الجمعة، 30 أكتوبر 2020

من يقف وراء نظرية كُيو أنُون؟

اندهشتُ كثيراً من رَدْ رئيس أكبر دولة على وجه الأرض تقدماً وعلماً، وأشدها تغلغلاً في معرفة دقائق وخفايا القضايا الداخلية والخارجية لوجود أذرعها الاستخباراتية والمعلوماتية المنتشرة في كل أنحاء العالم، والتي تُعد بالآلاف، وترى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، وتمتد عيونها وأسماعها من أعالي السماء من الأقمار الصناعية الجاسوسية ومن رجالها في الميدان إلى كل بقعةٍ صغيرة أو كبيرة من بقاع الأرض، ولذلك استغربتُ عندما سُئل الرئيس ترمب في الحوار الرئاسي الذي أجرتها معه القناة الإخبارية "إِنْ بي سِي"( NBC News) في 15 أكتوبر في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، حيث سألته المحاورة سافانا جيوثري(Savannah Guthrie) عن علمه بوجود نظرية مؤامرة "كيُو أَنُون" التي بدأت تنتشر في أمريكا منذ عام 2017، فقالت لترمب: "هل يمكنك القول بأن هذه النظرية لا أساس لها، وتُنكر هذه النظرية كلياً"، فأجاب ترمب: "لا أعلم شيئاً عن كيو أنون"، وكرر هذه الإجابة أثناء الحوار 8 مرات، ثم بعد سؤال آخر، غير رأيه فقال، "أعلم بأنهم ضد الاتجار جنسياً بالأطفال، وهم يحاربونه بشدة، ولكنني لا أعلم شيئاً عنه".

كما طُرح هذا السؤال على الرئيس ترمب في مؤتمر صحفي عُقد في البيت الأبيض في 19 أغسطس من العام الجاري، فرفض مجدداً إدانة هذه الحركة المتطرفة والعنيفة وأكد عدم علمه بها، حيث أجاب: "لا أعرف الكثير عن الحركة، غير أنني عرفتُ بأنهم يحبونني كثيراً، وأنا أُقدر هذا".

فاستغرابي من عدم اعتراف الرئيس ترمب بعلمه عن هذه النظرية المنتشرة منذ ثلاث سنوات في بلاده وفي بعض الدول الأوروبية، أظن أنه في محله جداً، وله ما يبرره من الأدلة والشواهد والوثائق، فكيف لي وأنا أعيش في هذه الجزيرة الصغيرة التي تبعد الآلاف من الكيلومترات عن الولايات المتحدة الأمريكية أن أعرف الكثير عن هذه النظرية، فكتبتُ عنها عدة مقالات كثيرة استناداً إلى الدراسات العلمية التي أُجريتْ في أمريكا ودول أوروبية حول هذه النظرية، إضافة إلى التحقيقات الإعلامية المعمقة عن هذه النظرية ومن خلال المقابلات الشخصية مع أتباعها والمشاهدات الميدانية لهم على أرض الواقع في المظاهرات والاحتجاجات، ليس في أمريكا فحسب وإنما في دولٍ أوروبية أخرى، حسب التحقيق المنشور في صحيفة بوليتكو(POLITCO) في 22 أكتوبر من العام الجاري تحت عنوان "كيو أنون يذهب إلى أوروبا"؟!

فهل من المعقول أن ترمب يُعلن جهله كلياً بوجود هذه النظرية وفي الوقت نفسه يشاهد الآلاف من أنصاره وأتباعه في التجمعات الانتخابية التي يحضرها هو شخصياً، وهم يرفعون شعارات وأعلام كبيرة لا يمكن تجاهلها أو عدم رؤيتها، ومكتوب عليها حرف كيُو(Q.)، أو يرتدون الملابس المكتوب عليها بالخط العريض، كيو أنون(QAnon

وهل من المنطق السليم إعلان ترمب بعدم سماعه لنظرية المؤامرة هذه، وفي الوقت نفسه هناك الملايين الذين يتابعون الحسابات التي تدعو إلى هذه النظرية وتروج لأفكارها المتطرفة والعنيفة، أو الحسابات والمنصات التي تتبنى أفكار ومواقف أصحاب هذه النظرية؟ وهذه الظاهرة غير الصحية المتفشية في وسائل الاتصال اضطرت المسؤولين عن هذه الوسائل إلى حجب هذا المواقع وحذفها، كما فعلت تويتر في يوليو من العام الجاري، ثم فيسبك في 15 أكتوبر، وأخيراً يو تيوب(YouTube)التي أعلنت في 16 أكتوبر عن وقف كافة الفيديوهات المتعلقة بنظرية المؤامرة وتيك توك(Tik Tok) في 21 أكتوبر.

وهل من المعقول أن يقول ترمب بعدم علمه بنظرية المؤامرة وفي الوقت نفسه يعقد مجلس النواب في الكونجرس الأمريكي جلسة خاصة في الثاني من أكتوبر من أجل مناقشة مشروع قرارٍ خاص بهذه النظرية، وهو القرار رقم 1154 تحت عنوان: "إدانة كيو أنون ورفض نظرية المؤامرة التي تدعو إليها الحركة"؟ فهل يعقل بأن 435 عضواً من مجلس النواب سمعوا عن هذه النظرية وناقشوها بالتفصيل أبعادها وانعكاساتها على المجتمع الأمريكي، وصوتوا عليها، ثم يأتي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فيصرح بأنه لا يعلم عنها شيئاً؟!

 

وعلاوة على ذلك، فإن استطلاعات الرأي، مثل مركز بو للأبحاث(Pew Research Center) أفادت بأن نسبة الأمريكيين الذين يعلمون بوجود كيو أنون تضافت من مارس إلى سبتمبر فبلغت 47%، ثم استطلاع(Morning Consult poll) أفاد بأن 38% من الجمهوريين يعتقدون بأن بعض أفكار نظرية صحيحة.

 

وهل من المنطق أن يدَّعي ترمب بجهله عن هذه النظرية، ثم يُصدر مكتب التحقيقات الفيدرالية(إف بي آي) في الثلاثين من مايو 2019 منشوراً عاماً ويصف فيه بأن نظرية كيو أنون تعمل كوقود للتطرف الداخلي، وأن هذه النظرية تمثل تهديداً إرهابياً داخلياً؟

وهل من المعقول بأن أحد زعماء الحزب الجمهوري البارزين، وهو السيناتور ميت رومني(Mitt Romney)، يعلم عن تفاصيل نظرية مؤامرة كيو أنون فينتقد ترمب في 16 أكتوبر لرفضه شجب هذه النظرية التي وصفها هذا السيناتور الجمهوري بأنها "سخيفة وخطرة"، ومع ذلك فإن الرئيس غارق في سباتٍ عميق لا يعرف ما يدور حوله؟

وعلاوة على رفضه القاطع لشجب نظرية مؤامرة كيو أنون والامتناع عن انتقاد الأفكار التي تطرحها، فإنه يُرسل دائماً مؤشرات إيجابية عن أتباع هذه الحركة، ويُقدم لهم رسائل علنية تشجيعية تحفزهم على المضي قُدماً في الترويج العلني والسياسي لأفكارهم المتطرفة والعنيفة، والتي تتلخص في أن الرئيس ترمب هو المنقذ للبشرية، وهو الذي يعمل بسرية لتحرير المجتمع البشري من شياطين الإنسان "الطغاة" من شبكة دولية من رجال السياسة والفن والدين ورجال الأعمال المتنفذين الذين يمثلون "الدولة العميقة"، ويتاجرون بالأطفال جنسياً وينشرون الفساد الأخلاقي في الأرض.

وختاماً فإن كل هذه الحقائق والتقارير تؤكد لي بأن للرئيس ترمب اليد الطولى في نظرية مؤامرة كيو أنون، وأن له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأصحابها، فهو إما أن يكون المنتج والمخرج لهذه النظرية، وأما أنه يستغل هذه النظرية لرفع حظوظه في الجلوس مرة ثانية على كرسي البيت الأبيض.

السبت، 24 أكتوبر 2020

علماء أمريكا ينتفضون ضد البيت الأبيض

ما الذي يجعل 81 عالماً من قادة وزعماء العلم والبحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم أجمع يدعون إلى عدم الترشيح لترمب في الانتخابات الرئاسية القادمة؟

 

وما الذي يجبر هؤلاء العلماء الأجلاء الذين نالوا كلهم أعلى وسام شرف، فحصلوا على أعلى وأفضل جائزة علمية على وجه الأرض، وهي جائزة نوبل، فبلغوا من العلم درجة وخبرة وعمقاً لم يصل إليه أحد، وقدموا للبشرية اكتشافات نادرة واختراعات مفيدة، من أن يرشحوا جو بايدن لرأسة الولايات المتحدة الأمريكية؟

 

فقد جاء في الخطاب العام المفتوح لهؤلاء العلماء الكبار والمنشور في الثاني من سبتمبر من العام الجاري في وسائل الإعلام الأمريكية ما يلي: "علماء أمريكا الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء، والكيمياء، والطب يوقعون على هذا الخطاب ليعبروا عن دعمهم لنائب الرئيس السابق جو بايدن لانتخابات عام 2020 لرأسة الولايات المتحدة الأمريكية. فلم تكن هناك حاجة أشد في تاريخ أمتنا لقادتنا من تقدير قيمة العلم لصياغة السياسات العامة. فمن خلال التاريخ الطويل لجو بايدن في مجال الخدمة العامة، فقد أبدى دائماً رغبته في الاستماع إلى الخبراء، وتفهمه لقيمة التعاون في المجال البحثي على النطاق الدولي، إضافة إلى احترامه لإسهام المهاجرين للحياة الفكرية والثقافية لبلادنا. ونحن كمواطنين أمريكيين وكعلماء نصادق من أعماق قلوبنا على ترشيح جو بايدن".   

 

فلا بد وأن هناك أمراً جللاً يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية من زمن طويل بحيث ألزم هؤلاء العلماء العظام إلى اتخاذ موقفٍ سياسي واضح لا لبس فيه من الرئيس ترمب، فهؤلاء اضطروا للخروج عن النمط التاريخي العام لموقف العلم والعلماء المتمثل في التجنب بشكلٍ علني الدخول في السياسة، وعدم اتخاذ موقفٍ حازم وحاد من أحد المرشحين والدعوة إلى الامتناع عن ترشيحه. فرجال العلم يتسمون دائماً بالموضوعية في أبحاثهم العلمية، والاستقلالية والمصداقية في استنتاجات دراساتهم، ولا يقحمون أو يطوعون نتائج دراساتهم لسياسات وأهواء رجال السياسة، أو النفوذ، أو المال. فالسياسة، كما هي معروفة لدى الجميع، متقلبة الأهواء والمزاج، ويتغير لون جلدها بين عشية وضحاها، كما أنها لا تعتمد على منهجية ثابتة تهدف إلى اكتشاف الحقائق بكل موضوعية واستقلالية، وإنما تعيش السياسية وتزدهر وتنمو على الأهواء والمصالح الشخصية الحزبية التي تهدف إلى الوصول إلى المنصب السياسي في الدولة، سواء أكان الرئيس، أو عضو في المجالس النيابية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يمكن اتباع كافة الوسائل المتاحة الشرعية وغير الشرعية، القانونية وغير القانونية، كما قال بومبيو وزير الخارجية الأمريكي عندما كان رئيساً للمخابرات في تصريح مثير جداً في 26 أبريل 2019، ولخص فيها النهج الذي يسير عليه رجال السياسة:"نحن كذبنا، نحن غششنا، نحن سرقنا".

 

فهناك إذن تناقض واضح بين المنهجين، وهناك فرق شاسع بين الطريقين، طريق وأسلوب ومنهج العلم مقارنة بطريق وأسلوب ومنهج السياسة. وفي السنوات القليلة الماضية، وبالتحديد في عهد ترمب، هذا الفرق اتسع كثيراً، والفجوة اشتدت بدرجةٍ لا يمكن تحملها وغض الطرف عنها، حتى تم تهميش العلماء، والضرب بعرض الحائط كل آرائهم العلمية، وتجاهل خبراتهم وتجاربهم الميدانية، إضافة إلى مهاجمة العلماء، وبخاصة العلماء وأهل الاختصاص الحكوميين الذين يعملون في المراكز البحثية والأجهزة الصحية المتخصصة والذين لا يتفقون مع سياسة ترمب، وبالتحديد في قضية الأنظمة البيئية، والتغير المناخي، وحالياً وباء فيروس كورونا، وآخر مثال قوي على ذلك هو هجوم ترمب في 19 أكتوبر على أنتوني فوشي، رئيس المركز القومي للحساسية والأمراض المعدية، وأحد أبرز خبراء أمريكا، وأهم عضو في فريق عمل مكافحة كورونا، حيث قال ترمب "إن هذا الشخص كارثة"، كما أضاف: "الناس سئموا من سماع فوشي وجميع هؤلاء البُلَهاء" ويقصد مسؤولي الصحة العامة.

 

وعلاوة على ذلك، فإن المجلات العلمية الواسعة الانتشار والتي تحظى بمصداقية وثقة عالية بين العلماء في كل أنحاء العالم، نشرت مقالات تحريرية تدين فيها غزو السياسة للعلم، وبسط رجال السياسة يدهم على القرار العلمي، إضافة إلى طرح الثقة من العلماء والاعتداء على قرارهم ونتائج أبحاثهم.

 

فمجلة "العلم"(Science) التي تصدر منذ عام 1880، أي عمرها 140 عاماً، وتتبع "الجمعية الأمريكية لتطوير العلم"، كتبتْ عدة مرات في المقالات التحريرية الافتتاحية حول التدخل المرفوض للسياسة في القرار العلمي، منها المقال المنشور في 16 أكتوبر، والتاسع من أكتوبر من العام الجاري، ومنها المقال التحريري في 18 سبتمبر تحت عنوان: "ترمب كذب على العلم"، حيث انتقد المقال تهاون الرئيس ترمب في إدارته لهذا الوباء، وامتناعه عن اتخاذ إجراءات صارمة لمنع انتشاره في عموم البلاد، إضافة إلى تهميشه للرأي العلمي المتعلق بفيروس كورونا، وتدخله في محتوى وصياغة التقارير العلمية التي تنشرها المراكز العلمية والصحية المتخصصة لكي تتوافق مع سياساته ومواقفه. كذلك مجلة "الطبيعة"(Nature) البريطانية الأسبوعية التي يبلغ عمرها 151 عاماً، نشرت في 18 أكتوبر 2020 في المقال الافتتاحي دعوة إلى ترشيح بايدن، ووصفت سجل ترمب بأنه "مخجل"، إضافة إلى مجلة نيو إنجلند للطب(The New England Journal of Medicine) التي تُعتبر من أقدم وأعرق المجلات العلمية وأكثرها مصداقية في مجال الطب ولها وزنها الثقيل بين جميع علماء العالم، والتي بدأت في الإصدار في عام 1812، أي قبل 208 سنة، حيث جاء في مقال هيئة التحرير في 14 أكتوبر تحت عنوان: "نموت في فراغٍ قيادي"، بأن البيت الأبيض فشل فشلاً ذريعاً في إدارة كل مراحل وباء كورونا، حيث إنها "حولت الأزمة إلى كارثة"، كما ورد في المقال الافتتاحي بأن "قيادتنا الحالية ضعَّفَت الثقة في العلم وفي الحكومة، وتسببت في تدمير سمعة العلم لسنوات قادمة"، فالقيادة الحالية بدلاً من أن تستمع لآراء الخبراء وتعتمد على نتائج البحث العلمي، فقد توجهت نحو من ليس لهم علم أو خبرة بالأمراض المعدية، وكورونا بصفةٍ خاصة، مما سهل نقل المعلومات الكاذبة والمضللة وارتفاع أعداد المصابين والموتى.

 

كما أن مجلة "العلمي الأمريكي"( Scientific American)التي يبلغ عمر صدورها أكثر من قرن، فقد جاء في العدد المنشور في أكتوبر ولأول مرة أيضاً في تاريخها الدعوة إلى التصويت لمرشح رئاسي بعينه وهو جو بايدن، حيث أكد مقال هيئة التحرير بأن: "مجلة العلمي الأمريكي لم تقم قط بالتصديق على مرشح رئاسي في تاريخها الذي بلغ 175 عاماً، ونحن هذا العام مجبرين على اتخاذ هذا الموقف وبصعوبة جداً"، كما جاء في المقال: "عندما نتحدث عن إدارة أكبر أزمة صحة عامة اليوم، فقيادتنا السياسية الحالية أظهروا لنا بأنهم غير أكْفاء".

 

وعلاوة على ذلك كله، فقد أصدر العلماء المسؤولون عن الأجهزة الفيدرالية غير المسيسة التي لا تتبع لحزب معين مثل "الأكاديمية القومية للعلوم"، و"الأكاديمية القومية للطب"، بياناً مشتركاً في 24 سبتمبر من العام الجاري ذكروا فيه: "عملنا كمستشارين للأمة في جميع الأمور المتعلقة بالعلم، والطب، والصحة العامة، يُجبرنا على التأكيد على أهمية اتخاذ القرار المبنى على العلم في جميع المستويات الحكومية".

 

فمن الواضح إذن أن جُل علماء أمريكا المشهود لهم بالعلم والخبرة، وجودة البحث العلمي، قد أدلوا بشهادتهم ضد البيت الأبيض، وترمب بالتحديد.