الجمعة، 15 يناير 2021

اقتحام مبنى الكونجرس وتوفير الغطاء السياسي


يوم الأربعاء السادس من يناير من العام الجاري، وبالتحديد من بعد الساعة الثانية بعد الظهر، لم يكن يوماً عادياً طبيعياً مرَّ على الشعب الأمريكي، وبخاصة في مدينة واشنطن دِي سِي العاصمة الأمريكية، ولم يكن يوماً روتينياً لجلسة الكونجرس المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ والمخصصة للتصديق على فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية.

 

فقد كانت سويعات عصيبة ومؤلمة لن ينساها الشعب الأمريكي أبداً في هذا الجيل والأجيال اللاحقة، وقد كانت دقائق طويلة جداً عانى منها أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، فحفرت بصماتها خالدة مخلدة ليست في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل وتاريخ الديمقراطية على المستوى الدولي، فأثناء هذه الدقائق توجهت أبصار العالم كلها نحو الولايات المتحدة الأمريكية لترى أمام أعينها هذا الحدث التاريخي غير المسبوق، وبخاصة نحو مبنى الكونجرس(Capitol Hill)، الرمز الشامخ والعريق للديمقراطية الأمريكية، وأثناء هذه الدقائق انصبت أسماع وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم لتنقل وتوثق كل ثانية من هذه الواقعة العظيمة والطامة الكبرى التي نزلت على أمريكا عامة، وبخاصة على الديمقراطية الأمريكية العريقة التي تتفاخر وتعتز بها منذ نحو قرنين من الزمان.

 

فقد وقع هجوم سريع  كاسح كالريح الصرصر العاتية في عقر دار الديمقراطية الأمريكية، وهو مبنى الكابيتل، أو مبنى الكونجرس، حيث تحرك تيار بشري من عشرات الآلاف من الأمريكيين الغاضبين المحتشدين أمام البيت الأبيض بعد سماعهم لخطاب الرئيس ترمب، واتجهوا جميعاً سائرين على أقدامهم نحو مبنى الكونجرس التاريخي، وغير مكترثين بما يصادفهم أمامهم من الحواجز الأمنية، أو رجال الشرطة الحارسين لهذا المبنى الأثري، فاشتبكوا مع الشرطة، واقتحموا أسوار المبنى بالقوة، وتدافعوا بعنف وبأعدادٍ كبيرة أمام بوابة المبنى، فكسروا النوافذ والأبواب، واحتلوا المبنى خلال سويعات قليلة جداً استمرت تقريباً من الساعة الثانية إلى السابعة مساءً، فعاثوا فيها فساداً وسرقة ونهب وتخريب، حتى جاءت الشرطة المختصة وتصادمت معهم وطردتهم من المبنى كلياً، فكانت الحصيلة النهائية الإجمالية حتى الآن موت إحدى المتظاهرات، وقتل رجل أمن وثلاثة آخرين، وجرح نحو 14 واعتقال مائة من المتمردين، كما أكدت تقارير الشرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي(إِف بِي آي) بأن الذين اقتحموا المبنى ويقفون وراء هذا التمرد العنيف هم من جماعات اليمين المسيحي المتشدد، وجماعات تفوق العرق الأبيض، وجماعة "الأولاد الفخورون"(Proud Boys)، إضافة إلى جماعة "النازيون الجدد"، وبعض الجماعات والميليشات المسلحة مثل(Three Percenters)، علماً بأن الغالبية العظمى من المقتحمين كانوا من الرجال البيض، وكان بعضهم يحمل أسلحة يدوية، وعصي، ورذاذات كيميائية، ويلبس الدروع، إضافة إلى اكتشاف قنابل أنبوبية خارج المبنى، وكان الذين هاجموا المبنى يهتفون قائلين: "نحن نريد أن نُري هؤلاء السياسيين بأننا نحن المسيطرون وليسوا هم"، و "نحن لدينا القوة"، و "أقتلوا الإعلام"، وكانوا يُطلقون على الشرطة كلمة "خنازير".

 

ولكن هل وقعت هذه الواقعة فجأة ودون سابق إنذار، وبشكلٍ عفوي وعشوائي غير منظم وغير مدروس، أم أنها كانت تسخن على نارٍ هادئة لفترة طويلة من الزمن، وكان مِن ورائها من يزودها بالوقود لتشتعل وتبقى ساخنة طوال هذه المدة الزمنية، فيوفر لها الغطاء الشرعي والسياسي والأمني اللازم لاستمراريتها دون أن تنطفىء؟  

 

في الحقيقة فإنني أُتابع تصريحات الرئيس الأمريكي ترمب نفسه منذ ولوجه في البيت الأبيض، وأراقب وأقارن في الوقت نفسه تحركات ومواقف اليمين المسيحي المتطرف العنيف أصحاب نظريات المؤامرة، وبالتحديد نظرية مؤامرة كيو أنون التي تؤمن بأن ترمب أرسله الله لإنقاذ أمريكا والبشرية من الدولة العميقة ومن الفاسدين والمنحلين خُلقياً الذين يحكمون هذه الدول، وأن ترمب سيقوم بالتخلص منهم يوم "العاصفة" وزجهم جميعاً في السجون. ولذلك فإنني كُنتُ على يقين بأن مسلسل الأحداث خلال الأربع سنوات الماضية والتصريحات والمواقف التي يتبناها ترمب، تُشير كلها إلى ساعة الصفر التي شهدها العالم أجمع، وأُلخص هذه المؤشرات في النقاط التالية:

أولاً: ترمب يصف كل قضية لا تتوافق مع أهوائه ومصالحه الشخصية أو الحزبية بأنها خدعة(hoax)، وأنها مؤامرة من دولة أجنبية، أو من الحزب الديمقراطي ومن الدول العميقة، مثل قضية التغير المناخي، ووباء فيروس كورونا، والانتخابات الرئاسية التي خسر فيها خسارة مذلة وساحقة، إضافة إلى انتخابات ولاية جورجيا التي سمحت للحزب الديمقراطي من السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ وكافة مفاصل الحكم، وأخيراً حُذف حسابه كلياً من وسائل الاتصال الاجتماعي، سواء من الفيس بوك، والإنستجرام، أو من التويتر، فكل هذه مؤمرات ضده. وفي كل هذه الحالات كان ترمب يفتري ويكذب ويثير الشكوك قائلاً بأن دول العالم تعادي الولايات المتحدة الأمريكية، وأن النظام الانتخابي متحيز وغير سليم ويسود فيه التزوير والفساد. وكان دائماً يشحن الشعب الأمريكي، وبخاصة قاعدته الانتخابية من اليمين المسيحي المتطرف بالتصريحات المتشددة والتي فيها تحد للنظام الديمقراطي، حيث قال مرة بأنه "يرفض النتائج إذا خسر في الانتخابات"، كما قال بأن لديه "شكوك حول الانتخابات والنظام الانتخابي".

ثانياً: تصريحات ترمب دائماً كانت عدوانية تثير الشعب الأمريكي، وتقف دائماً مع الجماعات اليمينية المتطرفة، وجماعات تفوق العرق الأبيض، وتحثهم على التصدي للفساد والدولة العميقة، وتحرضهم على تحويل الأقوال إلى أعمال، كما إنه في الوقت نفسه كان دائماً يرفض انتقاد وإدانة أعمال العنف والإرهاب التي تقوم بها هذه الجماعات، بل ويوفر لهم الغطاء السياسي والأمني والتشريعي لممارساتهم العنيفة المتكررة، مثل اقتحام مبنى عاصمة ولاية ميشيجن من قبل يمينيين مسلحين احتجاجاً على إجراءات الإغلاق بسبب كورونا في العام المنصرم، حيث قال لهم ترمب "حرروا ميشيجن"، والمحاولة الانقلابية التي كشف عنها مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي في أكتوبر من العام المنصرم في ولاية ميشيجن، علاوة على العملية الإرهابية التي كشف عنها المكتب في 22 ديسمبر 2020 حول تخطيط هذه الجماعات لعمليات إرهابية كبيرة، منها مهاجمة محطات توليد الكهرباء. فمثل هذه المواقف والسياسات الداعمة لهذه الجماعات والتي امتدت أربع سنوات، كانت بمثابة الضوء الأخضر لمواصلة أنشطتهم العنيفة وممارساتهم التخريبية.

ثالثاً: بعد أن تأكد ترمب بأنه انهزم في الانتخابات، وبعد أن خسر أكثر من ستين دعوى قضائية رفعها حول نزاهة العملية الانتخابية، قام بطرح ورقته الأخيرة القاضية، وهي دعوة أنصاره للاحتشاد أمام البيت الأبيض ظهر يوم السادس من يناير، قبيل بدء جلسة مجلسي النواب والشيوخ. وهناك خَطَب في الحشد المشحون كراهية وبُغض على النظام الديمقراطي والحكم الفيدرالي لمدة قرابة 70 دقيقة، وكأنه القائد العسكري الميداني الذي يحمِّس جنوده قبل خوض المعركة فيدفعهم للقتال والتضحية من أجل الوطن، ويقوي شوكتهم للقاء العدو، حيث حرضهم على السير قائلاً:"سنمشي معاً وأنا سأكون معكم"، ولكنه ذهب أدراجه إلى البيت الأبيض وترك الحشود تسير وحيدة، ومن أكثر أقواله المحرضة للعنف أثناء هذا الخطاب ما يلي:"أنتُم لن تسترجعوا بلادنا بإبداء الضعف، يجب أن تُبْدوا القوة ويجب أن تكونوا أقوياء... وأن لا تقبلوا بالهزيمة"، "قاتلوا بشراسة"، "انتهى وقت الكلام".

 

وبعد هذه الكارثة التاريخية، لم يقم فوراً وبشكل مباشر بإدانة أعمال العنف والإرهاب، ولم يأمر أتباعه بالتوقف، بل غرَّد قائلاً بأن عليكم أن تبقوا على السلمية، وبارك وجودهم في المبنى، ولكن بعد ضغوط من الجمهوريين، سجل فيديو عبر التويتر فبرر أعمالهم، ودافع عنهم قائلاً:" هذه الأشياء والأحداث تقع عندما يتم تجريد الوطنيين العظماء من الانتخابات التي تم الفوز الساحق فيها، والذين يتم التعامل معهم منذ سنوات بشكلٍ غير عادل وسيء"، كما قال: "أَعْرف ألمكم، أعرف بأنكم مجروحون، "وأعرف كيف تشعرون"، وأضاف قائلاً: "إنها فترة عصيبة...لقد أُخذت منا جميعاً، أخذت مني، ومنكم، ومن بلدنا، نحن نحبكم وأنتم أناس مميزون...ولن يتم اسكاتنا".

 

فجميع هذه المؤشرات القوية كانت أمام الجهاز الأمني الأمريكي، ولكن لم يستبق الأحداث فيقوي من وجوده في الميدان، وكل هذا التقاعس والاتكالية كان بسبب الغطاء والدعم السياسي الكثيف والقوي الذي زود به ترمب هذه الجماعات طوال فترة حكمه، وهذه الظاهرة بدأت تنتشر في دول أوروبية منها ألمانيا، وهولندا، وفرنسا، وبريطانيا، مما يجعلني أدعو إلى التعامل مع هذه الجماعات اليمينية المسيحية العنيفة بالطريقة نفسها التي يتعامل فيها المجتمع الدولي مع الجماعات الإسلامية المتطرفة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق