الأربعاء، 14 أكتوبر 2020

أوهام وحقائق حول تدوير المخلفات

أشاهدُ في بعض المواقع في البحرين، وبالتحديد أمام بعض المساجد، والمجمعات التجارية الكبيرة، أو في داخل هذه المحلات والمجمعات والأسواق، وجود عدة حاويات لفصل وجمع مكونات المخلفات الصلبة المختلفة من ورق، وبلاستيك، ومعادن، وغيرها، وهذه الظاهرة حضارية ومطلوبة للتعامل مع هذه المخلفات التي تنتج من أنشطتنا وأعمالنا الاستهلاكية اليومية.

 

ولكن السؤال المهم الذي أطرحه أمامكم هو: ما هو مصير هذه العناصر من المخلفات التي تم فصلها وجمعها  في الموقع؟ وأين تذهب هذه المكونات المختلفة في نهاية المطاف؟

 

ففي معظم الحالات أجدُ بأن هذه المكونات من المخلفات التي تم فصلها في الموقع تُرمي جميعها مع بعض في السيارات الخاصة بجمع المخلفات، ثم يتم التخلص منها في مواقع الدفن المخصصة لذلك، وهذا يعني بأن الجهد المبذول من قبل الناس لفصل مكونات المخلفات في الموقع لم يجْد نفعاً كلياً، ولم يحقق الهدف من فصلها في حاويات مختلفة لكل نوع من المخلفات، أي ليست هناك أية فائدة بيئية من عملية الفصل هذه في هذه المواقع، حيث إنه من المفروض أن هذه المخلفات لا تختلط مع بعض بعد جمعها، فتذهب كل واحدة منها إلى مصانع تدوير واسترجاع هذا النوع بالتحديد من المخلفات، أو مصانع إعادة الاستعمال مرة ثانية.

   

فهذه الظاهرة السطحية التي أراها أمامي، تدعوني إلى التأكيد على أن إدارة المخلفات البلدية الصلبة، أو القمامة، تُعد من أعقد العمليات الحضرية، وأكثرها صعوبة ودقة في الإعداد والتنفيذ، فهي ليست كما تقوم بها بعض الدول والتي تتمثل في مرحلة واحدة، وأسلوب واحد فقط، وهو جمع القمامة ثم دفنها، والذي أُطلق عليه "خُذوه فغُلوه"، وإنما "إدارة القمامة" هي عملية منهجية علمية وتقنية بحتة، تقوم على أسسٍ علمية متقدمة، وقواعد فنية متطورة، وتستند إلى دراسات ميدانية واقعية تقيم أولاً وتتعرف على كمية ونوعية القمامة التي تنتج في البلد، وثانياً تدرس مستوى الوعي والاتجاهات والسلوكيات الشعبية تجاه القمامة وفصلها عند مصادر إنتاجها، وأخيراً تحلل الأساليب والتقنيات المتاحة عملياً وتجارياً، ومدى تناسبها وتوافقها مع الواقع المحلي من الناحية الصحية، والبيئية، والاجتماعية، والاقتصادية.

ولذلك فإن عملية "إدارة المخلفات البلدية الصلبة" تحولت اليوم إلى علمٍ متخصص ومستقل يُدرَّس في الجامعات والمعاهد العلمية، سواء على مستوى درجة البكالوريوس من خلال تخصص "علم البيئة"، أو من خلال الدراسات العليا ودرجتي الماجستير والدكتوراه في علم يُطلق عليه "علم القمامة"(Garbology).

فإدارة القمامة تعني دراسة تفصيلية علمية ومنهجية لكل مرحلة من مراحل إنتاجها، وأثناء دراسة هذه المراحل تأخذ في الاعتبار الجوانب البيئية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية المتعلقة بها، وهذه المراحل تبدأ بجمع القمامة من المصدر، سواء أكان المنزل، أو المجمع السكني، أو المجمع التجاري، أو المجمع التجاري، وإجراء دراسة تفصيلية لكافة طرق وأساليب الجمع وموعد الجمع وعدد مرات الجمع في اليوم الواحد، ثم مرحلة النقل، وأخيراً التقنيات والأساليب الموجودة للتعامل معها، سواء تقنيات الفصل والتدوير، أو تحويل جزء من القمامة إلى مواد مخصبة للتربة، أو حرقها والاستفادة من الطاقة التي تنتج عنها، أو دفنها بطرق سليمة بيئياً وصحياً، وهذه الطريقة أيضاً يمكن الاستفادة من غاز الميثان الذي ينتج عن التحلل اللاهوائي للقمامة في باطن الأرض.

 

فتدوير واسترجاع وإعادة استعمال بعض محتويات القمامة تعد أحد الطرق التي يمكن تبنيها لإدارة المخلفات الصلبة بشكلٍ عام، ولكن هذه الطريقة لكي تكون مجدية وتؤتي أكلها من الناحية البيئية والاقتصادية، لا يمكن أن تُترك بشكلٍ عشوائي، فيقوم بها أفراد بشكلٍ مستقل وعلى نطاق ضيق وبسيط، فيعملون وبوسائل بدائية وغير فاعلة بجمع جزءٍ يسير من بعض الأوراق، أو الكارتون، أو علب المشروبات الغازية، أو الحديد، وإنما  يجب أن تنطلق هذه العملية برمتها أولاً من سياسات واستراتيجيات عامة تتبناها الدولة في مجال "إدارة المخلفات الصلبة" بشكلٍ عام، بحيث يكون خيار تدوير بعض مكونات القمامة من ضمن هذه السياسات.

 

والمرحلة الثانية تكون من خلال تبني الوسائل والأدوات الاقتصادية لضمان نجاح عملية التدوير، من حيث تطوير التعاون والتنسيق بين القطاعين العام والخاص للولوج في هذا المجال الاستثماري، فيكون هناك دعم حكومي للمصانع التي تُقام بهدف تدوير واسترجاع، أو إعادة استعمال مكونات محددة من القمامة، إضافة إلى تحفيز وتشجيع القطاع الخاص العاملين في قطاع المخلفات من ناحية خفض نسبة الضرائب والرسوم المفروضة على الأدوات والمعدات اللازمة لإنشاء مصانع التدوير. فهذا الدعم الحكومي يرجع إلى ميزانية الدولة بطريقة مباشرة وغير مباشرة من ناحية توفير الدولة لتكاليف التخلص من القمامة في مواقع الدفن الصحي، إضافة إلى تقليل المساحة اللازمة لدفن المخلفات، والتي يمكن استعمالها لأغراض أخرى أكثر نفعاً وفائدة وأهمية للحكومة من دفن القمامة فيها، وخاصة أن مساحة البحرين صغيرة جداً وطموحاتها التنموية كبيرة جداً.

 

والمرحلة الثالثة والتي تأتي مصاحبة للمرحلتين السابقتين، وهي تنظيم حملات إعلامية حول إدارة المخلفات على كافة المستويات، وفي جميع القطاعات، فنجاح أية عملية متعلقة بإدارة المخلفات تحتاج إلى وعي وتعاون جمهور الناس، كما تحتاج إلى تغيير اتجاهات الناس وسلوكياتهم تجاه القمامة وكيفية التعامل معها، والالتزام بالإجراءات التي تفرضها الدولة للتعامل مع كل نوعٍ من مكونات المخلفات. كما أن هناك حاجة لاستخدام أدوات اقتصادية تحفز الجمهور في التعاون مع إجراءات الدولة مثل إعطاء المخالفات المالية.

 

ولذلك كما بيَّنت، فإن عملية التدوير ليست فقط بوضع حاويات مختلفة في بعض المواقع، وإنما في بعض الأحيان ليس هناك داعي لوضع حاويات مختلفة، وبالتحديد في حالة أن فصل مكونات القمامة لا يكون من المصدر وإنما يكون في مصانع خاصة هدفها فصل كل نوع على حدة.

 

فالتدوير عملية علمية صعبة، ومعقدة ومتشابكة، ولها أبعاد بيئية، واجتماعية، وصحية، واقتصادية يجب أخذها في عين الاعتبار عند التفكير في الولوج فيها حتى نضمن نجاحها واستدامتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق