المفجوعة بأنها كانت تعيش في منطقة مسمومة وملوثة تحيط بها الشوارع المكتظة بالسيارات من كل صوب، وكانت تعلم أيضاً بأن هذه المصانع المتحركة بعشرات الآلاف التي تحوم حول منزلها تثير الحساسية لدى طفلها وتسبب لها التهابات حادة ومزمنة في الجهاز التنفسي، وتودي بها إلى التعرض لنوبات الربو والإصابة بالتشنجات، حيث إن طفلتها هُرعت إلى قسم الطوارئ أكثر من ثلاثين مرة خلال فترة زمنية قصيرة. فالهواء، كما أثبت المحامي كان شديد التلوث في المنطقة التي تعيش فيها الطفلة، ونسبة الملوثات كانت مرتفعة جداً وتزيد عن معايير الاتحاد الأوروبي والأدلة الاسترشادية الخاصة بجودة الهواء لمنظمة الصحة العالمية، علماً بأن بريطانيا تعرضت لعدة أحكام قضائية صادرة من محاكم الاتحاد الأوروبي بالنسبة لمخالفتها لقوانين الاتحاد البيئية وبالتحديد بالنسبة لمواصفات جودة الهواء الأوروبية.

 

ومن أهم الملوثات الخطرة والسامة التي تسبب مشكلات صحية للبشر، وتهدد حياتهم بالوقوع في الأمراض والعلل والموت المبكر، والمعنية في هذه المحاكمة، هما غاز ثاني أكسيد النيتروجين الحمضي الذي يسبب حساسية شديدة والتهابات خطيرة في كافة مجاري الجهاز التنفسي العلوي والسفلي، إضافة إلى الدخان، أو الجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم التي تدخل مباشرة إلى مجرى الدم، وتنتقل منه إلى جميع خلايا الجسم، سواء أكانت خلايا المخ، أو خلايا المشيمة في المرأة الحامل، فتنتقل منها إلى الجنين في رحم أمه.

 

ولذلك لو حلَّلنا قرار قاضي المحكمة والاستنتاجات التي توصل إليها لأول مرة في التاريخ لوجدنا ما يلي:

أولاً: قرار المحكمة يربط بشكلٍ مباشر لا لبس فيه بين تلوث الهواء واستنشاق ملوثات الهواء الجوي وموت هذه الطفلة، فهذا الُحكم يعني بشكلٍ عام موت الإنسان في كل أنحاء العالم إذا عاش في بيئة هواؤها ملوث ومسموم، وهذه أول حالة محددة معروف فيها اسم الإنسان الميت بسبب تلوث الهواء.

 

ثانياً: أكد قاضي المحكمة بأن المصدر المتهم بتلوث الهواء الجوي وموت الطفلة هو السيارات، مما يحتم على الحكومات وبالتحديد الجهات المختصة بحماية البيئة أن تضع هذا المصدر لتلوث الهواء الجوي ضمن قائمة أهم الأولويات، وتحدد برنامجاً حكومياً يعمل على منع، أو خفض أحجام الملوثات التي تنبعث من السيارات.

 

فهذه الحالة تؤكد التحذيرات التي تصدر عن منظمة الصحة العالمية منذ سنوات حول التهديدات الصحية الخطيرة التي يمثلها تلوث الهواء الجوي. فقد صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في 27 أكتوبر 2018 بأن تلوث الهواء أصبح الآن "حالة صحية طارئة وصامتة"، حيث قال: "لقد تجاوز العالم منعطف التبغ، ونواجه الشيء نفسه في الهواء السام الذي نستنشقه، والذي يُعد التبغ الجديد، فلا أحد يَسْلم من تلوث الهواء، لا غني ولا فقير، إنها حالة صحية طارئة وصامتة"، إضافة إلى أن منظمة الصحة العالمية نفسها ممثلة في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان قامت في عام 2015 بتصنيف "الهواء الجوي" بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان.

 

كما أكد المدير العام في الكلمة الافتتاحية لمؤتمر منظمة الصحة العالمية الأول حول "تلوث الهواء والصحة" والذي عقد في جنيف في الفترة من 30 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر 2018، قائلاً بأن: "تلوث الهواء يمثل أحد أكبر الأخطار التي تهدد الصحة العامة"، حيث تقدر منظمة الصحة العالمية بأن تلوث الهواء يتحمل مسؤولة قتل زهاء سبعة ملايين من البشر سنوياً، كما أن التقارير الرسمية الصادرة من بريطانيا وحدها تفيد بأن قرابة أربعين ألف بريطاني يلقون نحبهم وينقلون في سن مبكرة إلى مثواهم الأخير سنوياً، فتلوث الهواء يسبب لهم أمراض القلب، وسرطان الرئة، وأمراض الجهاز التنفسي المختلفة، ولذلك أعلنت لجنة برلمانية في مجلس العموم البريطاني في عام 2016 بأن تلوث الهواء يُعد "حالة طوارئ عامة".

فبعد كل هذه الأدلة الدامغة والمتواترة على تورط تلوث الهواء في قتل البشر، لا بد على الجميع أفراداً، وشعوباً، وحكومات، ومجالس نيابية أن يعطوا جل اهتمامهم وعنايتهم بهذه القضية الشائكة التي تهلك يومياً أطفالنا، وشبابنا، وشيوخنا على حدٍ سواء.

الأحد، 20 ديسمبر 2020

خطورة المخلفات البلاستيكية من واقع تجربة شخصية

كنتُ قبل أيام أسبحُ في بحر درة البحرين، والذي يُعد من واقع تجربتي الشخصية ومشاهداتي ومتابعاتي للتغيرات والمستجدات في البيئة البحرية في البحرين من أنقى وأصفى المواقع البحرية من ناحية نوعية وجودة وصحة ماء البحر، وأثناء السباحة كنتُ أغوص تارة لمشاهدة الكائنات البحرية التي تسبح في عمود الماء وتعيش في قاع البحر وفي داخل التربة القاعية، فلاحظتُ عن بُعد شيئاً أبيض اللون جاثماً فوق سطح التربة ويطل برأسه إلى الأعلى، فأخذني الفضول وحبُ الاستطلاع للاقتراب من هذا الشيء الغريب بحذر وتأني شديدين، فربما يكون كائناً بحرياً ساماً ومؤذياً يسبب لي جرحاً عميقاً وحاداً.

 

وعندما اقتربتُ أكثر من هذا الجسم الأبيض المجهول، وبدأتْ ملامحه تظهر شيئاً فشيئاً، وتتضح الصورة أكثر، وتنكشف هويته بدقة أشد، وإذا بهذا الشيء الغريب عبارة عن مخلفات بلاستيكية على شكل صحن بلاستيكي كبير أبيض اللون، تم التخلص منه بأيدي بشرية آثمة ومؤذية للرؤية، فشوه منظر البحر الفطري الجميل، ولوث التربة القاعية.

 

فقررتُ عندئذٍ من باب الحفاظ على نظافة البيئة البحرية وحمايتها من الأجسام والملوثات الغريبة الضارة للبشر والحياة الفطرية البحرية، إزالة هذا الصحن البلاستيكي من قاع البحر، وعندما حاولتُ الإمساك بهذا الصحن وإذا به، ولا أقول بأنه تكسر إلى قطعٍ وأجزاء أصغر، وإنما تهشم وتفتت بين يدي، وتحول إلى مسحوقٍ أبيض كلياً، وإلى جسيمات متناهية في الصغر قد لا يُرى بعضها بالعينة المجردة، فنزلتْ هذه الجسيمات البلاستيكية وانتشرت فوق سطح التربة القاعية.

 

وهذه المخلفات والجسيمات البلاستيكية الصغيرة التي يُطلق عليها الآن بالميكروبلاستيك، أو الجسيمات المجهرية الأصغر حجماً وتسمى النانوبلاستيك، هي التي تُشكل تهديداً مزمناً وحقيقياً للحياة الفطرية في البحر وللإنسان الذي يتغذى على هذه الأحياء البحرية التي تسممت أجسامها بهذه المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم.

 

وأما المشهد الثاني الذي رأيته أمامي ومتعلق مباشرة بخطورة المخلفات البلاستيكية على الحياة الفطرية البحرية، فالمتهم الرئيس فيه هو المخلفات البلاستيكية التي تكون هيئة أكياس رقيقة، أو أوراق بلاستيكية مرنة ودقيقة، حيث أثناء السباحة رأيتُ تحت قدمي سرطان البحر(الجُب جُب)، وفوراً شرع في الهروب مني، ولكن أثناء هروبه ولج في كيسٍ بلاستيكي موجود أمامه، فتعرقل فيه، وانحبس بداخله كالسجين، ولم يتمكن مباشرة من الهروب والخروج من هذا الكيس، إلا بعد محاولات عدة قام بها، وجهد كبير، حتى أخيراً فلت من شباك هذا الكيس البلاستيكي. ففي هذه الحالة كان هذا الكائن البحري الحي محظوظاً، حيث نجح من الإفلات والخروج من سجن هذه المخلفات البلاستيكية، ولكن في الكثير من الحالات الأخرى لن يتمكن من الخروج منها، فيبقى بداخلها حتى يموت من الجوع.

 

فمثل هذه المشاهد أصبحت الآن مألوفة، وتتفاقم وتزيد يوماً بعد يوم، ووجود هذه المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم يمكن رؤيتها الآن في كل شبر من الأرض، في البر، والبحر، والجو، وفي أوراق الأشجار العالية، كما يمكن مشاهدتها في مواقع من الكرة الأرضية التي لا تخطر على بال أحد، مثل ثلوج ومياه القطبين الشمالي والجنوبي، وفي أعمق بقعة بحرية على بعد أكثر من عشرة كيلومترات تحت سطح البحر في المحيط الهادئ في ظلمات خندق مريانا وفي الكائنات الحية التي تعيش في تلك المنطقة الشديدة البرودة والمظلمة كلياً مثل الكائن البحري الذي يشبه الروبيان واسمه العلمي(Eurythenes plasticus)، حسب الدراسة المنشورة في مجلة(Zootaxa) في الخامس من مارس من العام الجاري، كذلك اكتشفتْ هذه المخلفات البلاستيكية في أعالي قمم الجبال النائية والشاهقة والبعيدة عن أيدي الإنسان، وعن أي نشاط بشري.

 

فعلى سبيل المثال، نشرتْ مجلة "أرض واحدة"(One Earth) في ديسمبر من العام الجاري عن اكتشاف المخلفات البلاستيكية بأحجامها المختلفة في كل عينات الثلج وعينات المياه الجارية التي تم جمعها في أعلى قمة على سطح الأرض، وهي قمة جبال إيفرست المشهورة، وعلى ارتفاع 8850 متراً فوق سطح الأرض.

 

وقد قدَّمت دراسة علمية منشورة في مجلة "العلوم" في 23 يوليو 2020 تحت عنوان: "تقييم سيناريوهات متعلقة بمنع التلوث البلاستيكي" معلومات تقديرية حول أحجام المخلفات البلاستيكية الصغيرة والكبيرة التي تلج سنوياً في مكونات بيئتنا، حيث أفادت الدراسة بأن كمية المخلفات التي تدخل إلى عناصر بيئتنا من هواء وماء وتربة تبلغ نحو 710 ملايين طن سنوياً من المخلفات البلاستيكية "الماكْرو"، أي الكبيرة الحجم التي نراها بعيوننا المجردة أمامنا في كل مكان، إضافة إلى 1.5 مليون طن سنوياً من المخلفات الميكروبلاستيكية والجسيمات البلاستيكية الصغيرة الحجم، وهذه المخلفات بالتحديد تصل إلى أجسام الكائنات الحية، مثل النباتات المأكولة، حسب الدراسة المنشورة في 13 يوليو من العام الجاري في مجلة استدامة الطبيعة(Nature Sustainability تحت عنوان: "دخول الميكروبلاستيك إلى المحاصيل الزراعية". فقد أكد علماء من الصين على وجود الميكروبلاستيك في جذور وساق وأوراق الخضروات، ومن هذه الخضروات ينتقل البلاستيك إلى الحيوانات، ثم إلى السلسلة الغذائية التي تنتهي بالإنسان، فتبدأ هذه المخلفات البلاستيكية في التراكم في أعضاء جسمه مع الزمن، بحسب ما أكدتها الدراسة المنشورة في مجلة تطورات العلوم(Science Advances)في العدد المنشور في 13 نوفمبر من العام الجاري، ولا يعلم أحد حتى الآن التأثيرات الصحية التي تنجم عن مثل هذه الظاهرة المستجدة، والأمراض والعلل الحادة والمزمنة التي ستنزل علينا مستقبلاً.

 

فالمخلفات البلاستيكية تمثل تهديداً حقيقياً لصحة البيئة ومكوناتها الحية من إنسان وحياة ونبات، والدراسة المنشورة في مجلة رسائل الحماية(Conservation Letters)في الثالث من ديسمبر من العام الحالي تحت عنوان: "التلوث البلاستيكي يقتل الأحياء البحرية، ولكن كيف نضع السياسات لخفض الوفيات؟"، تؤكد على هذه الحقيقة، ولكن هناك الكثير من الغموض الذي يدور حول هذه المخلفات والتي مازال الإنسان يجهله، مثل كيفية تصرف المخلفات عندما تدخل في البيئة، وما هو مصيرها النهائي، وكيف تتراكم في أعضاء الكائنات الحية، وكيف تنتقل من مكونات البيئة غير الحية إلى الكائنات الحية، وما هي تأثيراتها الصحية عليها؟