الثلاثاء، 10 يوليو 2018

تلوث الهواء وداء السكري


هناك انطباعٌ خاطئ واعتقادٌ سائد غير صحيح عند الأطباء وعامة الناس بأن التلوث، وبالتحديد تلوث الهواء مرتبط فقط بأمراض الجهاز التنفسي، أي حسب اعتقاد الكثير من الناس أن ملوثات الهواء الجوي تدخل إلى جسم الإنسان عن طريق التنفس من الأنف فتؤثر على الحنجرة والرئتين وتُسقط الإنسان في الأسقام والعلل ذات العلاقة بهما، مثل الربو والتهابات القصبات والشُعب الهوائية، وأما أعضاء الجسم الأخرى فلا تتضرر بالملوثات ولا يتعرض الإنسان لأمراض أخرى لها علاقة بتلوث الهواء الجوي.

 

ولكن الدراسات العلمية اليوم أثبتت عدم مصداقية هذا الانطباع الشائع، وأكدت بأن هناك أمراضاً كثيرة يصاب بها الإنسان نتيجة لتعرضه للملوثات التي تشبع بها الهواء الجوي، وفي كل يوم تكشف لنا هذه الأبحاث البيئية الطبية عن عللٍ وأسقامٍ جديدة لم تُعرف تقليدياً من قبل بأن لها علاقة بتلوث البيئة بشكلٍ عام.

 

فمن الأوبئة التي أُصيبت بها البشرية اليوم والتي تحولت إلى وباءٍ مدمر للصحة نتيجة لنمط حياتها غير المستدام وأسلوب الاستهلاك غير الرشيد وعدم الاعتدال في الممارسات اليومية، هو مرض السكري الذي انتشر خلال العقدين الماضيين في مجتمعاتنا كانتشار النار في الهشيم، وبدأ يسري في شرايين الشعوب كجريان الدم في جسم الإنسان.

 

وقد ارتبط هذا الوباء مباشرة ومنذ انكشافه بالإنسان نفسه، من حيث نمط الحياة اليومية التي يعيشها، والأسلوب الذي يتبعه في ممارساته وعاداته، فقد أكد الأطباء أن من أهم الأسباب التي تُسقط الإنسان في مرض السكري هو عدم ممارسة الرياضة والأنشطة البدنية، والعادات الغذائية السيئة وغير المتنوعة، والوزن الزائد والبدانة، إضافة إلى العامل الوراثي الذي له دور في الإصابة بهذا الوباء.

 

واليوم أضاف العلماء إلى هذه القائمة المسببة للسكري عاملاً ومصدراً جديداً لم يكن في الحسبان ولم يخطر على بال أحد، وجاءت الدراسات منذ سنوات معدودة لتؤكد في كل يوم على واقعية هذا العامل ومساهمته الفاعلة في التعرض للمرض.

 

هذا العامل الذي ظهر مؤخراً هو التلوث بشكلٍ عام وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، حيث أكدت آخر دراسة جامعة وشاملة منشورة في المجلة الطبية المرموقة "اللانست صحة الكوكب"(Lancet Planetary Health) في الأول من يوليو من العام الجاري على هذه الحقيقة الجديدة ووجهت أصابع الاتهام إلى تلوث الهواء الجوي في تعريض الملايين من البشر على مستوى الكرة الأرضية برمتها للإصابة بالسكري. فقد قام الباحثون بمتابعة ومراقبة الحالة الصحية لنحو 1.7 مليون أمريكي غير مصابين بالسكري ولمدة نحو ثمان سنوات، ثم درسوا العلاقة بين تلوث الهواء في المناطق والمدن التي يسكنون فيها والأمراض التي يصابون بها، وبخاصة مرض السكري، كما قام الباحثون في هذه الدراسة أيضاً بدراسة هذه الظاهرة الصحية البيئية في 194 دولة.

 

وقد جاءت نتائج الدراسة مؤكدة على دور تلوث الهواء في انتشار وباء السكري، حيث حمَّل الباحثون تلوث الهواء مسؤولية انكشاف أكثر من 3.2 مليون حالة سكري جديدة، أي 14% من مجموع الحالات على مستوى كوكبنا في عام  2016، كما أفادت الدراسة بأن هناك قرابة 15 ألف حالة جديدة من السكري من النوع الثاني تضاف سنوياً إلى الأعداد المهولة من المصابين بهذا الداء الخطير في بريطانيا فقط، فعدد مرضي السكري تضاعف مرات عديدة من 700 ألف في التسعينيات من القرن المنصرم إلى 2.8 مليون حالياً، أي قرابة 410 حالة يومياً، وبكلفة إجمالية تقدر بنحو 14 بليون جنيه سنوياً، وفي الولايات المتحدة الأمريكية هناك 150 ألف حالة جديدة سنوياً تظهر نتيجة لتدهور جودة الهواء الجوي في المدن.

 

وظهور هذا العامل الجديد الذي يُسهم بشكلٍ مباشر وفاعل في الإصابة بمرض السكري وأمراض أخرى كثيرة ومتنوعة، ويؤدي مع الوقت إلى ازدياد أعداد المرضي وتفاقم هذه الظاهرة البيئية الصحية وانعكاساتها الثقيلة على ميزانية الدولة في القطاع الصحي، من المفروض أن يحدث تغييراً جذرياً في تصوراتنا واهتماماتنا وسياساتنا بالنسبة لمصادر تلوث البيئة بشكلٍ عام، ومصادر تلوث الهواء الجوي وتدهور نوعيته بشكلٍ خاص.

 

فهذه الدراسات العلمية الطبية التي تخرج علينا كل يوم يجب أن تُطور وتحدِّث استراتيجياتنا البيئية من جهة واستراتيجياتنا وسياساتنا الصحية من جهة أخرى، فعلينا أن نُواكب في استراتيجياتنا وتشريعاتنا وبرامجنا الحالية والمستقبلية هذه المستجدات والاكتشافات على الساحة البيئية والصحية، وعلينا أن نلحق قبل فوات الأوان بركب هذه المتغيرات السريعة والكبيرة فنعمل فوراً على تنظيف وتنقية هوائنا وتصفيته من الملوثات المسببة للأمراض كجزء من العلاج وتجنب ومنع المرض، بدلاً من أن نُركز كل جهودنا وإمكاناتنا على وصف الأدوية والعقاقير للعلاج ونصرف المبالغ الطائلة في توفيرها، والتي هي في الحقيقة شر في الوقت نفسه.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق