السبت، 28 يوليو 2018

التلوث يدمر الاقتصاد ويطرد الاستثمار


عندما تعاني من وعكةٍ صحية، أو حالة مرضية فإنك ستذهب مباشرة إلى الطبيب للكشف على حالتك، وهناك مؤشرات ومظاهر محددة يبحث عنها الطبيب لمعرفة وتشخيص الوضع الصحي الذي تشكو منه، فدرجة حرارة جسمك تُعد من أول المؤشرات التي يقيسها الطبيب، ثم ضغط الدم من حيث الارتفاع أو النزول، وما إلى ذلك من المؤشرات الأخرى كنبضات القلب، وأداء الرئتين، إضافة إلى التحاليل المتعددة والمختلفة للدم التي تكشف عن طبيعة المرض.

 

والبيئة ومكوناتها الطبيعية من ماءٍ وهواءٍ وتربة ومسطحات مائية عذبة أو مالحة وحياة فطرية، كلها تشكو وتصرخ إذا أصابها الألم الداخلي في أعضاء جسمها، أو وقع أي تغيير جذري وسيء في حالتها، ولكن ليس لها القدرة على أن تشكو بلسانها وبحواسها الخمس كالإنسان، ولكن لحسن الحظ أن هناك مظاهر وصور محددة تنكشف على جسم البيئة فيمكن مشاهدتها بالعين المجردة وبالتحاليل المخبرية، ونعتبرها هي المؤشر الأول على معاناة مكونات البيئة وتدهور صحتها وتعرضها للأمراض أو الأسقام.

 

فعندما نرى أمامنا مسطحاً مائياً قد تحول من اللون الجميل الذي يفرح الإنسان لمشاهدته ويأنس في الوجود بالقرب منه إلى لون الدم الفاقع، أو اللون الأخضر الداكن، أو اللون البني القاتم، فلا شك بأنك ستعلم بأن خللاً ما قد وقع على هذه البيئة المائية، وأنها تقاسي من علة قد وقعت على بدنها، فالملوثات التي يصرفها الإنسان من مياه المجاري، أو من مخلفات المصانع، أو من المزارع والبساتين، إضافة إلى حرارة الجو والطبيعية الجغرافية للمنطقة هي التي تكشف مرض البيئة وشكواها من تدهور ملموس وقع على أمنها الصحي. وهذه الظاهرة عندما تنكشف تنفر الناس من البقاء بالقرب من هذه البيئات المائية، وتطرد المستثمرين من صرف أموالهم في مشاريع على هذه المسطحات المائية، إضافة إلى الخسائر الاقتصادية الطائلة والأموال الضخمة التي يجب صرفها لإعادة هذه البيئة إلى طبيعتها الأولية.

 

ومثل هذه المناظر المنَّفرة والكريهة شاهدناها في البحرين في عدة مناطق بحرية في عدة مناسبات، وبخاصة في أشهر الصيف الحارة وفي مناطق الخلجان الضحلة وشبه المغلقة، منها خليج توبلي ومنطقة عراد حيث تبدل لون ماء البحر إلى اللون الأحمر والأخضر، ونفقت الأسماك الموجودة فيها، وإنبعث منها الروائح العفنة والكريهة.

فمن منا سيذهب إلى هذه المنطقة البحرية لممارسة الرياضات المائية ويعرض نفسه لأخطار صحية؟

ومن منا سيذهب وهو وأطفاله إلى هذا البحر الآسن السام ليستحم فيه ويقضي وقتاً ممتعاً للترفيه والتسلية والراحة؟

ومن منا سيصرف ماله للاستثمار في مرافق يبنيها أو يؤجرها على ساحل هذا البحر؟

 

ودعوني أضرب لكم مثالاً صارخاً واحداً فقط وقع في العاشر من يوليو من العام الجاري في واحدة من أهم المناطق الساحلية العذبة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في ولاية فلوريدا السياحية المعروفة عالمياً في بحيرة أكيشوبي(Lake Okeechobee) الواقعة شمال غرب مدينة ميامي، حيث تحولت مساحة عظيمة من هذه البحيرة الجميلة وتبلغ نحو 1800 كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين، إلى منطقة خضراء مخيفة تطفو لمسافات طويلة فوق سطح الماء وتنبعث منها روائح عفنة وكريهة جعلت الناس تهرب من شدة وقوة رائحتها الآسنة إلى درجة أن حالكم الولاية عندما ذهب في جولة في هذه البحيرة أصابه الذهول والحيرة في الوقت نفسه مما شاهده بأم عينيه، فاضطر إلى إعلان حالة الطوارئ في منطقة هذه البحرية والقيام فوراً بعمليات جراحية سريعة لإنقاذ هذه البحيرة من الموت المحتوم. فما حدث تدمير شامل للاقتصاد من ناحية عزوف السواح الذين يبلغ عددهم نحو ستة ملايين سائح من الذهاب إلى هذه البحيرة، وهروب مباشر وفوري لرأس المال والعزوف عن الاستثمار، وحرمان الناس من مياه الشرب التي تأتي إليهم من هذه البحيرة العذبة، إضافة إلى عزوف الناس عن شراء الأسماك والكائنات البحرية الأخرى.

 

فظاهرة تحول لون المسطحات المائية وتدهور صحتها ما هي إلا مثال واحد يكشف معاناة البيئة من التلوث وتعدي الإنسان على حرمتها وأمنها، وتأثير هذه الحالة على إصابة الاقتصاد بمرضٍ مزمنٍ مستعصي عن العلاج، وتحويل وهروب رأس المال ونفور المستثمرين إلى مشاريع أخرى قد تكون خارج البلاد. وفي المقابل هناك أمثلة أخرى ربما تكون أشد قسوة على مكونات بيئتنا، كالطامة الكبرى التي تعاني منها المدن الحضرية في كل أنحاء العالم منذ قرون ومازالت المعاناة قائمة، مثل تدهور نوعية الهواء الجوي بيئياً وصحياً بالملوثات السامة والخطرة والمسرطنة التي تنكشف الآن على شكل سحبٍ بينة صفراء اللون تعرف بظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، وعندما تنكشف هذه الظاهرة تدق أجراس الإنذار محذرة الأطفال وكبار السن خاصة من الخروج من منازلهم، أو ممارسة أي نشاط رياضي خارج المناطق الآمنة المغلقة. وهذه الظاهرة هي السبب في نفور الكثير من الشركات والأفراد والمستثمرين من المدن التي تعاني منها، وشد الرحال إلى مدن تتميز بنقاء هوائها، وصفاء مائها، وجمال بحارها.

وبالتالي إذا أردنا فعلاً أن ننجح في بلادنا على المدى البعيد في تقوية وتنمية الاقتصاد، واستقطاب رؤوس الأموال، فعلينا أن نهتم بصحة هوائنا وبحارنا وتربتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق