الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020

بعد تلقيح البشر، هل سينتهي المرض؟

تمكن العلماء بفضل علمهم الغزير حول تكاثر الفيروسات عامة وطرق تعدِّيها على أجسام البشر، إضافة إلى خبرتهم الطويلة وتراثهم المتراكم في التعامل مع الفيروسات منذ أكثر من 128 عاماً، وبالتحديد في عام 1892 عندما دخل الإنسان لأول مرة عالم الفيروسات وتعرَّف على أول فيروس أثناء القيام بتجاربه المخبرية، أن يحقق معجزة غير مسبوقة في علم تطوير وإنتاج اللقاحات لمكافحة الفيروسات المرضية المعدية.

 

فقد نجح العلماء في تحطيم الأرقام القياسية في فترة قصيرة جداً مقارنة بالسنوات الطويلة العصيبة التي كان يقضيها في السابق في تطوير اللقاحات ضد الأمراض الفيروسية، حيث استطاعوا أن يطورا وينتجوا اللقاح الخاص بواحد من أشد الأوبئة التي نزلت على البشرية، فأصاب حتى الآن أكثر من 77 مليون من البشر في كل بقعةٍ صغيرة أو كبيرة من الأرض، كما قضى قرابة 1.7 مليون نحبهم ونقلوا إلى مثواهم الأخير، فقد صنع العلماء لقاحات خاصة ومتطورة جداً باستخدام تقنيات مختلفة ضد وباء فيروس كورونا (Sars-CoV-2) في قرابة سنة واحدة فقط، بعد إعلان وتسجيل الحالات الأولى من العدوى بهذا الفيروس القاتل في الصين في ديسمبر 2019.

 

فهناك تقنيات وأساليب جديدة تُطور لأول مرة في تاريخ البشرية، منها التي قامت شركة فايزر_بيونتك وموديرنا بتطويرها، وهي التقنية المعتمدة على التركيب الجيني للفيروس، والتي تُعرف بتقنية الحمض النووي الريبوزي (messenger RNA حيث تطور أحماض نووية يتم هندستها وراثياً وتعمل على تحفيز الخلايا لتكوين بروتينات مشابهة لبروتينات من فيروس كورونا، ومنها استخدام تقنيات قديمة تم تحديثها وتطويرها مثل خلط فيروسات الإنفلونزا غير النشطة والمعطلة مع جينات فيروس كورونا المسبب للمرض، كالتي قامت بها شركة أسترا زينيكا مع جامعة أكسفورد وجونسون و جونسون، ومنها تقنية شركتي نوفافاكس وسانوفي التي تقوم باستخلاص البروتينات من الفيروس.

 

والآن هل سينتهي هذا المرض العصيب بعد تطوير كل هذه اللقاحات وتطعيم البشر بها؟

وهل سينجح الإنسان من تحقيق معجزة ثانية تتمثل في استئصال هذا المرض من جذوره في المجتمع البشري، كما حقق نجاحاً باهراً في تطوير اللقاح في هذه الفترة الزمنية القصيرة؟

 

ففي تقديري فإن الإنسان لن يتمكن من تحقيق هذا الهدف كلياً والقضاء بشكلٍ تام على هذا الوباء الذي تفشى في كل أنحاء الكرة الأرضية، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: لا يعرف العلماء حتى الآن مدى فاعلية اللقاحات التي قام بتطويرها في قتل هذا الفيروس الخبيث، فهو كباقي الفيروسات يتغير ويتحور من سلالةٍ إلى أخرى، وقد تكون هذه اللقاحات غير مصممة للتعامل مع كل هذه التحولات الطبيعية التي تطرأ على فيروس كوفيد_19. فعلى سبيل المثال، أعلنت بريطانيا في 14 ديسمبر بأن الفيروس قد تحور إلى سلالة جديدة غير معروفة، وغول مخيف شديد العدوى للبشر، وأشد وطأة عليه وأكثر عدوانية، وقد تكون هذه السلالة أكثر مقاومة للقاحات عامة، مما اضطر رئيس الوزراء بوريس جونسون إلى الدعوة لاجتماع طارئ لمجلس الوزراء في 19 ديسمبر من العام الجاري، ثم إغلاق لندن برمتها ومنع التجمعات والاحتفالات أثناء عطلة رأس السنة الميلادية، مع العلم بأنه أعلن بأنهم فقدوا السيطرة عليها. وجدير بالذكر أن مثل هذه التحولات للفيروس الأصلي الذي ظهر في وهان، انكشف قبل أشهر في عدة دول أخرى، مثل بلجيكا، وهولندا، وأستراليا، والدنمارك، ودولة جنوب أفريقيا. 

ثانياً: فيروس كوفيد_19 كفيروسات كورونا الأخرى، مثل فيروس الإنفلونزا، أو فيروس البرد الموسمي العادي المعروف لدي الإنسان منذ عقود، والذي لم ينجح الإنسان حتى الآن من تطوير لقاحٍ خاص يقضي كلياً على مرض الإنفلونزا، فكل ما يقوم به العلماء هو إنتاج وتحديث لقاح سنوي من سلالات متعددة من فيروس الإنفلونزا يختلف عن السنة السابقة بهدف تكوين مناعة مؤقتة عند الإنسان، والتخفيف من حدة المرض عند الإصابة به.

 

ثالثاً: حتى لو سلَّمنا بأن اللقاحات التي تم تطويرها فاعليتها مرتفعة جداً في القضاء على الفيروس، فإن هذه اللقاحات لن تصل إلى البشر كلهم في كل أنحاء المعمورة. فالدول الغنية اشترت واستحوذت على الملايين من الجرعات من كل أنواع اللقاحات، وهي في حد ذاتها لا تكفي حتى لتلقيح كافة أفراد الشعب في هذه الدول، مما يعني بأن هناك مئات الملايين من البشر الذين سينتظرون دورهم بعد عدة سنوات لتلقي اللقاح، وفي هذه الأثناء سيكونون قنابل موقوتة معدية، وسيكونون عرضة للإصابة بالمرض ونقل العدوى إلى الآخرين.

 

وعلاوة على عدم توفر اللقاح لجميع البشر، فإن هناك فئة من الناس في جميع دول العالم مازالت لا تؤمن بفكرة تطعيم البشر، ولا تثق بفاعلية اللقاحات بشكلٍ عام، بل وتعمل على اقناع الناس إلى تجنب تلقي اللقاح. فقد أشارت استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية بأن 30% من الأمريكيين لا يرغبون بأخذ اللقاح، كما أن 28% من الأمريكيين من أصول أفريقية لا ينون أخذ اللقاح بسبب عدم الثقة، وعدم الاقتناع بجدواه وفاعليته. كذلك أفاد تقرير منشور في صحيفة "موسكو تايمس" في 17 ديسمبر بأن عدد المقبلين على اللقاح الروسي (Sputnik V) قليل جداً، كما أن استطلاعات الرأي في روسيا تفيد بأن 59% من الروس غير راغبين في أخذ اللقاح، وأن 13% فقط من الروس يثقون بلقاحهم. فكل هذه الأعداد الكبيرة من الناس الذين لا يرغبون في التطعيم ضد فيروس كورونا سيكونون تهديداً مباشراً على الآخرين، وحتماً سينقلون المرض إلى الأصحاء، مما يؤكد بأن المرض سيبقى منتشراً بين بني البشر.

 

كذلك فإن الشك في اللقاح ينبع من تصريحات رجال السياسة المتناقضة في الكثير من دول العالم لأغراض انتخابية والضغط على العلماء وشركات إنتاج اللقاحات في تبني الطرق السريعة غير المعتمدة في مجال إنتاج اللقاح وفرضه على الناس، إضافة إلى التعجيل في الترخيص المشروط للقاح للحالات الطارئة دون إعطاء الفرصة الكافية لمراجعات علمية مستفيضة ومعمقة، كما هو العادة بالنسبة للقاحات الجديدة. فعلى سبيل المثال، أعلن بوتين مبكراً جداً قبل نضوج مراحل تطوير اللقاح، وبخاصة المرحلة الثالثة التي تتطلب إجراء تجارب على عشرات الآلاف من البشر، وبالتحديد في 11 أغسطس بأن روسيا هي أول بلد في العالم ترخص للقاح ضد فيروس كورونا!

ولذلك من أجل كسب ثقة الناس ونيل موافقتهم على تلقي اللقاح، يقوم رجال السياسة وقادة الدول على أخذ اللقاح أمام أعين الكاميرات، وأمام رجال الإعلام، كما فعل الرئيس الأمريكي المنتخب بايدن عندما تلقى اللقاح في 21 ديسمبر.

 

وخلاصة لما سبق فإن فيروس كورونا سيمكث معنا سنوات طويلة لا يعلمها إلا الله، مما يؤكد علينا عدم التهاون في إدارة هذا المرض العضال حتى بعد تطعيم الناس، والاستمرار في تنفيذ الإجراءات واتخاذ الاحتياطات الشخصية، والجماعية، والمجتمعية الوقائية، مثل لبس الكمامات، والتباعد الاجتماعي، وغسل اليدين، وتجنب التجمعات الداخلية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق