الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

شهادة الوفاة تؤكد أن تلوث الهواء سبب وفاة طفلة بريطانية!

قرار تاريخي اتخذته محكمة في العاصمة البريطانية لندن في 16 ديسمبر من العام الجاري، وهذا الحُكم المحوري لم ينعكس على بريطانيا فحسب، وإنما انتقل صداه ليعمَّ العالم أجمع، وينقش بصماته في كتب التاريخ البيئي عامة.

فربما ولأول مرة تُصدر الجهات المعنية بإخراج شهادات الوفيات في بريطانيا، شهادة وفاة لطفلة صغيرة في السن لا يتجاوز عمرها التسع سنوات، وتؤكد بأن سبب وفاة هذه الطفلة هو "تلوث الهواء" والتعرض للملوثات الخطرة، وتُسجل هذه الحالة الفريدة من نوعها سابقة في الشهادة الرسمية بأن موتها نجم عن استنشاق ملوثات قاتلة كانت موجودة في الهواء. وهذه الشهادة مستندة على قرار هذه المحكمة التاريخي الذي أثبت بأن تلوث الهواء ساهم في قتل هذه الطفلة اللندنية، حيث خلص القاضي إلى استنتاجات حول موت الطفلة، جاء فيها بأن هذه الطفلة قد انتقلت إلى مثواها الأخير "بسبب إصابتها بالربو، وأن تعرضها للهواء الجوي الملوث ساهم في سرعة موتها"، كما صدر عن القاضي أيضاً بأن: "المصدر الرئيس لتعرضها للملوثات التي أدت إلى موتها هو الانبعاثات من عوادم السيارات".

 

فولادة هذا الحكم المفصلي لم تأت بين عشية أو ضحاها، ولم تكن بهذه السهولة والبساطة التي قد يظنها البعض، وإنما جاءت بعد مخاضٍ طويل وعسير، وبعد جهد شاق متواصل، استغرق قرابة سبع سنوات، أي منذ 15 فبراير عام 2013  يوم أن قضت الطفلة نحبها، فوالدة هذه الطفلة لم تستسلم لسبب الوفاة الأصلي الذي صدر من الجهات المعنية، وجاء فيه بأن الوفاة كانت نتيجة لنوبة ربو شديدة، ومشكلات حادة في الجهاز التنفسي، فقد علمت أم هذه الطفلة المفجوعة بأنها كانت تعيش في منطقة مسمومة وملوثة تحيط بها الشوارع المكتظة بالسيارات من كل صوب، وكانت تعلم أيضاً بأن هذه المصانع المتحركة بعشرات الآلاف التي تحوم حول منزلها تثير الحساسية لدى طفلها وتسبب لها التهابات حادة ومزمنة في الجهاز التنفسي، وتودي بها إلى التعرض لنوبات الربو والإصابة بالتشنجات، حيث إن طفلتها هُرعت إلى قسم الطوارئ أكثر من ثلاثين مرة خلال فترة زمنية قصيرة. فالهواء، كما أثبت المحامي كان شديد التلوث في المنطقة التي تعيش فيها الطفلة، ونسبة الملوثات كانت مرتفعة جداً وتزيد عن معايير الاتحاد الأوروبي والأدلة الاسترشادية الخاصة بجودة الهواء لمنظمة الصحة العالمية، علماً بأن بريطانيا تعرضت لعدة أحكام قضائية صادرة من محاكم الاتحاد الأوروبي بالنسبة لمخالفتها لقوانين الاتحاد البيئية وبالتحديد بالنسبة لمواصفات جودة الهواء الأوروبية.

 

ومن أهم الملوثات الخطرة والسامة التي تسبب مشكلات صحية للبشر، وتهدد حياتهم بالوقوع في الأمراض والعلل والموت المبكر، والمعنية في هذه المحاكمة، هما غاز ثاني أكسيد النيتروجين الحمضي الذي يسبب حساسية شديدة والتهابات خطيرة في كافة مجاري الجهاز التنفسي العلوي والسفلي، إضافة إلى الدخان، أو الجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم التي تدخل مباشرة إلى مجرى الدم، وتنتقل منه إلى جميع خلايا الجسم، سواء أكانت خلايا المخ، أو خلايا المشيمة في المرأة الحامل، فتنتقل منها إلى الجنين في رحم أمه.

 

ولذلك لو حلَّلنا قرار قاضي المحكمة والاستنتاجات التي توصل إليها لأول مرة في التاريخ لوجدنا ما يلي:

أولاً: قرار المحكمة يربط بشكلٍ مباشر لا لبس فيه بين تلوث الهواء واستنشاق ملوثات الهواء الجوي وموت هذه الطفلة، فهذا الُحكم يعني بشكلٍ عام موت الإنسان في كل أنحاء العالم إذا عاش في بيئة هواؤها ملوث ومسموم، وهذه أول حالة محددة معروف فيها اسم الإنسان الميت بسبب تلوث الهواء.

 

ثانياً: أكد قاضي المحكمة بأن المصدر المتهم بتلوث الهواء الجوي وموت الطفلة هو السيارات، مما يحتم على الحكومات وبالتحديد الجهات المختصة بحماية البيئة أن تضع هذا المصدر لتلوث الهواء الجوي ضمن قائمة أهم الأولويات، وتحدد برنامجاً حكومياً يعمل على منع، أو خفض أحجام الملوثات التي تنبعث من السيارات.

 

فهذه الحالة تؤكد التحذيرات التي تصدر عن منظمة الصحة العالمية منذ سنوات حول التهديدات الصحية الخطيرة التي يمثلها تلوث الهواء الجوي. فقد صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في 27 أكتوبر 2018 بأن تلوث الهواء أصبح الآن "حالة صحية طارئة وصامتة"، حيث قال: "لقد تجاوز العالم منعطف التبغ، ونواجه الشيء نفسه في الهواء السام الذي نستنشقه، والذي يُعد التبغ الجديد، فلا أحد يَسْلم من تلوث الهواء، لا غني ولا فقير، إنها حالة صحية طارئة وصامتة"، إضافة إلى أن منظمة الصحة العالمية نفسها ممثلة في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان قامت في عام 2015 بتصنيف "الهواء الجوي" بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان.

 

كما أكد المدير العام في الكلمة الافتتاحية لمؤتمر منظمة الصحة العالمية الأول حول "تلوث الهواء والصحة" والذي عقد في جنيف في الفترة من 30 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر 2018، قائلاً بأن: "تلوث الهواء يمثل أحد أكبر الأخطار التي تهدد الصحة العامة"، حيث تقدر منظمة الصحة العالمية بأن تلوث الهواء يتحمل مسؤولة قتل زهاء سبعة ملايين من البشر سنوياً، كما أن التقارير الرسمية الصادرة من بريطانيا وحدها تفيد بأن قرابة أربعين ألف بريطاني يلقون نحبهم وينقلون في سن مبكرة إلى مثواهم الأخير سنوياً، فتلوث الهواء يسبب لهم أمراض القلب، وسرطان الرئة، وأمراض الجهاز التنفسي المختلفة، ولذلك أعلنت لجنة برلمانية في مجلس العموم البريطاني في عام 2016 بأن تلوث الهواء يُعد "حالة طوارئ عامة".

فبعد كل هذه الأدلة الدامغة والمتواترة على تورط تلوث الهواء في قتل البشر، لا بد على الجميع أفراداً، وشعوباً، وحكومات، ومجالس نيابية أن يعطوا جل اهتمامهم وعنايتهم بهذه القضية الشائكة التي تهلك يومياً أطفالنا، وشبابنا، وشيوخنا على حدٍ سواء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق