الجمعة، 13 يوليو 2018

الحياة الفطرية تلهم العلماء(الجزء الثاني)



لم يخلق الله الإنسان وباقي الكائنات الحية النباتية والحيوانية عبثاً وبدون هدف أو وظيفة تقوم بها أو دور حيوي ضمن النظام البيئي الذي تعيش فيه، فلكل كائن حي، مهما صغر، ومهما كان ضاراً في نظرنا، فإن له مهمة يقوم بها بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وله منافع جمة للإنسان ولحياته اليومية، فقد اكتشف العلماء البعض من هذه الفوائد والمنافع، ومازال في كل يوم يكتشف ويخترع ويقدم ابتكارات للبشرية مستخلصة من هذا الكائن الفطري الحي.

فالله جلَّت قدرته وعظمته خلق الكائنات بقدرٍ واتزان كمياً ونوعياً، وأودع فيها مقومات البقاء على الحياة، وغرس بداخلها قدرات تمكنها من الاستدامة في معيشتها في تلك البيئة التي تتواجد فيها، فعندما نرى أي كائنٍ حي في بيئة باردة قارسة البرودة يجب أن نثق بأن هذا الكائن الحي مزود بكافة الوسائل التي تجعلها تعيش في راحة وأمان في هذه البيئة الثلجية العصيبة، وعندما نرى أي كائن حي في بيئة صحراوية جرداء شديدة الحرارة فإن الله قد خلقه بصورةٍ كاملة تجعله يقاوم الحرارة المرتفعة وندرة الماء، وعندما نرى أي كائن حي في يعيش في بيئة المستنقعات العفنة ومياه المجاري الآسنة فيجب أن نطمئن بأن بداخل هذا الكائن الحي أدوات وتقنيات متطورة جداً تقاوم الجراثيم المرضية والفيروسات القاتلة التي تعيش في هذه البيئة القاسية الشديدة الخطورة على صحة الإنسان.

فهذه المظاهر والصور الحية لكائنات فطرية غريبة وعجيبة تعيش في ظروفٍ غير عادية، ألهمت وحفَّزت العلماء إلى التأمل فيها، والتعمق في ألغازها وأسرارها، والانتفاع من وسائلها وأدواتها وتقنياتها لما فيه خير البشرية ونماء ورقي الإنسان.

فهناك على سبيل المثال نوع من الضفادع البُنية التي تعيش وتتكاثر في مستنقعات روسيا، حيث تعيش في البيئة نفسها كافة أنواع الحشرات والجراثيم المهلكة لأي كائن حي والمسببة للعلل والأسقام القاتلة، فكيف إذن لهذه الضفادع أن تجعل من هذه المستنقعات الآسنة بيئة آمنة لها فتعيش وتتكاثر فيها، وكأن هذه الجراثيم غير موجودة بينها؟

فمثل هذه الحالة المتناقضة ألهبت فكر العلماء، وألهمتهم لتدبرها وسبر غورها ومعرفة سرها، فقد اكتشفوا بأن لهذه الضفادع آلية مؤثرة تدافع فيها عن نفسها ضد هذه الكائنات المرضية الدقيقة، وأن لها تقنيات عالية الكفاءة تُبعد عن جسمها كل كائن حي يسبب لها الأمراض، حيث تأكد أُولوا الألباب من العلماء بأن جلد هذه الضفادع يفرز سائلاً فريداً من نوعه، وعند التحليل المخبري لهذا السائل تبين أنه يتكون من 76 مادة كيميائية جديدة لها خصائص فاعلة وقوية ضد الميكروبات وضد الفطريات، أي أن هذه الضفادع مزودة داخلية بمضادات حيوية كالتي نستخدمها نحن بني البشر لقتل الجراثيم المضرة، مما حفز شركات الأدوية والعقاقير إلى استخلاص أدوية ومضادات حيوية جديدة من جلد هذه الضفادع. وفي السياق نفسه، فقد اكتشف العلماء لغز عيش الصراصير في وسط مياه الجاري المشبعة بالأمراض والجراثيم، حيث أثبت العلماء بأن هذه الصراصير زودها الله سبحانه وتعالى بمضادات حيوية طبيعية موجودة في جسمها تفيها وتدافع عنها ضد أي غزوٍ بكتيري، واليوم نحن نستخدم بعض أنواع المضادات الحيوية المستخلصة من الصراصير! 

وعندما نذهب إلى المناطق الساحلية الصخرية نشاهد ظاهرة غريبة تتمثل في التصاق المحار والقواقع البحرية بشدة في الأحجار والصخور الملساء الرطبة دون أن تهزها أو تحركها الرياح والتيارات المائية الشديدة والقوية، والتي لا يستطيع أي إنسان أو أي كائن حي آخر أن يقف عليها دون أن يتزحلق فيسقط جريحاً أو صريعاً، حيث اكتشف العلماء مؤخراً بأن هذه القواقع تفرز سائلاً بروتينياً(dihydroxyphenylalanine,DOPA)عند التصاقها بالصخور فتتحول هذه المادة مباشرة إلى مادة صلبة شديدة القوة ومقاومة لماء البحر، مما جعلهم يطورون مادة كيميائية مشابهة لهذه المادة التي تفرزها القواقع في تطبيقات جراحية طبية، وبالتحديد في سد فتحات الأغشية الجلدية ووقف نزيف الدم عند القيام بالعمليات الجراحية. 

كذلك فإن التصاق السحلية أو الوزغ على الأسطح والجدران وحركتها السريعة فوقها دون أن تسقط أو تتزحزح من مكانها، أثارت في العلماء الفضول لمعرفة سر عدم وقوعها، حيث قام العلماء بالفحص المجهري لتفاصيل ودقائق أرجلها، فاكتشفوا وجود شعيرات كثيفة متناهية في الصغر على سطح أرجلها مما يجعلها تلتصق على أي سطح دون أن تسقط أو تهتز، وفي الوقت نفسه لها القدرة على الحركة والمناورة بكل سرعة وخفة ويسر، فهذه الآلية الجديدة والتقنية المتطورة الموجودة في هذا الكائن الفطري جعل الإنسان يطور مواد مشابهة توضع في القفاز اليدوي وتعمل كأرجل السحلية أو رجل العنكبوت "السبيدر مان"، كما ابتكر الأطباء أيضاً مادة لاصقة للجروح بدلاً من الخياط أو الدبوس الذي يتلف الخلايا المحيطة بالجرح، وأُطلق عليه لصاق السحلية(gecko tape) ويستخدم لعمليات جراحة القلب وسد الفتحات الجراحية دون إحداث تلفٍ للخلايا والأنسجة.

فكل هذه الاختراعات والابتكارات الحديثة المستخلصة من الحياة الفطرية النباتية أو الحيوانية التي تعيش معنا، جعلت العلماء وأساتذة الجامعات يؤسسون علماً جديداً متخصصاً يدرس في الجامعات تحت عنوان:"هندسة الإلهام الحيوية"(bioinspired engineering) بهدف تخريج أجيال من البشر يتأملون في مخلوقات الله للاستفادة منها في حل مشكلاتهم اليومية، كما أنشأت مؤسسة دولية تعنى بهذا العلم الهندسي المتطور تحت مسمى المؤسسة الدولية للمحاكاة الحيوية ومعهد المحاكاة الحيوية
.(World Biomimetic Foundation and the Biomimicry Institute)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق