الأربعاء، 8 مايو 2024

التدمير الشامل للمساكن في غزة جريمة حرب

 

الإبادة الجماعية للبشر(genocide) معروفة ومقننة منذ الأربعينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في اتفاقيات جنيف لعام 1948، حيث تم تعريفها بأنها: "التدمير المتعمد والمنهجي لمجموعة من الناس بسبب عرقهم، أو جنسيتهم، أو دينهم، أو أصلهم"، فهذه الإبادة الجماعية للبشر صُنِّفت بإجماع كل دول العالم، كجريمة حرب على المستوى الدولي.

 

ولكن الإبادة الجماعية للبشر في غزة والتي بدأت منذ السابع من أكتوبر 2023، ألقت الأضواء في الوقت نفسه على نوعٍ من الإبادة الجماعية يُعد حديثاُ نسبياً على المجتمع الدولي، ويأخذ الآن طريقه رويداً رويداً ضمن قائمة جرائم الحرب الدولية.

 

وهذا النوع الجديد نسبياً من جرائم الحرب يتمثل في التدمير الشامل المنهجي والمتعمد لمساكن المدنيين ومنازلهم وعماراتهم، إضافة إلى تدمير البنية التحتية المدنية التي تُقدم الخدمات الأساسية الضرورية لحياة لائقة وكريمة للبشر، سواء أكانت الكهرباء، أو مياه الشرب، أو معالجة مياه المجاري والقمامة، أو المزارع والحقول المثمرة(راجع تحقيق صحيفة الواشنطن بوست في 4 مايو تحت عنوان: "الهجمات الإسرائيلية دمرت قدرة غزة على زراعة غذائها")، وغيرها من الخدمات التي لا يمكن أن يعيش الإنسان حياة كريمة ولائقة بدونها.

 

وهذه الفكرة المستجدة ظهرت في القليل من الدراسات العلمية الأكاديمية منذ السبعينيات من القرن المنصرم، وهي باختصار تدعو إلى تصنيف "التدمير الشامل للمساكن أثناء الحروب والنزاعات كجريمة حرب دولية"، وأُطلق عليها مصطلح "دُوْمِيسَيدْ"( domicide)، وأصله عبارة لاتينية مكونة من كلمتين، الأولى (domus) بمعنى بيت ومنزل، والثانية (cide) أو (caedo)بمعنى القتل المتعمد.

 

وفي عام 2001 تم نشر كتاب تحت عنوان:"دوموسيد: التدمير الدولي للمنازل"، وهذا الكتاب يُقدم تعريفاً مختصراً لهذا المصطلح وهو: "تدمير المنازل، وهدم المنازل بصفةٍ متعمدة بدون رضا الساكنين فيها". وهناك تعريف آخر الآن هو: "التدمير المتعمد الشامل لأماكن السكن مما يجعل المنطقة غير صالحة وغير ملائمة للحياة"، كذلك التعريف الذي يقول بأن "الدوموسيد" هو: "التدمير المتعمد والمنهجي للمنازل والبنية التحتية الأساسية بحيث يصبح المكان غير قابل للسكن والحياة".

 

أما على مستوى الأمم المتحدة، ففي 28 أكتوبر 2022 نشرتْ "مفوضية الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان" تقريراً من إعداد "بالاكريشنان راجاغوبال"(Balakrishnan Rajagopal) المقرر الخاص بالحق في السكن اللائق. وجاء التقرير تحت عنوان: "يجب الاعتراف بالـ "دُوْمِيسَايد" كجريمة دولية"، وعرَّف المصطلح الجديد بأنه: "التدمير الشامل والعشوائي أو المنهجي لمساكن المدنيين في النزاعات المسلحة"، وأكد في التقرير الذي عُرض على الجمعية العمومية للأمم المتحدة على أهمية الاعتراف بهذا النوع من الإبادة الشاملة كجريمة حرب دولية انطلاقاً من القانون الدولي.

 

وفي 29 يناير 2024، نشر المقرر الأممي الخاص بالسكن اللائق مقالاً في صحيفة "النيويورك تايمس"، تحت عنوان: "لماذا يجب تصنيف "الدوموسيد" كجريمة ضد الإنسانية"، حيث دعا إلى تحديث وتطوير المعاهدات والقوانين والمحاكم الدولية المختصة بجرائم الحروب والنزاعات إلى ضم هذا النوع الجديد من الإبادة الشاملة كجريمة حرب يحاسب عليها كل من يرتكبها، كما ذكر بأن ما حدث في غزة من تدمير شامل للسكن والبنية التحتية الخدمية للمدنيين يرقى إلى جريمة حرب، لما فيها التعدي الواضح على حقوق الإنسان الأساسية والتي منها حقه في السكان المناسب والملائم الذي يجعله يعيش حياة كريمة ولائقة.

 

فما وقع في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 لم يشهد له التاريخ مثيلاً، ولا يمكن إخفاؤه أو غض الطرف عنه وتجاهله، فما وقع كان بالصوت والصورة أمام الجميع، ومشاهد الدمار الشامل والإبادة الكاملة للبنية التحتية السكنية والخدمية كانت تُنقل مباشرة وفوراً لكل إنسان يعيش على سطح الأرض. فالكل رأى بأم عينيه طائرات الكيان الصهيوني الأمريكية الصنع وهي تقذف على مدى أشهر طويلة الآلاف من القنابل "الغبية" والعشوائية التي تزن نحو طن واحد، وأمام الجميع كانت المباني، والمنازل، والعمارات السكنية تسقط مرة واحدة في ثانية واحدة، وأمام الجميع تكرر هذا المنظر التدميري الشامل لأكثر من سبعة أشهر، وأمام الجميع كانت مشاهد النساء، والأطفال، والشيوخ وهم يُحملون على أيدي الناس سريعاً لنقلهم إلى حيث الأمان، وأمام الجميع كان الناس يشاهدون ويتحسسون البشر صغاراً وكباراً، شيوخاً وأطفالاً، أحياءً وأمواتاً وهم يؤخذون من تحت الركام والتراب وحطام المباني. فالتدمير حتى اليوم شمل أكثر من 70% من المساكن، والمساجد، والجامعات، والكنائس، والمباني الإدارية، والمقابر، حيث أفادت التقديرات الأممية الأولية بأن القصف الوحشي قضى كلياً على أكثر من 70 ألف وحدة سكنية، إضافة إلى 290 ألف وحدة سكنية تم تدميرها جزئياً، علماً بأن هذه الأرقام في ارتفاع مطرد مع كل يوم تستمر فيه الحرب.

 

فهذه الإبادة الجماعية والشاملة للمساكن خلف أكثر من 650 ألف إنسان نازح من بيته ومسقط رأسه وليس لهم سكن ومأوى ينام فيه، حسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، وهذا العدد المهول يساوي أكثر من 40% من سكان غزة. كذلك فإن صور الأقمار الصناعية التي نشرتها جامعة ولاية أوريجون وجامعة مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية أكدت بأنه قد تم هدم أكثر من 82.9% من المباني في شمال غزة فقط كلياً أو جزئياً.

 

فمثل هذا التدمير الشامل غير المسبوق تاريخياً للمساكن، صاحبه تدمير جماعي شامل للصحة النفسية والجسدية والعقلية للذين فقدوا منازلهم وأماكن سكنهم الخاص بهم، وفقدوا ذكرياتهم التي حملوها معهم أثناء سكنهم في البيت، ذكريات الطفولة، والشباب، والشيخوخة. فهؤلاء الناس بنوا بيوتهم ولكافة أفراد أسرهم في سنوات طويلة، وربما كل منهم قد أنفق جُل ماله الذي جمعه طوال سنوات حياته من العمل الدؤوب والشاق والمؤلم، ثم تأتي الطائرات الصهيونية فتُطلق صواريخها وقنابلها لتحول هذا البيت إلى ركام وحطام وتراب في أقل من ثانية واحدة، وكأن شيئاً لم يكن. ثم علاوة على هذا المنظر القاسي والعقيم تأتي الصدمة القوية، والمعاناة النفسية والعاطفية العميقة التي ستستمر أبد الحياة ولا يمكن محوها، والتي لا يمكن تصويرها وصياغتها ورسمها بأية عبارة، أو كلمات عندما يقف الإنسان أمام منظر بيته وقد تحول إلى التراب. فهؤلاء البشر فقدوا كل شيء، كل استثمار حياتهم وجهدهم لبناء هذا السكن البسيط، ولا يمكن تعويضهم بأي ثمن وبأي مبلغ مالي.

 

فهذه الإبادة الشاملة لسكن البشر في حد ذاتها يجب أن تدخل ضمن جرائم الحرب الدولية، لما لها من وقع مدمر، وللبصمات العميقة والمؤلمة التي ستتركها على من فقد سكنه طوال ما تبقى من عمره، وفقد حقة كإنسان في السكن اللائق، فضاعت الأحلام، وماتت التطلعات للمستقبل المزدهر والمشرق، ولذلك يجب على كل من قام بهذا الدمار الشامل، وكل من ساهم بالدعم العسكري والمالي والسياسي والاعلامي، أي يتحمل هذه المسؤولية أمام المحاكم الدولية المختصة فيعاقب على هذه الإبادة الجماعية للمساكن والعمارات والبنية التحتية للمدنيين.

 

فهل سيأتي ذلك اليوم؟

 

 

الجمعة، 3 مايو 2024

أزمة مخلفات حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني


الحروب مهما طالت فستنتهي عاجلاً أم آجلاً، ولكن تداعياتها ستبقى خالدة مخلدة في مكونات بيئتنا وتهدد أمننا وسلامتنا، وبخاصة مخلفات القنابل والذخائر والصواريخ التي أُلقيت حتى ولو قبل مئات السنين، فبعضها مازال نشطاً ولم ينفجر، إضافة إلى الألغام الأرضية التي لا توجد سجلات عنها، من حيث الموقع والعدد، فتعرض حياة أي إنسان للموت أو الإعاقة الجسدية الدائمة.

 

فهذه المخلفات الحربية بعضها جاثمة على سطح التربة أو في أعماقها، وبعضها اختفت في أعماق البحار والمحيطات السحيقة، وستؤثر علينا بعد سنوات طويلة قادمة من الزمن، وقد تسبب تدميراً كبيراً للإنسان وبيئته في أية لحظة ومن حيث لا نحتسب.

 

فآخر حادثة نقلتها وسائل الإعلام كانت في 24 أبريل 2024، وحتماً لن تكون الأخيرة، وهي القنبلة التي لم تنفجر من مخلفات وبقايا الحرب العالمية الثانية، أي قبل أكثر من 80 عاماً، حيث تم العثور عليها بالقرب من ملعب "مينز" (Mainz) الرياضي في مدينة مينز الألمانية التي شهدت معارك جوية وبرية ضارية واسعة النطاق من القوات الأمريكية والبريطانية والروسية. وكان اكتشاف هذه القنبلة المدفونة في أعماق التربة عند القيام بأعمال الترميم والتحديث للأستاد الرياضي المعروف وتقليب وتحريك التربة السطحية. وعلى الفور نشرت المدينة اعلاناً تحذيرياً لتنبيه من يهمه بالأمر بالابتعاد عن موقع العثور على القنبلة واخلاء جميع الناس الساكنين بالقرب منها، والذين يبلغ عددهم أكثر من 3500 ألماني، إضافة إلى توقيف الحركة المرورية وكافة البرامج والأنشطة حتى إتمام عملية ابطال مفعول القنبلة، كما أُلغيت المباريات التي كان من المفروض اقامتها في ملعب كرة القدم. كما صرح المسؤولون بأن هذه القنبلة تزن قرابة 500 كيلوجرام، وهي قنبلة أمريكية ألقيت من الجو.

 

فوجود مثل هذه القنابل والذخائر في البر والبحر التي يتم ايجادها بالصدفة في الكثير من الدول الأوروبية والدول التي شاركت في الحربين الأولى والثانية، أصبحت حتى يومنا هذا كثيرة ومتنوعة في حجمها وقدرتها التدميرية، وتشكل خطورة على أمن وسلامة الناس والمرافق التنموية وتهد بانفجارها في أي وقت، وفي أي مكان، وفي أي زمان،  ولا يمكن التخلص منها حتى بعد مرور عقود طويلة من الزمن، ولا يمكن لأحد أن يتكهن بمواقع جثومها في المناطق البرية وفي أعماق البحار والأنهار، فأعدادها تزيد على عشرات الآلاف من القنابل النشطة والتي لم تنفجر بعد، وهي منتشرة في كل هذه الدول التي دخلت الحرب العالمية الأولى والثانية.

 

واليوم نشهد جميعاً بالصوت والصورة، وبالنقل المباشر الفوري من وسائل الإعلام حربْ إبادة جماعية للشعب الفلسطيني عامة، وبخاصة في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023. وهذه الحرب الشاملة غطت البشر، والشجر، والحجر، ودمرت كل ما هو على سطح الأرض، حتى أن التقديرات المبنية على صور الأقمار الصناعية أكدت بأن نحو 75% من المرافق السكنية والإدارية قد تم هدمها كلياً أو جزئياً، أو ما يقدر بأكثر من 98 ألف وحدة سكنية، بين عمارة، وشقة، وفلة.

 

فقد ألقى الكيان الصهيوني، ولأكثر من ستة أشهر عشرات الآلاف من القنابل، والذخائر، والصواريخ بمختلف أحجامها وقوتها وشدتها، حتى أنها في مجموعها تساوي قوتها حتى الآن أكثر من ثلاثة قنابل دمار شامل نووية من النوع الذي ألقته الحكومة الأمريكية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في أغسطس 1945، والتي تُقدر بنحو 15 ألف طن من المتفجرات.

 

وحسب تصريحات مسؤول الأمم المتحدة لإزالة الألغام في 26 أبريل 2024، فإن هذه التفجيرات العشوائية غير المسبوقة في التاريخ على منطقة مساحتها صغيرة جداً، قد خلَّفت عدة أنواع من المخلفات الغازية، والصلبة الخطرة والمتفجرة، وغير الخطرة. فأما المخلفات الغازية فتتمثل في احتراق المتفجرات التي تنبعث عنها المخلفات العضوية وغير العضوية السامة والخطرة والتي بعضها يسبب السرطان، إضافة إلى الدخان الأسود، والأتربة، والغبار، والجسيمات الدقيقة التي تنجم عنها وعن المرافق التي تم هدمها وتسويتها بالأرض. وهذه الجسيمات الدقيقة، كلما قل حجمها وقطرها، زادت تأثيراتها السامة والخطرة على صحة الإنسان لأن لها القدرة على اختراق الجهاز التنفسي العلوي وغزو أعماق الجهاز التنفسي، وبالتحديد الحويصلات الهوائية في الرئتين.   

 

وأما المخلفات الصلبة غير الخطرة فتتمثل في مخلفات الهدم للمرافق السكنية وغير السكنية، حيث قدَّرت الأمم المتحدة كمياتها حتى اليوم بأكثر من 37 مليون طن، وتحتاج إلى 14 سنة للتخلص منها كلياً.

 

ومن جانب آخر فإن هذه الحرب، كباقي الحروب، ولدت مخلفات صلبة خطرة وقابلة للانفجار والاشتعال في أية لحظة. وهذه المخلفات هي القنابل والذخائر والصواريخ التي لم تنفجر، والتي قد تكون في أي مكان في غزة. فمنها ما هو عالق في ركام المنازل والمباني والعمارات، ومنها ما هو مختبئ بين الأنقاض والركام. وهذه المخلفات الصلبة الخطرة ستنفجر عاجلاً أم آجلاً فتُسقط ضحايا بشرية دون سابق إنذار، وتحتاج للتعامل معها إلى خبراء ومتخصصين في كيفية إزالة الألغام والتعامل الآمن والسليم معها. وهناك حسب تصريحات المسؤول الأممي نحو 300 كيلوجرام من مخلفات الهدم والتدمير لكل متر مربع، وهي تمثل تهديداً مباشر لسلامة سكان غزة، وبخاصة إذا كان بداخلها، ومدفون تحتها المخلفات العسكرية والقنابل التي لم تنفجر. 

 

وفي المقابل هناك المخلفات الزراعية الناجمة عن هذه الحرب وعمليات الإبادة الجماعية، فهذا العدو الهمجي البربري لم يدع شيئاً إلا وقضى عليه ودمره كلياً، بشراً، وشجراً، وحجراً. فهناك الكثير من الحقول والبساتين الخضراء، والأراضي الزراعية، والبيوت الزجاجية، والأشجار المعمرة القديمة المثمرة، قد تم جرفها وإزالتها عن طريق المتفجرات الحارقة والصواريخ المدمرة، أو عن طريق الجرافات والآليات الثقيلة التي دهستها فدمرت التربة الزراعية، فولدت مخلفات كبيرة يصعب تقديرها في الوقت الراهن.

 

وكل هذه المخلفات التي تحدثتُ عنها حالياً هي مجرد تقديرات أولية، واحصائيات مبدئية، فالحرب مازالت مشتعلة ومستمرة، وحتماً ستكون المخلفات بجميع أنواعها الغازية، والصلبة الخطرة والمتفجرة، وغير الخطرة أعلى بكثير من التقديرات الآن، والتأثيرات ستكون أشد وطأة وتنكيلاً بالسكان بعد أن تهدأ الأحوال وينكشف المستور والمخفي.