الأربعاء، 6 يناير 2021

تحفيز الاقتصاد الأمريكي وتحفيز التغير المناخي

ما يعرفه الجميع الآن هو أن الرئيس الأمريكي ترمب قد وقَّع مضطراً في 27 ديسمبر من العام المنصرم على مجموعة من التشريعات التحفيزية المالية بعد أيام من التردد والعناد للحزبين الجمهوري والديمقراطي والكونجرس على حدٍ سواء، وبعد وصفه للتشريعات بأنها "وصمة عار"، وبعد هجوم الجميع على موقفه وإبداء الاستياء والغضب من التأخير المتعمد للقانون. فجاءت هذه الحزمة من التشريعات الإغاثية الفورية التي بلغت 900 بليون دولار، ومن أهمها قانون "الإنقاذ من كوفيد_19 "(COVID-19 Relief Bill)، وقانون "الإنفاق الحكومي" من أجل إنعاش الاقتصاد الأمريكي، وإعطائه دفعه مالية قوية لتحريك المياه الآسنة والراكدة، وبث الروح فيه من جديد بعد أن هبَّت عليه ريح فيروس كورونا الصرصر العاتية التي أهلكت البشر والحرث والنسل، فجعلت الاقتصاد الأمريكي والعالمي يعيشان في فترة مريرة حالكة ومظلمة من الركود والضعف والكساد العظيم.

 

ولكن ما لا يعرفه الكثير من الناس، وما لم يغطه الإعلام التغطية التي تستحق، أن مع هذه التشريعات التحفيزية الداعمة للاقتصاد، والمعونات النقدية المباشرة التي قُدِّمت للشعب المتضرر بكل فئاته وطبقاته وأعماله، كانت هناك قوانين وبنود في بعض هذه التشريعات تصب في مصلحة حماية الكرة الأرضية من وباء السخونة الذي تعاني منه منذ عقود من الزمن دون أن يتوصل المجتمع الدولي إلى حلٍ جذري مشترك وملزم للجميع. فبعض التشريعات التي وافق عليها الكونجرس وصدَّق عليها الرئيس ترمب، ولا أعلم كيف فاتت عليه لحساسيته المفرطة ضد التغير المناخي، كانت ولأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمن تعطي في الوقت نفسه تحفيزاً لشؤون وهموم أزمة التغير المناخي العقيمة، وتُقدم دفعة للأمام لمحاربة وباء التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض ورفع مستوى سطح البحر، إضافة إلى التداعيات الأخرى البيئية، والأمنية، والصحية، والاقتصادية التي تنجم عنه. 

 

فمن ضمن هذه الحزمة العظيمة من التشريعات غير المسبوقة في التاريخ الأمريكي، تشريعات ومواد قانونية تعتمد خفض استهلاك المواد الكيميائية التي صنعها الإنسان بيديه، وهي مجموعة من الغازات العضوية التي تحتوي على عنصر الفلور والكلور، وتقع جميعها تحت مسمى المركبات الكربونية المحتوية على الفلور، أو الهيدروفلوروكربون(hydrofluorocarbons (HFCs)). وهذه المجموعة من المركبات كانت عند إنتاجها نعمة على بني البشر، فهي مركبات كيميائية غير سامة، ومستقرة وثابتة لا تتحلل، ولا تشتعل، ولا تؤذي البشر أو الكائنات الحية الأخرى، ولها استخدامات لا تُعد ولا تحصى، منها في الثلاجات، والبرادات، والمكيفات، وأجهزة إطفاء الحريق، والبخاخات، وعوازل المباني والمنازل، وفي الأثاث المنزلي والمكتبي، وغيرها من التطبيقات التي لا يمكن الاستغناء عنها. ولكن بعد عقودٍ من الاستخدام في كل أنحاء العالم بدون استثناء، تحولت النعمة إلى نقمة عقيمة للبشر، وتحول الخير إلى فساد وتدمير شامل غطى كل شبر صغير أو كبير من كوكب الأرض. فهذه الغازات نظراً لثباتها في طبقات الجو السفلى، أو طبقة التروبسفير، تحركت إلى أعلى وانتقلت يوماً بعد يوم وبسرية تامة لا يعلمها أحد إلى طبقات الجو العليا، وبالتحديد طبقة الأوزون التي هي جزء من طبقة الأستراتسفير، فتتحلل هناك في أعالي السماء، ونتج عن هذا التحلل غاز الكلور الذي يحول غاز الأوزون الموجود في تلك الطبقة والذي يعمل كمظلة واقية من شر الإشعاعات الكونية فوق البنفسجية الضارة لكل كائن حي والتالفة للمواد، إلى غاز الأكسجين الذي ليس له القدرة على امتصاص الأشعة الضارة، مما يعني بأن هذه الأشعة القاتلة تصل إلى سطح الأرض فتهلك كل من عليها من الكائنات. 

 

ولذلك تحرك المجتمع البشري بشكل جماعي مشترك للتخلص من هذه المركبات وحماية طبقة الأوزون ، وأثمر هذا التحرك في صياغة معاهدة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة للتخلص تدريجياً من هذه المواد المستنفدة لطبقة الأوزون تحت مسمى "بروتوكول مونتريال" لعام 1987. وهذه المركبات الهيدروفلوركربونيه لها تأثير مزدوج على البيئة وصحة الناس، فعلاوة على إتلاف طبقة الأوزون فإنها ترفع من درجة حرارة الأرض وتحدث ظاهرة التغير المناخي، ولذلك فأية مبادرات ومعاهدات تحظر استخدام وإنتاج هذه المواد تفيد البشرية جمعاء من ناحية صيانة غاز الأوزون في طبقة الأوزن، وفي الوقت نفسه منع سخونة الأرض وارتفاع حرارتها. ثم بعد بروتوكول مونتريال صدرت عدة تعديلات وتحديثات للمعاهدة الدولية كان منها "تعديل كيجالي"(Kigali Agreement) في روندا في أكتوبر عام 2016، حيث وقع الرئيس السابق أوباما عليها في الساعات الأخيرة من حكمه مع 197 دولة بهدف التخلص كلياً من المركبات الهيدروفلوروكربونيه، والعمل على إنتاج البدائل غير المستنفدة لطبقة الأوزون، والتي هي أقل وطأة وتأثيراً على إحداث التغير المناخي لكوكبنا،  فجاء ترمب وألغى كل هذه الجهود الدولية المضنية ورفض التصديق عليها، بل وقام بالعكس كلياً حيث أوقف الأنظمة والمواصفات الاتحادية الخاصة بحظر استخدام هذه المواد.

 

واليوم وبعد الهزيمة الشديدة التي مُني بها، اضطر إلى الموافقة على هذه المعاهدة الدولية من خلال التصديق على الحزمة الاقتصادية لمحاربة كورونا، والتي تضمنت المنع التدريجي لهذه المواد المؤثرة على الأوزون وعلى التغير المناخي على حدٍ سواء. كما أن ترمب في الوقت نفسه أرجع عقارب الساعة إلى الوراء، وبالتحديد إلى عهد أوباما حيث صادق ترمب من حيث يدري أو لا يدري على معظم البرامج التي أحدثها أوباما أثناء ولايته، ولها علاقة مباشرة بمكافحة التغير المناخي ومواجهة تداعياتها من خلال منع وخفض انبعاث الملوثات المتهمة بسخونة الأرض. فعلى سبيل المثال، صادق ترمب على برنامج أوباما الخاص بالطاقة المتجددة والنظيفة، والبرنامج المتعلق بتقنيات تخزين الطاقة، كالبطاريات الخاصة بطاقة الرياح والطاقة الشمسية، إضافة إلى برنامج تطوير وتحديث تقنيات الطاقة الشمسية والنووية، وتقنيات إزالة وتخزين ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث من محطات توليد الكهرباء ومن المصانع ومنعها من الدخول في الهواء الجوي. كذلك أعادت حزمة التشريعات الجديدة تمويل البرنامج الخاص بتغيير وتأهيل محركات سيارات الديزل القديمة بأخرى جديدة، ووضع أجهزة حديثة على المصانع التي تعمل بالغاز الطبيعي لاكتشاف التسربات من غاز الميثان، أحد المسؤولين عن إحداث التغير المناخي، إضافة إلى منع انبعاثه إلى الهواء الجوي.

 

ولذلك من خلال متابعاتي لدور أمريكا في محاربة قضية التغير المناخي على المستويين الاتحادي والدولي، أرى بأنها تدور في حلقة مغلقة مفرغة لا إنجاز كبير وجذري فيها، ففي قمة الأرض وافق جورج بوش الأب على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، ثم وقع كلينتون على بروتوكول كيوتو، فجاء جورج بوش الابن ورفض التصديق عليه، ثم دخل أوباما البيت الأبيض ووقع على اتفاقية باريس للتغير المناخي، وعند صعود ترمب إلى الحكم انسحب منها كلياً، واليوم نحن أمام عهدٍ رئاسي جديد بزعامة بايدن الذي قدَّم وعوداً كثيرة لمواجهة تداعيات التغير المناخي وبداية ناجحة وموفقة، ولكن ستُرينا الأيام القادمة مدى مصداقيته في الالتزام بها وتنفيذها كلها على أرض الواقع.  

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق