الأحد، 8 يوليو 2018

لماذا منعتْ أمريكا نشر أكبر دراسة عن شرب الخمر؟


 

عندما كنتُ أرغب في نشر أي بحثٍ علمي في المجلات العلمية الموثقة ذات المصداقية العالية، كان إلزامي علي في بعض الحالات أن أُوقع على إقرارٍ كتابي مني شخصياً قبل موافقة المجلة على النشر، وهذا الإقرار يتلخص في عدة مبادئ علمية جوهرية تقنن النشر العلمي، من أهمها مصداقية نتائج الدراسة وتحليلها وعدم التلاعب فيها من خلال تجنب الخضوع لمؤثرات وضغوط خارجية حكومية كانت أو شركات خاصة، إضافة إلى تجنب التضارب في المصالح كدعم جهات خاصة للبحث ذات أجندة محددة لها علاقة بموضوع الدراسة، أو الارتباط مع جهات ذات مصالح خاصة، وفي حالة تأكد عدم الالتزام بهذه القيم والأسس الموضوعية للنشر، فإن البحث يكون مرفوضاً وغير قابل للنشر.

 

وهذا التشديد والتدقيق من قبل المحررين والمشرفين على المجلات العلمية المرموقة وإلزامهم الباحث إلى الإقرار بمصداقية وموضوعية تصميم ونتائج بحثه، جاء بعد تجربة مريرة وواقع أليم تمثل في قيام بعض الشركات الخاصة باستغلال وتجنيد بعض المرتزقة من العلماء والباحثين لإجراء دراسات وأبحاث علمية تُسند أجندتهم، وتُدعم مواقفهم ومرئياتهم، وتبرر منتجاتهم وبضاعتهم وتزينها لعامة الناس بأنها سليمة وصحية وآمنة، وفي المقابل تقوم هذه الشركات الممولة بدعم هذه الأبحاث ودعم القائمين عليها سواء أكانوا أفراداً، أم مؤسسات، أم مراكز أبحاث ودراسات علمية بمبالغ سخية ومغرية لا يمكن رفضها، كما هو الحال بالنسبة للأقلام المأجورة في وسائل الإعلام، وبخاصة الصحافة والمجلات التي تبيع قلمها وهويتها ومصداقيتها بدراهم زهيدةٍ معدودة.

 

ولذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلة في المعاهد الوطنية للصحة في 15 يونيو من العام الجاري، حسب ما نشر في صحيفة النيويورك تايمس ومجلة "العلوم" في 22 يونيو، بإيقاف ومنع نشر أية معلومات أو نتائج من الدراسة التي بدأت في عام 2014 حول شرب الخمر على المستوى الدولي!

 

فلماذا إذن تم سحب هذه الدراسة ومنعها من النشر؟

 

بدأت قصة منع هذه الدراسة عندما أرادت الحكومة الأمريكية ممثلة في المعهد الوطني حول الخمر التابع للمعاهد الوطنية للصحة الإجابة عن سؤالٍ تاريخي بالنسبة للمجتمع الأمريكي خاصة والمجتمع الدولي عامة وهو: هل كمية قليلة من الخمر مفيدة للصحة؟ وهل شرب الخمر باعتدال يحمي القلب من الأمراض المهلكة؟

 

ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال قام المعهد الوطني حول الخمر بدعوة كافة الجهات لتمويل هذه الدراسة الشاملة التي تُكلف مائة مليون دولار وتستغرق عشر سنوات وتشمل 16 مدينة حول العالم، حيث استغلت مصانع إنتاج الخمر والشركات التي لها علاقة بصناعة وتسويق وبيع الخمر هذه الفرصة الذهبية للتأثير مسبقاً على النتائج والقرار النهائي، فدفعتْ فوراً وبدون أي تردد مبلغاً مالياً سخياً لتمويل الدراسة، وتدخلت في المراحل الأولى للدراسة في تصميمها وصياغتها وكيفية إجرائها، ولكن تم هذا دون علم المعاهد الوطنية للصحة.

 

 وبعد مرور سنوات، كشفت المجلات الأمريكية، ومنها مجلة "التايم" عن هذه الحقيقة والتضارب في المصالح، حيث إن استلام التبرعات والدعم المالي من مصانع وشركات الخمر لإجراء دراسة حول "الخمر" يُعد مخالفة صريحة للسياسات الأمريكية الاتحادية، مما ألزم إدارة المعاهد الوطنية للصحة إلى إجراء تحقيقٍ داخلي مستقل وشفاف للتأكد من صحة ادعاءات هذه التقارير الإعلامية. 

 

وبالفعل تأكدت إدارة المعاهد الوطنية للصحة من أن جزءاً كبيراً من المبلغ المخصص للدراسة جاء من "شركات إنتاج الخمر"، منها على سبيل المثال 15 مليون دولار من شركة(Anheuser Busch InBev)، وهي شركة متعددة الجنسيات تقوم بإنتاج الخمر. وعلاوة على هذا الدعم المالي فقد كان كشف التحقيق بأن لهذه الشركات دوراً في تصميم وصياغة الدراسة، مما يثبت تأثيرها وبصماتها على الاستنتاجات التي تتمخض عن الدراسة، أي أن هذه الدراسة ستكون متحيزة وغير موضوعية وغير مستقلة واستنتاجاتها ستكون معروفة مسبقاً ولا يمكن الاعتماد عليها في رسم السياسات حول الخمر وأخذ القرارات الخاصة بالخمر، ولذلك كان القرار النهائي للمعهد صائباً ومحقاً وهو سحب هذه الدراسة كلياً، وبرر رئيس المعهد هذا القرار قائلاً: "إننا نُريد أن نتأكد بأن جدول أعمال أبحاث المعهد يعتمد كلياً على الاستقلالية والموضوعية العلمية وليس على الأولويات التسويقية للشركات العملاقة".

 

وهذه الحالة التي ذكرتها لكم تدعونا إلى توخي الحذر والحيطة من نتائج الدراسات التي تدّعي بأنها "علمية"، فقد تكون متحيزة ومتواطئة مع الجهات الداعمة والممولة لها التي لها مصلحة مادية من ورائها.                    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق