الاثنين، 30 يوليو 2018

الكلفة المالية للسيارة الواحدة على صحتك


الكثير من المسئولين وصُناع القرار لا يؤمنون بالكلفة البيئية لمصادر التلوث التي نعاني منها بشكلٍ يومي، ولا يعتقدون بالعبء الصحي الشديد الذي تسببها هذه المصادر على صحتنا بشكلٍ مباشر، فهم معنيون فقط بالكلفة المالية، أو الجانب الاقتصادي البحت لتداعيات وانعكاسات الملوثات التي تنبعث من السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء وغيرها من المصادر التي لا تعد ولا تحصى.

 

ولذلك فإنني أُقدم لهم دراسة بريطانية تقيِّم البعد المالي "النقدي" الناجم عن التلوث من السيارات، وتُعطي بوضوح الكلفة المالية الاقتصادية لكل سيارة تسير على شوارعنا، آملين أن يقتنع كل متخذ قرار بأن للتلوث جانباً اقتصادياً خطيراً يؤثر على الميزانية العامة، ويُشكل تهديداً وعبئاً مالياً ثقيلاً يُرهق كاهل الدول.

 

فهذه الدراسة التي قام بها فريق متخصص من العلماء من جامعتي أكسفورد وباث، ونُشرت نتائجها في 21 يونيو من العام الجاري بمناسبة يوم الهواء النظيف أفادت بأن كل سيارة تمشي في شوارع بريطانيا تكلف الجهاز الصحي والمجتمع بشكلٍ عام معدل 8000 جنيه إسترليني، أي نحو 4800 دينار بحريني، كما حَسَبتْ الدراسة الكلفة المالية الإجمالية لتلوث الهواء من السيارات، وقدرت بأكثر من ستة بلايين جنيه سنوياً على مستوى بريطانيا. 

 

وهذه الكلفة المالية الضخمة والثقيلة لكل سيارة تنتج عن تلوث الهواء الجوي والأمراض التي يتعرض لها كل إنسان يستنشق الملوثات السامة والخطرة التي تنبعث من ملايين السيارات مثل الدخان أو الجسيمات الدقيقة وأكاسيد النيتروجين والبنزين وغيرها من آلاف الملوثات، وهذه الكلفة الاقتصادية العالية تتمثل في التكاليف الباهظة لعلاج كل مريض يدخل المستشفى، إضافة على كلفة فقدان إنتاجية هؤلاء المرضى وغيابهم عن أعمالهم في حالة المرض والتكاليف التي تنجم عن الموت المبكر للمتضررين من تلوث الهواء، حيث أكدت الكثير من الأبحاث بأن هناك 40 ألف بريطاني يقضون نحبهم سنوياً في سنٍ مبكرة نتيجة لتلوث الهواء الصادر عن السيارات.

 

أما في البحرين وحسب آخر إحصائية حكومية رسمية فإن هناك 700 ألف مركبة تسير في شوارع البحرين، وهذا العدد في تزايد مستمر بحيث أننا ضربنا رقماً قياسياً عالمياً في الكثافة المرورية للسيارات، فلو أخذنا الآن بالتقديرات البريطانية للكلفة المالية لكل سيارة فإن العبء المالي الكلي لهذه السيارات على الصحة العامة والمجتمع البحريني برمته يقدر بنحو 3.36 بليون دينار!

 

فهل نضع هذا المبلغ في حساباتنا المالية كمصروفات صحية مباشرة وغير صحية نتكبدها من هذه السيارات؟

 

 

 

السبت، 28 يوليو 2018

التلوث يدمر الاقتصاد ويطرد الاستثمار


عندما تعاني من وعكةٍ صحية، أو حالة مرضية فإنك ستذهب مباشرة إلى الطبيب للكشف على حالتك، وهناك مؤشرات ومظاهر محددة يبحث عنها الطبيب لمعرفة وتشخيص الوضع الصحي الذي تشكو منه، فدرجة حرارة جسمك تُعد من أول المؤشرات التي يقيسها الطبيب، ثم ضغط الدم من حيث الارتفاع أو النزول، وما إلى ذلك من المؤشرات الأخرى كنبضات القلب، وأداء الرئتين، إضافة إلى التحاليل المتعددة والمختلفة للدم التي تكشف عن طبيعة المرض.

 

والبيئة ومكوناتها الطبيعية من ماءٍ وهواءٍ وتربة ومسطحات مائية عذبة أو مالحة وحياة فطرية، كلها تشكو وتصرخ إذا أصابها الألم الداخلي في أعضاء جسمها، أو وقع أي تغيير جذري وسيء في حالتها، ولكن ليس لها القدرة على أن تشكو بلسانها وبحواسها الخمس كالإنسان، ولكن لحسن الحظ أن هناك مظاهر وصور محددة تنكشف على جسم البيئة فيمكن مشاهدتها بالعين المجردة وبالتحاليل المخبرية، ونعتبرها هي المؤشر الأول على معاناة مكونات البيئة وتدهور صحتها وتعرضها للأمراض أو الأسقام.

 

فعندما نرى أمامنا مسطحاً مائياً قد تحول من اللون الجميل الذي يفرح الإنسان لمشاهدته ويأنس في الوجود بالقرب منه إلى لون الدم الفاقع، أو اللون الأخضر الداكن، أو اللون البني القاتم، فلا شك بأنك ستعلم بأن خللاً ما قد وقع على هذه البيئة المائية، وأنها تقاسي من علة قد وقعت على بدنها، فالملوثات التي يصرفها الإنسان من مياه المجاري، أو من مخلفات المصانع، أو من المزارع والبساتين، إضافة إلى حرارة الجو والطبيعية الجغرافية للمنطقة هي التي تكشف مرض البيئة وشكواها من تدهور ملموس وقع على أمنها الصحي. وهذه الظاهرة عندما تنكشف تنفر الناس من البقاء بالقرب من هذه البيئات المائية، وتطرد المستثمرين من صرف أموالهم في مشاريع على هذه المسطحات المائية، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية الطائلة والأموال الضخمة التي يجب صرفها لإعادة هذه البيئة إلى طبيعتها الأولية.

 

ومثل هذه المناظر المنَّفرة والكريهة شاهدناها في البحرين في عدة مناطق بحرية في عدة مناسبات، وبخاصة في أشهر الصيف الحارة وفي مناطق الخلجان الضحلة وشبه المغلقة، منها خليج توبلي ومنطقة عراد حيث تبدل لون ماء البحر إلى اللون الأحمر والأخضر، ونفقت الأسماك الموجودة فيها، وإنبعث منها الروائح العفنة والكريهة.

فمن منا سيذهب إلى هذه المنطقة البحرية لممارسة الرياضات المائية ويعرض نفسه لأخطار صحية؟

ومن منا سيذهب وهو وأطفاله إلى هذا البحر الآسن السام ليستحم فيه ويقضي وقتاً ممتعاً للترفيه والتسلية والراحة؟

ومن منا سيصرف ماله للاستثمار في مرافق يبنيها أو يؤجرها على ساحل هذا البحر؟

 

ودعوني أضرب لكم مثالاً صارخاً واحداً فقط وقع في العاشر من يوليو من العام الجاري في واحدة من أهم المناطق الساحلية العذبة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في ولاية فلوريدا السياحية المعروفة عالمياً في بحيرة أكيشوبي(Lake Okeechobee) الواقعة شمال غرب مدينة ميامي، حيث تحولت مساحة عظيمة من هذه البحيرة الجميلة وتبلغ نحو 1800 كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين، إلى منطقة خضراء مخيفة تطفو لمسافات طويلة فوق سطح الماء وتنبعث منها روائح عفنة وكريهة جعلت الناس تهرب من شدة وقوة رائحتها الآسنة إلى درجة أن حالكم الولاية عندما ذهب في جولة في هذه البحيرة أصابه الذهول والحيرة في الوقت نفسه مما شاهده بأم عينيه، فاضطر إلى إعلان حالة الطوارئ في منطقة هذه البحرية والقيام فوراً بعمليات جراحية سريعة لإنقاذ هذه البحيرة من الموت المحتوم. فما حدث تدمير شامل للاقتصاد من ناحية عزوف السواح الذين يبلغ عددهم نحو ستة ملايين سائح من الذهاب إلى هذه البحيرة، وهروب مباشر وفوري لرأس المال والعزوف عن الاستثمار، وحرمان الناس من مياه الشرب التي تأتي إليهم من هذه البحيرة العذبة، إضافة إلى عزوف الناس عن شراء الأسماك والكائنات البحرية الأخرى.

 

فظاهرة تحول لون المسطحات المائية وتدهور صحتها ما هي إلا مثال واحد يكشف معاناة البيئة من التلوث وتعدي الإنسان على حرمتها وأمنها، وتأثير هذه الحالة على إصابة الاقتصاد بمرضٍ مزمنٍ مستعصي عن العلاج، وتحويل وهروب رأس المال ونفور المستثمرين إلى مشاريع أخرى قد تكون خارج البلاد. وفي المقابل هناك أمثلة أخرى ربما تكون أشد قسوة على مكونات بيئتنا، كالطامة الكبرى التي تعاني منها المدن الحضرية في كل أنحاء العالم منذ قرون ومازالت المعاناة قائمة، مثل تدهور نوعية الهواء الجوي بيئياً وصحياً بالملوثات السامة والخطرة والمسرطنة التي تنكشف الآن على شكل سحبٍ بينة صفراء اللون تعرف بظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، وعندما تنكشف هذه الظاهرة تدق أجراس الإنذار محذرة الأطفال وكبار السن خاصة من الخروج من منازلهم، أو ممارسة أي نشاط رياضي خارج المناطق الآمنة المغلقة. وهذه الظاهرة هي السبب في نفور الكثير من الشركات والأفراد والمستثمرين من المدن التي تعاني منها، وشد الرحال إلى مدن تتميز بنقاء هوائها، وصفاء مائها، وجمال بحارها.

وبالتالي إذا أردنا فعلاً أن ننجح في بلادنا على المدى البعيد في تقوية وتنمية الاقتصاد، واستقطاب رؤوس الأموال، فعلينا أن نهتم بصحة هوائنا وبحارنا وتربتنا.

الجمعة، 20 يوليو 2018

ما معنى إزدياد محلات السجائر الإلكترونية في بلادنا؟


لفت انتباهي شخصياً في الأشهر القليلة الماضية الازدياد المشهود والملحوظ في أعداد محلات بيع معدات وأدوات هذه الآفة الجديدة التي يُطلق عليها السجائر الإلكترونية في الأحياء بشكلٍ خاص، ولا أدري ما الحكمة من سماح الجهات المعنية في بلادنا من الاستعجال في إعطاء التراخيص لمثل هذه المحلات المتخصصة التي تبيع مُنتجاً مشبوهاً على المستوى الدولي بسبب الأضرار المهلكة التي يوقعها على البيئة من جهة وعلى الإنسان المدخن ومن يجلس حوله من جهةٍ أخرى؟

فالدراسات الطبية والبيئية الموثوقة التي تُنشر في مجلات علمية تؤكد خطورة هذا المنتج وتهديده المباشر للصحة العامة، بالرغم من الإدعاءات الكاذبة والمضللة لشركات التبغ والسجائر وبعض الأقلام والأبحاث المأجورة بأنها أقل ضرراً وأنها وسيلة للعزوف عن تدخين سجائر التبغ التقليدية المعروفة. 

أما من الناحية البيئية فهناك مئات الملوثات التي تنبعث عند تسخين "مخلوط السائل" الذي يحتوي على النيكوتين الخالص المركز ونحو 7000 مادة مضافة سرية لا يعلم أحد عن هويتها تستخدم لتحسين المذاق العام وإعطاء نكهات خاصة تُرضي كل الأذواق والأهواء والرغبات، ومن هذه الملوثات العناصر الثقيلة السامة حسب الدراسة المنشورة في الرابع من يونيو من العام الجاري في مجلة أمريكية اسمها "شؤون صحة البيئة" تحت عنوان:"تركيز العناصر في مخلوط السائل والبخار الناجم عن تدخين السجائر الإلكترونية"، حيث أكدت انبعاث العناصر الثقيلة السامة والمسرطنة من السجائر الإلكترونية، مثل الكروميوم، والرصاص، والنيكل، والكادميوم، والزرنيخ. كذلك أفادت عدة دراسات قامت بتحليل الملوثات التي تنبعث عند تسخين هذه المضافات، منها الدراسة المنشورة في مجلة شؤون صحة البيئة في الأول من يونيو عام 2016، ودراسة أخرى صدرت في مجلة تقنيات علوم البيئة في 17 أغسطس 2017، حيث أفادت بأن من أخطر الملوثات التي تنتج عند تسخين هذه النكهات مركب اسمه "الداي أستيل" وهو يعرف بأنه يسبب حالة مرضية تنزل على الرئة يُطلق عليها رئة الذرة الصفراء(popcorn lung)، كما أثبتت دراسة نُشرت في مجلة تقنية علوم البيئة في الثامن من نوفمبر 2016 على انبعاث ملوثات مسرطنة من تدخين السجائر الإلكترونية مثل البنزين، الفورمالدهيد، والجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر، وأُوكسيد البروبلين(propylene oxide).

ومن الناحية الصحية وتأثيرها المدمر لأعضاء جسم الإنسان، فقد بدأت الدراسات تخرج رويداً رويداً لتكشف هذه الأضرار، منها الدراسة المنشورة في 15 يونيو من العام الحالي في المجلة المختصة بعلم أحياء الأوعية، والتخثر، وتصلب الشرايين (Arteriosclerosis, Thrombosis and Vascular Biology) والتابعة للجمعية الأمريكية للقلب، حيث خلصت إلى أن تدخين السجائر الإلكترونية بشكلٍ يومي يضاعف من مخاطر التعرض لأمراض القلب وتلف الأوعية الدموية والسقوط في السكتة القلبية.

وأخيراً من الجانب الاجتماعي فقد أكدت الأبحاث على معاناة الشعوب من إزدياد إقبال الشباب على هذه الآفة المرضية الجديدة والوباء الذي بدأ يستشري في جسم الشباب ويغزو المجتمعات، ومنها على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نشرت المحطة الإخبارية الـ سي إن إن في السادس من أبريل من العام الجاري تحقيقاً تحت عنوان "تدخين السجائر الإلكترونية وباء في المدارس الأمريكية"، وأكدت فيه أن نحو 1.7 مليون طالب أمريكي استعملوا هذا المنتج المهلك للبدن خلال شهر واحد حسب إحصائية استعمال الشباب للتبغ، كما أفاد المسؤول الأمريكي الأول المعني بالصحة العامة والذي يسمى "الجراح العام" في تقريره بأنه لاحظ زيادة مطردة ومخيفة تصل إلى 900% في استعمال طلبة المدارس للسجائر الإلكترونية في الفترة من 2011 إلى 2015. وعلاوة على ذلك فقد نشرت دراسة في 18 سبتمبر 2017 في مجلة الطب الوقائي وخرجت باستنتاج مهم هو أن الشباب الذين يجربون تدخين السجائر الإلكترونية تتضاعف عندهم مخاطر السقوط في شباك تدخين السجائر التقليدية المعروفة، فالطلاب من مستوى السابع إلى 12 الذين جربوا السجائر الإلكترونية زادت عندهم قابلية التدخين بـ 2.16 مرة.

ولذلك فمن الواضح بيئياً وصحياً واجتماعياً بأن هذه البدعة الجديدة التي أطلقتها شركات التبغ لتعوض بعض خسائرها من بيع سجائر التبغ التقليدية، لها أضرار فادحة وعظيمة على صحة الفرد والمجتمع وبدأت آثارها المهلكة تتضح شيئاً فشيئاً كل يوم.

والسؤال الذي أطرحة على الجهات المعنية بالسماح ببيع "التبغ عامة"، سواء على شكل سجائر التبغ التقليدية، أو المدواخ، أو الشيشة، أو السجائر الإلكترونية هو لماذا نهدم صحة أطفالنا وشبابنا وشيوخنا بأيدينا وقد أجمع المجتمع الدولي أن هذه المنتجات جميعها تؤدي إلى السقوط في أمراض مزمنة ومستعصية وعلى رأسها 12 نوعاً من أنواع مرض السرطان الخبيث؟

أليست الوقاية خير من العلاج؟Log In
Supported by


الجمعة، 13 يوليو 2018

الحياة الفطرية تلهم العلماء(الجزء الثاني)



لم يخلق الله الإنسان وباقي الكائنات الحية النباتية والحيوانية عبثاً وبدون هدف أو وظيفة تقوم بها أو دور حيوي ضمن النظام البيئي الذي تعيش فيه، فلكل كائن حي، مهما صغر، ومهما كان ضاراً في نظرنا، فإن له مهمة يقوم بها بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وله منافع جمة للإنسان ولحياته اليومية، فقد اكتشف العلماء البعض من هذه الفوائد والمنافع، ومازال في كل يوم يكتشف ويخترع ويقدم ابتكارات للبشرية مستخلصة من هذا الكائن الفطري الحي.

فالله جلَّت قدرته وعظمته خلق الكائنات بقدرٍ واتزان كمياً ونوعياً، وأودع فيها مقومات البقاء على الحياة، وغرس بداخلها قدرات تمكنها من الاستدامة في معيشتها في تلك البيئة التي تتواجد فيها، فعندما نرى أي كائنٍ حي في بيئة باردة قارسة البرودة يجب أن نثق بأن هذا الكائن الحي مزود بكافة الوسائل التي تجعلها تعيش في راحة وأمان في هذه البيئة الثلجية العصيبة، وعندما نرى أي كائن حي في بيئة صحراوية جرداء شديدة الحرارة فإن الله قد خلقه بصورةٍ كاملة تجعله يقاوم الحرارة المرتفعة وندرة الماء، وعندما نرى أي كائن حي في يعيش في بيئة المستنقعات العفنة ومياه المجاري الآسنة فيجب أن نطمئن بأن بداخل هذا الكائن الحي أدوات وتقنيات متطورة جداً تقاوم الجراثيم المرضية والفيروسات القاتلة التي تعيش في هذه البيئة القاسية الشديدة الخطورة على صحة الإنسان.

فهذه المظاهر والصور الحية لكائنات فطرية غريبة وعجيبة تعيش في ظروفٍ غير عادية، ألهمت وحفَّزت العلماء إلى التأمل فيها، والتعمق في ألغازها وأسرارها، والانتفاع من وسائلها وأدواتها وتقنياتها لما فيه خير البشرية ونماء ورقي الإنسان.

فهناك على سبيل المثال نوع من الضفادع البُنية التي تعيش وتتكاثر في مستنقعات روسيا، حيث تعيش في البيئة نفسها كافة أنواع الحشرات والجراثيم المهلكة لأي كائن حي والمسببة للعلل والأسقام القاتلة، فكيف إذن لهذه الضفادع أن تجعل من هذه المستنقعات الآسنة بيئة آمنة لها فتعيش وتتكاثر فيها، وكأن هذه الجراثيم غير موجودة بينها؟

فمثل هذه الحالة المتناقضة ألهبت فكر العلماء، وألهمتهم لتدبرها وسبر غورها ومعرفة سرها، فقد اكتشفوا بأن لهذه الضفادع آلية مؤثرة تدافع فيها عن نفسها ضد هذه الكائنات المرضية الدقيقة، وأن لها تقنيات عالية الكفاءة تُبعد عن جسمها كل كائن حي يسبب لها الأمراض، حيث تأكد أُولوا الألباب من العلماء بأن جلد هذه الضفادع يفرز سائلاً فريداً من نوعه، وعند التحليل المخبري لهذا السائل تبين أنه يتكون من 76 مادة كيميائية جديدة لها خصائص فاعلة وقوية ضد الميكروبات وضد الفطريات، أي أن هذه الضفادع مزودة داخلية بمضادات حيوية كالتي نستخدمها نحن بني البشر لقتل الجراثيم المضرة، مما حفز شركات الأدوية والعقاقير إلى استخلاص أدوية ومضادات حيوية جديدة من جلد هذه الضفادع. وفي السياق نفسه، فقد اكتشف العلماء لغز عيش الصراصير في وسط مياه الجاري المشبعة بالأمراض والجراثيم، حيث أثبت العلماء بأن هذه الصراصير زودها الله سبحانه وتعالى بمضادات حيوية طبيعية موجودة في جسمها تفيها وتدافع عنها ضد أي غزوٍ بكتيري، واليوم نحن نستخدم بعض أنواع المضادات الحيوية المستخلصة من الصراصير! 

وعندما نذهب إلى المناطق الساحلية الصخرية نشاهد ظاهرة غريبة تتمثل في التصاق المحار والقواقع البحرية بشدة في الأحجار والصخور الملساء الرطبة دون أن تهزها أو تحركها الرياح والتيارات المائية الشديدة والقوية، والتي لا يستطيع أي إنسان أو أي كائن حي آخر أن يقف عليها دون أن يتزحلق فيسقط جريحاً أو صريعاً، حيث اكتشف العلماء مؤخراً بأن هذه القواقع تفرز سائلاً بروتينياً(dihydroxyphenylalanine,DOPA)عند التصاقها بالصخور فتتحول هذه المادة مباشرة إلى مادة صلبة شديدة القوة ومقاومة لماء البحر، مما جعلهم يطورون مادة كيميائية مشابهة لهذه المادة التي تفرزها القواقع في تطبيقات جراحية طبية، وبالتحديد في سد فتحات الأغشية الجلدية ووقف نزيف الدم عند القيام بالعمليات الجراحية. 

كذلك فإن التصاق السحلية أو الوزغ على الأسطح والجدران وحركتها السريعة فوقها دون أن تسقط أو تتزحزح من مكانها، أثارت في العلماء الفضول لمعرفة سر عدم وقوعها، حيث قام العلماء بالفحص المجهري لتفاصيل ودقائق أرجلها، فاكتشفوا وجود شعيرات كثيفة متناهية في الصغر على سطح أرجلها مما يجعلها تلتصق على أي سطح دون أن تسقط أو تهتز، وفي الوقت نفسه لها القدرة على الحركة والمناورة بكل سرعة وخفة ويسر، فهذه الآلية الجديدة والتقنية المتطورة الموجودة في هذا الكائن الفطري جعل الإنسان يطور مواد مشابهة توضع في القفاز اليدوي وتعمل كأرجل السحلية أو رجل العنكبوت "السبيدر مان"، كما ابتكر الأطباء أيضاً مادة لاصقة للجروح بدلاً من الخياط أو الدبوس الذي يتلف الخلايا المحيطة بالجرح، وأُطلق عليه لصاق السحلية(gecko tape) ويستخدم لعمليات جراحة القلب وسد الفتحات الجراحية دون إحداث تلفٍ للخلايا والأنسجة.

فكل هذه الاختراعات والابتكارات الحديثة المستخلصة من الحياة الفطرية النباتية أو الحيوانية التي تعيش معنا، جعلت العلماء وأساتذة الجامعات يؤسسون علماً جديداً متخصصاً يدرس في الجامعات تحت عنوان:"هندسة الإلهام الحيوية"(bioinspired engineering) بهدف تخريج أجيال من البشر يتأملون في مخلوقات الله للاستفادة منها في حل مشكلاتهم اليومية، كما أنشأت مؤسسة دولية تعنى بهذا العلم الهندسي المتطور تحت مسمى المؤسسة الدولية للمحاكاة الحيوية ومعهد المحاكاة الحيوية
.(World Biomimetic Foundation and the Biomimicry Institute)

الخميس، 12 يوليو 2018

الحياة الفطرية تلهم العلماء(الجزء الأول)


العالم المبدع والمثابر الذي لا يعرف اليأس والقنوط في عمله هو الذي يستفيد من كل ظاهرة يراها أمامه ويتعلم من كل حَدث أو واقعة طبيعية يشاهدها في يومه حتى لو أخذ ذلك منه سنواتٍ طويلة وجهدٍ عظيم ومتواصل، فيحاول أن يضع لها تفسيراً علمياً ومنهجياً، والعالم الفذ المخترع يقف متأملاً ومتفكراً أمام كل كائن حي يعيش بالقرب منه، أو بعيداً في بيئاته الطبيعية الفطرية النائية، فيحاول أن يدرس ويتفحص هذه الكائنات دراسة علمية دقيقة وموضوعية من أجل أن يبحث عن أسرارها وأسلوب حياتها، ويجيب على ألغاز تأقلمها وتكيفها مع البيئات التي تعيش فيها، ثم يكتشف كيفية الاستفادة من هذه المشاهد والمخلوقات لرقي الإنسان وتطوره وتقدمه في كافة المجالات، الطبية، والصحية، والعلمية، والاجتماعية، والاقتصادية.

فطالما كانت هذه المظاهر والحوادث الكونية الطبيعية وهذه الحياة الفطرية والمخلوقات النباتية والحيوانية في البر والبحر والجو والأدغال النائية مصدر إلهامٍ وشغفٍ كبيرين للباحثين، وطالما كانت كل هذه الحياة الطبيعية والمشاهد الحية دعوة لهم لسبر غورها، والولوج في أعماقها، وحافزاً لهم لكشف أسرارها وخفاياها، فكم من اكتشافاتٍ علمية، واختراعات نافعة مثيرة، وابتكارات عملية مفيدة، وأدوية ناجعة فريدة، وعلاجات شافية، تم استخلاصها واستخراجها وصناعتها من هذه الحياة الفطرية.

والأمثلة على استغلال الإنسان والاستفادة من الحياة الفطرية في حياته اليومية العملية لا تُعد ولا تحصى منذ القدم، وسأذكرُ لكم القليل منها من باب الأمثلة لا من باب الحصر. فقد أعلنتْ وكالة الفضاء الأمريكية(ناسا) في الثامن من أبريل 2018 أنها تُطور روبوتات(إنسان أو حيوان آلي) على هيئة وشكل حشرة النحل بكامل أجنحتها وأرجلها لجمع المعلومات من سطح المريخ، وبالتحديد معلومات عن نسبة غاز الميثان في الهواء الجوي للمريخ، فهذه الحشرة الآلية تحاكي النحل في أسلوب طيرانها، وطريقة تحليقها في الجو، وآلية تنقلها من زهرةٍ إلى أخرى لتلقيحها وجمع الرحيق منها بحثاً عن الغذاء لإنتاج العسل الشافي للإنسان من الأسقام والعلل.

أما شركة بوسطن داينميكس الأمريكية(Boston Dynamics) المتخصصة في صناعة الإنسان الآلي فقد طوَّرت روباتاً على شكل الكلب له أربعة أرجل كاملة يمشي ويجري كجري الكلب في الطبيعة، كما أن هناك شركات أخرى عملت الاختراع نفسه، ولكن صممت وأنتجت روبوتات حيوانية على هيئة وشكل الزواحف البرية كالثعابين بهدف القيام بتطبيقات عملية في حياتنا اليومية ينتفع منها الإنسان، منها قيام هذه الحيوانات الآلية في البحث في أنابيب مياه المجاري وغيرها من الأنابيب الطويلة التي تدفن تحت الأرض لمسافاتٍ وأعماق كبيرة والقيام بأعمال الصيانة والمراقبة الدورية والتصليحات اللازمة عند حدوث أي خللٍ أو عطل، أو استخدامات الروبوتات الحيوانية لأغراض طبية علاجية عند الجراحين للدخول في أعماق أعضاء جسم الإنسان والكشف عن أسباب الأمراض التي يتعرض لها. فآلية وسهولة حركة هذه الحيوانات في الطبيعية في البر، أو عند تحليقها في أعالي السماء، وطريقة وأسلوب طيرانها، أو ميكانيكية مشيها وانسياب حركتها وزحفها على الأرض، هي التي ألهمت العلماء وأثارت فيهم فضول المعرفة والاكتشاف وجعلتهم يقلدونها من خلال تطوير أجهزة ومعدات تحاكي حركتها في بيئاتها الفطرية.

وفي السياق نفسه فقد نشر علماء ألمانيا بحثاً في السادس من ديسمبر 2017 في مجلة "تطورات في علم الحيوان"(Frontiers of Zoology) حول تصميم وصناعة "صرصور آلي"(roachbots) يستفيد ويحاكي طريقة وسرعة وآلية حركة أرجل الصراصير في الهروب السريع والمفاجئ من فريستها، إضافة إلى قدرتها الفائقة في الدخول في الأماكن الضيقة والفتحات الصغيرة جداً، ويقترح الباحثون استخدام هذا الصرصور الآلي في عمليات الإنقاذ والبحث عن الناجين عند هدم المنازل والمباني أثناء الزلازل أو الحروب، وفي الكهوف الضيقة، والأماكن البعيدة المظلمة.

كذلك قام العلماء المفكرون والمـتأملون في مخلوقات الله سبحانه وتعالى التي تعيش في بيئات صحراوية جافة وجرداء لا يتحملها البشر، كالخنفساء،تلك الحشرة الصلبة والقوية، وبحثوا ملياً لسنوات في فك لغز وأسرار مقاومتها وتأقلمها وصمودها أمام أشد الظروف والبيئات جفافاً وحرارة وشحاً للماء على سطح الأرض.فلا بد من أن تكون بداخل هذا الكائن الحي مقومات وأدوات تمكنها على الحصول على سر بقاء أي كائن حي وهو الماء والاستمرار في الحياة بأمن وأمان وراحة واستقرار والتكاثر والنمو في مثل هذه الأجواء والظروف الشديدة القسوة. فبعد إجراء تشريحٍ دقيق مجهري لأعضاء جسم هذه الحشرة تبين أن ظهرها يتميز بسطحٍ مُتعرج غير مستوي، ويتكون من مادة شمعية بها تجاويف ومسامات وفتحات صغيرة جداً لا ترى بالعين المجردة، وهذه التجاويف وتصميم الظهر غير المستقيم يمكنها من جمع قطرات الماء عند ساعات الفجر الأولى فوق ظهرها فتخزنها وتستخدمها عند الحاجة إليها أثناء حر الشمس وندرة الماء. فهذه التقنية الربانية ذات الكفاءة العالية في استخلاص وتكثيف وتحزين قطرات الماء، ألهمت العلماء إلى تصميم وتطوير وابتكار نظامٍ جديد أكثر فاعلية من النظم القديمة لتكثيف السوائل من البخار وجمعها وتخزينها.