الجمعة، 9 أكتوبر 2020

ما موقف السلطة التشريعية الأمريكية من نظرية كيُو أَنُون؟

أستغربُ كيف لنظرية مؤامرة ساذجة، وغير علمية ورجعية، أُصولها دينية، وقواعدها من القرون الوسطى، تكُون مصدرها أكثرُ دول العالم تقدماً، وأشدها تطوراً ورقياً وثقافة، فتُولَدُ هذه النظرية البدائية في مثل هذه الدولة العظيمة، وتجد فيها بيئة صالحة لتُفرخ فيها، وتنمو في مجتمعاتها، وتترعرع بين مثقفيها ورجال السياسة والنفوذ فيها، وتجد من قادة وزعماء التشريع في الكونجرس آذاناً صاغية ومؤمنة، فيعتقدون بأفكارها وآرائها وسياساتها.

فهذه النظرية الغامضة انطلقتْ في عام 2017 من شخصٍ مجهول يدَّعي من خلال المنصات والمنتديات الافتراضية للإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي، بأنه مسؤول سابق في الحكومة الأمريكية، وإنه على إطلاع مباشر ودقيق بالوثائق والتقارير السرية للوزارات الحكومية. فصَاحبْ هذه النظرية اللاعقلانية يفيد بأن ترمب يقوم بمهمة سرية خاصة ليُنقذ الولايات المتحدة الأمريكية والعالم أجمع، كالمسيح المنتظر، من شياطين الإنس الممثلين برجال السياسة والتشريع في الولايات المتحدة الأمريكية، مثل نائب الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الرئاسي الحالي جو بايدن، والرئيس السابق أوباما، ومن رجال النفوذ والثروة ورجال الدين مثل بيل جيتس، وأبوبرا وينفري، والبابا فرانسيس، وغيرهم من الذين يصفونهم بأنهم من المفسدين أخلاقياً في الأرض والمدافعين عن المنحرفين والشواذ جنسياً والمعتدين على الأطفال. وعلاوة على ذلك فهم يطرحون الثقة بالمؤسسات الحكومية العامة الفيدرالية، ويسعون إلى إحداث شرخٍ وفرقة في المجتمع بتشجيع خطابات الكراهية والعنصرية، وإشاعة نظريات المؤامرة، ويميلون نحو العنف والقتل لتحقيق أهدافهم وأفكارهم.

فهذه النظرية كانت في السابق مختبئة تحت ظلمات الإنترنت والعالم الافتراضي لعدم وجود المظلة السياسية الشرعية التي تحميها وتدافع عنها، ولكن بعد وصول ترمب إلى البيت الأبيض، أخذ أصحاب هذه النظرية وأتباعها في الظهور علناً رويداً رويداً، فكانت البداية أولاً في استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي المعروفة. فهناك على سبيل المثال أكثر من 93 ألف حساب نشط وفاعل على التويتر، حسب التحقيق المنشور في صحيفة الواشنطن بوست في الثالث من أكتوبر من العام الجاري، وهناك عشرات الآلاف من المتابعين لهذه الحسابات، مثل حساب (@QAnon76) الذي يتابعه أكثر من 554 ألف. وبالرغم من أن تويتر حجبت في 21 يوليو من العام الجاري قرابة 7000 حساب إلا أن الرمز الظلامي المجهول والغامض (Q.) مازال يظهر من جديد في كل يوم في وسائل الاتصال الاجتماعي. ثم في المرحلة الثاني بدأوا في الظهور علناً أمام الناس بأشخاصهم الحية، والكشف عن هويتهم في التجمعات والمسيرات الانتخابية لترمب ورجال السياسة الآخرين، دون خجل أو حياء من الترويج لبضاعتهم الفاسدة، وأفكارهم العنصرية والعنيفة البغيضة. والمرحلة الثالثة من حياة هذه النظرية تمثلت في وجود مندوبين عن هذه النظرية من رجال السياسة والتشريع في الكونجرس، فأصبحوا هم الغطاء السياسي والمدافعين عن أفكارهم ومواقفه، فهناك نحو 81 مرشحاً لعضوية الكونجرس يستعدون اليوم لخوض الانتخابات في نوفمبر من العام الجاري، ولم يخف هؤلاء المرشحين إيمانهم بنظرية المؤامرة هذه واعتقادهم بالأفكار التي تطرحها.

 

واليوم نشاهد من داخل الكونجرس، وبالتحديد من أعضاء مجلس النواب من يرفض إدانة أتباع هذه النظرية وإدانة معتقداتهم العنصرية العنيفة، فعندما طرح مجلس النواب في الثاني من أكتوبر مشروع القرار رقم 1154 تحت عنوان: "إدانة كيو أنون ورفض نظرية المؤامرة التي تدعو إليها الحركة"، وتم التصويت عليه علانية، نجد بأن هناك 18 نائباً رفضوا هذا القرار، و 41 نائباً لم يصوتوا على القرار، مما يؤكد بأن هناك دعماً شعبياً، ولو كان محدوداً في هذا الوقت، لهذه النظرية والأفكار التي تتمخض عنها.

 

وعلاوة على ذلك كله، فالرئيس ترمب نفسه لا يخفي دعمه لأصحاب هذه النظرية، وكأنه واحد منهم ويتكلم بلسانهم، كما لا يخفي تبنيه للمصطلحات والعبارات التي تخرج من أفواه أتباعها. وهناك عدة تصريحات ومشاهد وقعت في الأشهر الماضية تشير إلى مساندة ترمب ودعمه للأفكار التي تخرج من رجال هذه النظرية. فقد صرح ترمب عنهم في معرض الإجابة عن السؤال حول أتباع نظرية المؤامرة قائلاً: "سمعتُ بأن هؤلاء الناس يحبون بلادنا"، كما أن ترمب نفسه أعلن في لقاء صحفي في 21 أغسطس 2019، وهو ينظر إلى السماء قائلاً: "أنا الشخص المـُخْتار "! وعلاوة على ذلك فإن ترمب بدأ مؤخراً بشكلٍ عفوي استخدام المصطلحات نفسها التي ينشرها أصحاب هذه النظرية، وبالتحديد مصطلح "الشاذون جنسياً والذين يدافعون عن مرتكبي الجرائم الجنسية"(pedophile). وقد نشرتْ صحيفة الـ يو إس آيه توداي الواسعة الانتشار في 29 سبتمبر من العام الجاري مقالاً حول دور حركة نظرية كيو أنون في تزييف المعلومات حول المرشح الرئاسي جو بايدن، وأكدت الصحيفة على أن الرئيس ترمب شارك من خلال التويتر مؤيدي نظرية المؤامرة باستخدامه لمصطلح الشاذين جنسياً(pedophile). كذلك في المناظرة الرئاسية الأولى التي أُجريت في 29 سبتمبر، رفض ترمب إدانة الأعمال الإرهابية التي تقوم بها جماعة تفوق العرق الأبيض، والجماعات المسيحية المتطرفة، والميليشيات المسلحة التي يمكن مشاهدتهم أثناء المظاهرات في بعض المدن الأمريكية، بل وحرَّض إحدى هذه الجماعات العنيفة بالاسم مثل(Proud Boys) على التصدي للآخرين، وقدَّم لهم الضوء الأخضر من خلال هذه المناظرة التي شاهدها الملايين، علماً بأنه وبعد الضغوط الشديدة التي مورست عليه من قبل الجمهوريين، أدان بعد يوم واحد من المناظرة جماعات تفوق العرق الأبيض العنيفة.

 

كذلك استخدم ترمب مصطلحات ولغة دينية تُنادي بها حركة نظرية مؤامرة كيو أنون بأنه هو المختار من قبل الرب لإنقاذ البشرية من شرور بعض الناس، حيث قال ترمب وهو في المستشفى في الثالث من أكتوبر مخاطباً الشعب الأمريكي بأن ما حَدَث له من الإصابة بمرض كوفيد_19 هو "معجزة"، وكرَّر هذه الكلمة عدة مرات، وأضاف قائلاً:" إنها معجزة نزلت علي من الرب، وأنا أُحارب المرض من أجلكم ومن أجل الجميع في كل مكان حول العالم".

 

فمثل هذه التصريحات هي في تقديري بمثابة إرسال رسائل إلى الشعب الأمريكي أولاً وجماعات اليمين المتطرف حول العالم التي تؤمن بأفكار نظرية كيو أنون، وقد أفاد تحقيق في مجلة التايم الأمريكية في 30 سبتمبر 2020 تحت عنوان: "الولايات المتحدة الأمريكية تصدر كيو أنون إلى أستراليا ونيوزلندا"، إضافة إلى المقال في صحيفة الواشنطن تايمس في 15 سبتمبر تحت عنوان: "إعادة انتخاب ترمب مهم جداً لليمين الأوروبي"، فكلها تؤكد بأن أصحاب نظرية المؤامرة والذين يعتقدون بترمب كمنقذ للبشرية في كل أنحاء العالم موجودون في دول أخرى أوروبية وغير أوروبية.

 

وختاماً فإنه بالرغم من تصويت مجلس النواب بأغلبية ساحقة على إدانة ممارسات وأفكار نظرية مؤامرة كيو أنون، إلا أن أعداد المناصرين لهم في نمو وتعاظم مستمرين، وخاصة أنهم يحصلون الدعم والضوء الأخضر من أعلى سلطة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم أجمع، ولذلك في تقديري فإن بريق هذه النظرية سيزول إذا غاب ترمب عن البيت الأبيض.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق