الخميس، 28 سبتمبر 2023

بين السجائر الإلكترونية والسجائر التقليدية


شياطين الإنس والجن الذين يعملون تحت مظلة شركات إنتاج التبغ متعددة الجنسيات يفكرون ويشتغلون ليلاً نهاراً، فلا يسأمون، ولا يُصيبهم الإحباط، ولا تفْتُر عزيمتهم في إبداع أفكارٍ جديدة، ومنتجات مبتكرة حديثة وجذابة لزيادة أرباح شركاتهم، ورفع مستوى ازدهارهم ورقيهم الاقتصادي.

 

فكلما أَغلقت الحكومات والجهات الصحية القومية والدولية أمامهم باباً واحداً، وضيَّقت على رقابهم الخناق، اجتهدوا بسرعة وكفاءة عالية لفتح أبوابٍ كثيرة مختلفة وواسعة يسهل الولوج فيها. وكلما قام المجتمع الدولي، ممثلاً في منظمة الصحة العالمية بتدشين معاهدة دولية لكبح جماح تدخين السجائر على كافة المستويات، عملوا من خلال أجهزتهم القوية المتنفذة والمتشابكة التي لا تنام على تخفيف وطأة هذه المعاهدات، من خلال تمييع صياغتها، وجعلها مرنة وفضفاضة تحتمل بنودها تفسيرات متعددة، وتفتح لهم مخرجاً جديداً يعملون من خلاله.

 

وكلما فشلوا في تسويق المبررات التي يقدمونها للعالم لأي منتج جديد يُدْخلونه في الأسواق، ابتدعوا مبررات علمية وفنية واجتماعية تغري الناس، وبخاصة فئات الشباب والأطفال على استخدام آخر منتج، وتعاطيه وشرائه.

 

وكلما خسرت معركة قضائية رُفعت ضدها في إحدى المحاكم في الدول، استعدت لخوض غمار معركة جديدة بجدية أكثر، وحزم شديد، وأمل في الفوز، فهي لن تخسر الحرب التي تواجهها أبداً منذ نحو قرن من الزمن، وإنما تخسر معارك صغيرة هنا أو هناك بدون أن تُضرب ضربة قاضية تقضي عليها كلياً.

 

فبعد أن أجمع الأطباء في الخمسينيات من القرن المنصرم على أن تدخين سجائر التبغ التقليدية والشيشة وغيرهما يسقط المدخن ومن حوله في شر مرض سرطان الرئة وأمراض أخرى كثيرة مستعصية على العلاج، قامت مصانع التبغ والسجائر في تلك الفترة الزمنية بعرض وتسويق منتج "مُعدل"، ونسخة جديدة من سجائر التبغ المعروفة، وهي "السجائر الخفيفة"(Light Cigarettes)، أي التي يدَّعون ويُضللون بها الناس بأنها أقل ضرراً لأنها تحتوي على مستويات أقل من القطران، وهي المادة اللزجة السوداء التي تبقى بعد التدخين، والنيكوتين،  والسموم، والملوثات الأخرى التي يستنشقها المدخن، فتدخل في الرئتين، ثم تنتقل إلى الدورة الدموية وتتسرب في كل خلية من خلايا جسم الإنسان.

 

وفي الوقت نفسه شرعوا في نوعٍ جديد من السجائر التقليدية لجذب وكسب جماهير جديدة تفضل طعم ومذاق ونكهة السجائر، وتحسن وتزكي من رائحتهم أثناء وبعد التدخين، فأدخلوا العديد من النكهات من أشهرها وأكثرها نجاحاً وتدخيناً من قبل الناس، وهي السجائر بنكهة وطعم النعناع التي تحتوي على مركب "المنثول"(Menthol).

 

وهكذا استمر الحال مع شركات التبغ العملاقة حتى وصلوا إلى ابتكارِ سيجارة حديثة المظهر، جميلة الشكل والمنظر، صغيرة الحجم، جذابة للشباب والأطفال، وتحتوي على تقنيات عالية متطورة. وفي الوقت نفسه ادعتْ هذه الشركات بأنها مفيدة جداً للجميع وتحل مشاكل المدخنين، فهي أولاً لا ضرر لها من الناحية الصحية، إذ لا تنبعث عنها الملوثات والمواد المسرطنة، وثانياً تشجع المدخن للسجائر التقليدية على الإقلاع والعزوف عن تدخينها إلى الأبد، وهذا النوع أُطلق عليه السجائر الإلكترونية(e-cigarette)، وعملية تدخينه يُطلق عليه(vaping).

 

ولكن هذا النوع الذي في ظاهره الرحمة والعلاج ومن داخله العذاب والإدمان، انتشر بشكلٍ كبير كانتشار النار في الهشيم، وبخاصة بين الشباب والأطفال في كل أنحاء العالم، ولذلك لا بد من تقديم الحقائق العلمية التي يُجمع عليها العلماء حول هذه الآفة الجديدة استناداً على الأبحاث المنشورة في هذا الموضوع البيئي الصحي العام.

 

الحقيقة الأولى: هذه السيجارة الإلكترونية تستخدم النيكوتين النقي الخالص بدلاً من التبغ، علماً بأنه من المعروف الآن بأن النيكوتين مادة مخدرة وتسبب الإدمان عند المدخنين، أي أن الذي يدخن السيجارة الإلكترونية سيتعود عليها ويدمن على تعاطيها، ولا يستطيع بسهولة التخلص منها.

 

الحقيقة الثانية: السيجارة الإلكترونية تعمل بالبطارية، حيث تقوم بتسخين، وليس "حرق" النيكوتين المذاب في مخلوط سائل معقد المحتوى، فيتحول هذا المخلوط من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، أو حالة البخار والإيرسول الأبيض اللون الذي يدخل في رئة المدخن وكل من حوله.

 

الحقيقة الثالثة: هذا المخلوط السائل "السري" يحتوي على النيكوتين، ومواد كثيرة أخرى غير مُعلنٍ عنها بالتفصيل، وتختلف من شركة إلى أخرى، منها المادة المذيبة للنيكوتين وهي الجليسرول(glycerol) أو جليكول البروبلين(propylene glycol)، ومنها آلاف الأنواع من النكهات، والألوان، والمذاقات المختلفة التي لا تُفصح عنها الشركات المصنعة لهذه السجائر، إضافة إلى مركب "الداي أستيل"(diacetyl) الخطر الذي يضاف كمحسن للنكهة والمذاق.

 

الحقيقة الرابعة: البخار أو الإيرسول الذي ينتج من تسخين المخلوط السائل يحتوي على خليط من مئات الملوثات السامة والخطرة والمواد المسرطنة. فعلى سبيل المثال، عملية تسخين النيكوتين والمخلوط السائل العضوي تنتج عنها تحللات لهذه المواد المعقدة، وهذه بدورها تنجم عنها الكثير من الملوثات، فهناك مركب الفورمالدهيد ومركب النيتروزو أمين، والبنزين، إضافة إلى الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر، وجميع هذه الملوثات مُصنفة من قبل الوكالة الدولية لأبحاث السرطان بأنها مواد تسبب السرطان للإنسان. كذلك الحرارة المرتفعة للجهاز تسبب تسرب المعادن التي يتكون منها الجهاز الإلكتروني منها الكروميوم والرصاص والنيكل والخارصين والزرنيخ، والبعض من هذه المعادن مصنف كمواد مسببة للسرطان للإنسان.

 

الحقيقة الخامسة: كل المواد التي تنبعث من التسخين والحرارة العالية في السجائر الإلكترونية تعمل مع بعض على إحداث التهابات وحساسية شديدة لمجرى الجهاز التنفسي، وحتماً ستسبب للإنسان في المستقبل أمراضاً مستعصية لم يكتشفها العلم حتى الآن، لأن هذه السجائر تعتبر حديثة العهد بالإنسان، مقارنة بحرق التبغ في السجائر التقليدية والشيشة وغيرهما، والتي درسها الإنسان بإسهاب شديد، وتفصيل كبير منذ أكثر من قرن من الزمن، وتأكد من كمية ونوعية الملوثات التي تنطلق من حرق التبغ، وأثبت من خلال الحالات السريرية الأمراض التي تسببها للبشر.  

 

الحقيقة السادسة: لا توجد أدلة علمية حتى الآن تفيد بأن تدخين السجائر الإلكترونية يؤدي إلى عزوف المدخن عن تدخين السجائر التقليدية.

 

الحقيقة السابعة والأخيرة فهي أن السجائر الالكترونية ضارة جداً، وتصيب الإنسان بالأمراض الحادة والمزمنة، ولكنها حتماً أقل ضرراً من السجائر التقليدية ومن الشيشة ومن غيرهما من أنواع السجائر التي تحرق التبغ.

 

 

الجمعة، 22 سبتمبر 2023

هل الفقراء يستنشقون هواءً أكثر تلوثاً من الأغنياء؟


من المظاهر العامة في كل دول العالم بدون استثناء هو الفرق البَيِّن والواسع بين مناطق الفقراء والمحرومين ومناطق الأثرياء والمتنفذين، أو مناطق الذين يتمتعون بوضع اجتماعي واقتصادي جيد مقارنة بالذين يقاسون من شظف العيش وصعوباته، فالشوارع في الأحياء الفقيرة والمتدنية اجتماعياً واقتصادياً ومناطق الأقليات العرقية والعنصرية مقارنة بالأحياء الغنية والثرية تكون أضيق وأكثر تدهوراً، ولا توجد فيها مسارات للمشاة أو مواقف للسيارات، أو أرصفة يمشي عليها عامة الناس، كما أن مؤشرات ضعف وانخفاض مستوى النظافة ووجود المخلفات على الأرض والشوارع تكون مشهداً يومياً مقارنة بالمناطق التي يسكن فيها ذوي الجاه والنفوذ والتي تكون عادة واسعة وفسيحة وتظهر عليها علامات النظافة العامة.

 

وعلاوة على هذه المظاهر العامة فهناك الاختلاف الكبير في نوعية حجم وجودة وجمال المباني والمساكن في المناطق والمجتمعات المستضعفة التي يعاني سكانها من فقر في التعليم والثقافة والدخل العام، مقارنة بمجمعات ذوي الدخل المرتفع والتعليم العالي. كما أن هذه الفروقات تمتد إلى نوعية المرافق والتسهيلات الموجودة في هاتين المنطقتين، فمناطق الفقراء عادة ما تخلو من الحدائق الكبيرة والمتنزهات الغناء والشوارع الخضراء، كما أن هذه المناطق أيضاً تكون احتمالية وجود المصانع والمناطق الصناعية ومواقع دفن المخلفات فيها أعلى من مناطق ذوي النفوذ والقوة السياسية والاقتصادية.

 

ولكن ماذا عن جودة الهواء في منطقة الأغنياء مقارنة بالفقراء؟ فهل هناك فروق واختلافات في نسبة الملوثات في الهواء الجوي في هاتين المنطقتين؟

وبعبارة أخرى: هل مناطق الفقراء والأقليات وغير المتعلمين أشد تلوثاً وفساداً من الناحية البيئية، وبالتحديد من ناحية جودة الهواء مقارنة بمجتمعات الأغنياء والأغلبية؟ 

 

وإذا كانت الإجابة بنعم، فهذا يعني بأن الفقير يستنشق هواءً ملوثاً أكثر من الغني، وهذا يعني أيضاً عدم وجود مساواة وعدالة بين الفقراء والأغنياء من ناحية نسبة التعرض للملوثات بين الفئتين، كما أن هذا يعني بأن الفقراء ترتفع عندهم احتمالية الإصابة بالأمراض الناجمة عن تلوث الهواء مقارنة بالأغنياء.

وهناك تقرير نُشر في 28 يوليو 2023 صادر من "سلطة لندن"(London Authority)، أو من مكتب عمدة لندن يتناول هذه القضية، ويُقدم جواباً شافياً وكافياً عن هذه التساؤلات. فهذا التقرير الذي يُعد امتداداً وتحديثاً لتقارير سابقة نُشرت منذ عام 2013، يبحث في مسألة عدم المساواة بين اللندنيين والبريطانيين في التعرض للهواء الجوي، ويسبر غور علاقة جودة الهواء في مناطق لندن المختلفة بالمستوى المعيشي وحالة الفقر الاجتماعي والاقتصادي للناس في تلك المناطق، ويصدر التقرير الحالي تحت عنوان: "التعرض وعدم المساواة". أما تقرير عام 2023 فقد درس بعمق ومنهجية علمية العلاقة بين تركيز الملوثات في الهواء الجوي، وبالتحديد الجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين، وخمسة مؤشرات اجتماعية اقتصادية رئيسة هي: مؤشر الفقر والحُرمان(deprivation)، والأنماط العِرقية في المناطق المختلفة، ومجتمعات الشتات، إضافة إلى المواقع الحساسة في كل منطقة، مثل المدارس، والمستشفيات، ودور الرعاية، وأخيراً المجتمعات التي تعيش بالقرب من شبكات المواصلات في لندن، أو ما يُطلق عليها الخطوط الحمراء.

وقد توصل هذا التقرير، والتقارير السابقة إلى استنتاجات مماثلة، وهي أولاً أن تلوث الهواء من عوادم السيارات خاصة يُعد الخطر الصحي الأكبر في المملكة المتحدة، والمدينة الأعلى تركيزاً لملوثات الهواء الجوي هي لندن، وثانياً أفادت الدراسات بأن أعلى تركيز للملوثات بشكلٍ عام كان في مناطق السود والأقليات العرقية مقارنة بمناطق البيض، أي الناس الأكثر فقراً يعيشون في المناطق الأكثر تلوثاً، والعرق الأبيض هو الأقل تعرضاً لملوثات الهواء الجوي، مما يعني بأن هناك حالة من عدم المساواة بين البشر في بريطانيا من ناحية جودة الهواء والتعرض لملوثات الهواء الجوي، وهذه الحالة تنعكس مباشرة وبشكلٍ فوري، حسب الكثير من الدراسات العلمية على تدهور صحة الفقراء والمهمشين الذين يعيشون في مناطق البؤس والفقر مقارنة بغيرهم من الأغنياء والمتنفذين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

فهذه الظاهرة المتمثلة في تدهور نوعية الهواء في مناطق الفقراء، وتعرض الفقراء لهواء أشد تلوثاً وضرراً للصحة مقارنة بالأثرياء تكاد تكون عالمية وواقعية في الكثير من دول العالم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية نُشرت الكثير من الدراسات التي أثبتت ظاهرة عدم وجود عدالة بيئية بين الشعب الأمريكي، وعدم المساواة بين الفقراء والأغنياء من ناحية تدهور المكونات البيئية في المناطق الفقيرة مقارنة بمناطق الأغنياء، إضافة إلى وجود المرافق الشديدة التلوث من مصانع، ومحارق، ومدافن القمامة والمخلفات الصناعية واستقرارها في مناطق الأقليات الضعفاء وغير المتعلمين والمهمشين من الشعب الأمريكي.

ومن آخر هذه الدراسات تلك المنشورة في مجلة "شؤون صحة البيئة"(Environmental Health Perspectives) في 5 يوليو 2023 تحت عنوان: "التفاوت في التعرض للجسيمات الدقيقة وملوثات الهواء الأخرى حسب الدَخْل والعِرقْ والمنطقة في مدينة سياتل بولاية واشنطن الأمريكية". فقد أشارت الدراسة إلى عدة حقائق علمية منها علاقة التعرض للدخان الدقيق بأمراض القلب والجهاز التنفسي، ومنها الحقيقة التاريخية أن المناطق الفقيرة والمهمشة والمستضعفة أكثر تعرضاً للملوثات. وهذه الدراسة تسبر غور العلاقة بين تلوث الهواء والعرق والعنصرية ودخل الفرد الأمريكي على مستوى ولاية واشنطن، حيث أكدت على حقيقة سابقة وهي أن التلوث في هذه الولاية كان أعلى وأشد في المناطق الفقيرة ذوي الدخل المنخفض والسكان السود والآسيويين والأمريكيين الأصليين مقارنة بالمناطق التي يسكنها البيض، كما أن نسبة المرضى والوفيات مرتبطة بسكن المواطن والمنطقة التي يعيش فيها، والعرق الذي ينتمي إليه.

فالفقير والمستضعف كما هو يعاني اقتصادياً واجتماعياً في دول العالم، فهو يعاني في الوقت نفسه بيئياً من ناحية تدهور جودة البيئة والهواء الذي يعيش فيهما، مما يحتم توجيه عناية الدول والمنظمات نحو هذا الواقع المُرْ للفقراء، وإخراجهم من هذه الحالة المأساوية التي يقعون تحت وطأتها، وتحقيق هذا المطلب يقع ضمن تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.

الاثنين، 18 سبتمبر 2023

شهادة ناسا حول الأجسام الفضائية المجهولة؟


ربما شاهد الجميع صوراً غريبة لجثثٍ صغيرة ليست لبشر، أو لجسم إنسان، وعُرضت هذه المجسمات المجهولة أمام رجال السياسة والتشريع في الكونجرس المكسيكي في 13 سبتمبر 2023 أثناء جلسة الاستماع الخاصة في قبة البرلمان المكسيكي حول الكائنات والأجسام الفضائية المجهولة والغريبة.

 

هذه الجثث المحنطة أحضرها رجل مكسيكي اسمه جايمي مايسان (Jamie Maussan) يعمل في مجال الإعلام، ويبحث في أسرار الكائنات الفضائية الخارجة عن كوكبنا، ويدَّعي بأن هذه المحنطات التي أحضرها من مدينة  كيسكو(Cusco) في دولة بيرو، عمرها يتراوح بين 700 إلى 1800 عام، وهي لكائنات فضائية غير بشرية وتسكن خارج حدود الكرة الأرضية.

 

وعند التدقيق في صور الجثتين المحنطتين وجدتُ بأن لكلٍ منهما ثلاثة أصابع في كل يد، ورأس مدبب طويل، وعينان جاحظتان. وفي الحقيقة فإن هذه الصور أرجعت بذاكرتي إلى الوراء في الثمانينيات من القرن المنصرم عندما عَرضتْ هوليود فيلمها المشهور "إي تي"(E.T.)، الذي يحكي قصة مخلوق فضائي ينزل على الأرض، ويسكن في بيت أحد الأمريكيين. وهذا المخلوق الفضائي "إي تي" يشبه إلى حدٍ كبير هيئة وشكل هاتين الجثتين في المكسيك.

 

وقال هذا الرجل المكسيكي الذي أحضر الجثتين، حسب ما هو منشور في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في 14 سبتمبر 2023: "هذه هي المرة الأولى التي تُعرض فيها الكائنات الفضائية بهذا الشكل، فهذا عرض واضح بأننا نتعامل مع عينات غير بشرية ليست لها علاقة بأي نوع في عالمنا"، وأضاف قائلاً: "نحن لسنا وحدنا".

 

فهذه الصور علَّقت عليها رسمياً بعض دول العالم، مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية. فأما الصين فقد جاء رد الفعل سريعاً من "مؤسسة علوم الفضاء والتكنلوجيا"(Aerospace Science and Technology Corp) في 14 سبتمبر 2023، حسب المنشور في صحيفة "يوميات الصين"(China Daily)، حيث أعلنت هذه المؤسسة الرسمية المعنية بالفضاء قائلة: "حتى الآن، لم نجد أية أدلة دامغة حول وجود الكائنات الغريبة أثناء أنشطتنا الفضائية".

 

وأما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تزامن نشر صور الجثتين مع نشر التقرير المستقل من "الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء"(ناسا) في 14 سبتمبر 2023 تحت عنوان: "تقرير ناسا حول الظاهرة المجهولة الهوية"(unidentified anomalous phenomena, UAP).

 

ففي يونيو 2022 اعتمدت ناسا برنامجاً علمياً يهدف إلى سبر غور هذه المظاهر المجهولة والأجسام السماوية، والبحث فيها بمنهجٍ علمي دقيق وأدوات علمية موثوقة، وخاصة بعد أن انتقلت بعض صلاحيات دراسة هذه المظاهر من وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات السرية إلى ناسا، حيث شكلتْ في أكتوبر 2022 فريق عملٍ مكون من 16 عالماً من مختلف التخصصات والعلوم. وقدَّمت ناساً تعريفاً لهذه المظاهر التي تعتزم دراستها بعمق، وهو: "مشاهدة أحْداثْ في السماء لا يمكن تحديدها وتفسيرها، كطائرات أو مظاهر طبيعية معروفة حسب الرأي العلمي".

 

وبعد أن انتهى الفريق العلمي المستقل من إعداد التقرير، قامت ناسا بنشره في 14 سبتمبر 2023، ونظمت مؤتمراً صحفياً في العاصمة واشنطن دي سي، عرضت فيه أهم الاستنتاجات التي تمخضت عن الدراسة. وفي هذا المؤتمر جاء الرد المباشر من الولايات المتحدة الأمريكية على صور الجثتين من المكسيك، حيث قال رئيس الفريق "من المهم توضيحه بناءً على النتائج الحالية بأننا لم نجد أية أدلة تفيد بأن المظاهر المجهولة والغريبة مصدرها كائنات ومخلوقات فضائية خارج حدود كوكبنا"، كما أضاف قائلاً: "تركيزنا سيكون على فهم الظاهرة بغض النظر عن مصدرها".

 

كذلك توصل التقرير إلى عدة استنتاجات منها بأنه: "لا يوجد دليل بأن هذه الظواهر الفضائية المجهولة مصدرها من خارج كوكبنا، وأن هناك بعض المظاهر التي لا يمكن تفسيرها حتى الآن"، كما استنتج التقرير بأنه: " في الآونة الأخيرة ، أفاد العديد من الشهود الموثوقين، وغالباً ما يكونون طيارين عسكريين، أنهم شاهدواً أجساماً لم يتعرفوا عليها فوق المجال الجوي الأمريكي، ومعظم هذه الأجسام تم التعرف عليها، باستثناء القليل منها التي لم يمكن فوراً تحديد هويتها كأجسام من صنع الإنسان أو مظاهر طبيعية"، ولذلك أوصت الدراسة بأن: "هناك حاجة لإجراء أبحاث علمية لسبر غور هذه المظاهر"، واختتم التقرير بهذه العبارة: "الدعوات غير العادية تحتاج إلى أدلة غير عادية".

 

وأما مدير ناسا بيل نيلسون فقد قال بأن: "ناسا ستبحث عن المجهول في الهواء والفضاء"، "وهناك الكثير للتعلم". كما تساءل مدير ناسا قائلاً: "هل أعتقدُ أن هناك حياة في كون شاسع لدرجة أنه من الصعب علي فهم حجمه؟ جوابي الشخصي هو: "نعم". كذلك قال بيل نيلسون: "نريد تحويل الحديث حول هذه المظاهر المجهولة من الإثارة إلى العلم"، حيث أعلن عن تعيين مدير في ناسا للبرنامج الاستكشافي البحثي الجديد الذي يحمل مسمى: "البحث عن كائنات فضائية خارجية ذكية"( The Search for Extraterrestrial Intelligence). كما أكد في الوقت نفسه بأن التعامل مع هذه الظواهر المجهولة لن يكون أمنياً فحسب، وإنما يتبع المنهج العلمي المستند على الموضوعية، والاستقلالية، والشفافية، والأدوات العلمية الموثقة، ويكون الشعب الأمريكي والعالم أجمع على علم بكل أبحاثنا والنتائج التي نحصل عليها.

 

وخلاصة القول فإن البحث في هذه المظاهر السماوية والفضائية المجهولة الهوية، وغير المعروفة، وغير المحددة مازال في مهده، ويحتاج إلى سنوات طويلة لمعرفة أسراره وخفاياه.

 

الخميس، 14 سبتمبر 2023

مساران دوليان لا يلتقيان


هناك مساران دوليان نادراً ما يلتقيان. الأول هو المسار الدولي المتمثل في منظمات وأجهزة الأمم المتحدة الرسمية التي تُجري المفاوضات الماراثونية العقيمة بين الدول للاتفاق على معاهدة دولية للتصدي لقضية محددة كالقضايا البيئية العامة والمشتركة بين كل دول العالم. وأما المسار والخط الثاني فهو أنشطة وبرامج الشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي تقع دائماً تحت هيمنة الدول الصناعية، وتسيطر على مجالس إدارتها وبؤرة اتخاذ القرار فيها شخصيات متنفذة وقوية من الدول المتقدمة والمتطورة التي تتحكم في قرارات الحكومات المتعاقبة، وتوجهها لتحقيق أهدافها ومآربها الاقتصادية الاستعمارية التوسعية.

 

وهذا الخطان المتوازيان يسيران جنباً إلى جنب، فخط منظمات الأمم المتحدة يسير ببطء شديد نحو تحقيق التوافق بين دول العالم لعلاج القضايا المشتركة، ومنها البيئية على سبيل المثال، ولكن دون التعرض أو المساس بمصالح حكومات الدول الصناعية الغنية وشركاتها العملاقة الثرية. وفي المقابل هناك خط شركات الدول الصناعية الكبرى المتقدمة التي تراقب عن كثب جهود المنظمات الأممية وقراراتها، وتكوِّن في الوقت نفسه جماعات ضغط أممية داخلية وخارجية من كافة التخصصات العلمية، والسياسية لتدافع عن مصالحها وبرامجها التنموية، وتسعى بشتى الوسائل والأدوات لتحقيق أمنها الاقتصادي وازدهارها المالي، كما تعمل هذه الشركات المتنفذة مع فرقائها على عدم المساس بمكتسباتها التنموية، وعدم التأثير على سير أعمالها وأنشطتها المستمرة وتجنب أية خسائر مالية قد تتعرض لها نتيجة للتوافقات الأممية.

 

والأمثلة السابقة التي تؤيد نظريتي كثيرة، وسأضرب لكم المثال الأخير الذي أراه أمامي اليوم، وأشاهد فصوله كاملة، والمتعلق باستخراج الثروات والخيرات الطبيعية العامة والمشتركة لكل دول العالم والواقعة في أعالي البحار خارج حدود المناطق الاقتصادية للدول، أي التي لا تخضع لسيادة أية دولة، سواء أكانت هذه الثروات على شكل معادن، أو حياة فطرية نباتية وحيوانية. وهذه الخيرات العامة المشتركة تكون قابعة على سطح التربة القاعية في المحيطات في المياه الدولية، وعلى أبعادٍ سحيقة في تلك المواقع البعيدة، والمظلمة، والشديدة البرودة والضغط المرتفع.

 

فعيون الدول الصناعية المتطورة وبوصلتها الحادة متجهة منذ أكثر من قرنين إلى كل ما في الأرض من ثروات طبيعية حية وغير حية، سواء أكانت موارد وخيرات خاصة بالشعوب في كل دولة وتقع تحت سيادة هذه الدول، أو الموارد والثروات الطبيعية العامة المشتركة التي لا تخضع لسيادة أحد، ولا تمتلكها أية دولة، وإنما هي مُلك لكل إنسان ودولة موجودة على كوكبنا.

 

ومن هذه الثروات العامة المشتركة هي ما تُخفيها أعماق المحيطات السحيقة من كنوز وثروات وتراث جيني حي، وموارد معدنية، وخيرات أخرى لا يعلم عنها أحد. ولذلك مرحلة استكشاف كنوز قاع المحيطات بدأت منذ زمنٍ بعيدٍ جداً، ومنذ أكثر من 200 عام، وأجريت الكثير من الدراسات الميدانية منها الدراسة الشاملة للمحيطات التي أُجريت من قبل علماء بريطانيين في الفترة من 1872 إلى 1876 على ظهر سفينة(HMS Challenger)، ثم مع تطور الأجهزة والمعدات الخاصة بسبر غور المحيطات، تسارعت واتسعت جهود البحث والاستكشاف، والتنقيب، والتعدين في قاع المحيطات، حتى أن الدول الصناعية الكبرى لديها الآن كماً هائلاً من المعلومات حول قاع المحيطات وما في بطنها من ثروات معدنية وحيوية يمكن التنقيب عنها واستخراجها وتشغيل مصانعها وتنمية حياة شعوبها، كما فعلت في السابق في الثروات الموجودة فوق سطح الأرض وفي باطنها.

 

فمنذ هذه القرون الطويلة وشركات الدول الصناعية المتقدمة تخطو خطوات سريعة في مسار الاستكشاف والتعدين في سرية تامة، وتعبث في بيئة قاع المحيطات في مناطق أعالي البحار فساداً وتدميراً لا يعلم به أحد، كما إنها بدأت بالعمل فعلياً باستخراج هذه الثروات ذات الملكية المشتركة العامة لها لوحدها ومن أجل استدامة تنميتها وتحسين حياة شعوبها. وكل هذه الجهود المستقلة للدول الصناعية وشركاتها لم تخضع لأية مراقبة أممية، ولم تحاسبها أية منظمة مختصة تابعة للأم المتحدة، بل وإن الدول الصناعية لم تقدم أية معلومات عن أنشطتها وبرامجها في أعالي البحار.

 

وأما المسار الثاني، وهو مسار منظمات الأمم المتحدة فقد بدأ متأخراً جداً، ولم يواكب التطورات التي شهدتها ساحة التعدين في أعماق المياه الدولية، حيث تم تأسيس هيئة خاصة تحت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لمتابعة أنشطة هذه الشركات العاملة في التعدين والتنقيب في أعالي البحار خارج حدود سيادة الدول وسلطتها، إضافة إلى وضع أنظمة وخطوط استرشادية لتقنين عملية التنقيب. وهذه الهيئة شبه الحكومية رأت النور في جامايكا في عام 1994 تحت مسمى "السلطة الدولية لقاع البحار"(International Seabed Authority). وهذه المنظمة الأممية كغيرها من الهيئات والمنظمات التي تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة ليست لها أية سلطة على الدول المتقدمة والصناعية المتنفذة، ولا تستطيع محاسبتها على أية مخالفة تقوم بها، كما أنها لا تمتلك الجهاز التنفيذي الفني لمراقبة والتفتيش على ما تقوم به الشركات العملاقة القوية في ظلمات الليل في أعماق المحيطات النائية على بعد قرابة ستة كيلومترات تحت سطح البحر. ولذلك تتحول هذه السلطة الأممية كشاهد زور على تجاوزات الدول، كما تعمل في الوقت نفسه كواجهة أممية شرعية تُحلل ما يرتكبه الكبار من الدول من استباحة وفساد للثروات العامة المشتركة.

 

واليوم بدأ تفعيل مسار الشركات الكبرى والدول الصناعية نحو المرحلة الأخيرة وهي الاستخراج التجاري، وأخذت الأنظار تتجه بشكلٍ خاص نحو منطقة مساحتها أكبر من 5 ملايين كيلومتر مربع موجودة في شمال شرق المحيط الهادئ، بين هاواي في الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، وهي غنية بمعادن كثيرة على شكل عقيدات صخرية بحجم كرة التنس(polymetallic nodules)، منها الكوبلت والنيكل والنحاس والليثيوم والمنجنيز وعناصر الأرض النادرة. وهذه الكنوز الفطرية الثرية، وهذا النظام البيئي البِكْر على هيئة سهول تحت سطح البحر، يُعرف بمنطقة(clarion-clipperton zone)، وهي قابعة في تربة القاع على عمق يتراوح بين 4000 إلى 6000 متر في المحيط الهادئ.

 

فقطار التعدين واستخراج الثروات بدأ يسير في وضح النهار بحجة توفير المعادن اللازمة للمجتمع الإنساني لبناء الاقتصاد النظيف والمتجدد للسيارات الكهربائية، والهواتف وأجهزة الكمبيوتر، وطاقة الرياح والطاقة الشمسية، وبالفعل حصلت الشركات العملاقة على الغطاء الشرعي الدولي من السلطة الدولية لقاع البحر، حيث مَنَحتْ 30 ترخيصاً رسمياً لعمليات الاستكشاف، وهذه العمليات سيصحبها تدمير شامل لهذه البقعة العذراء والبكر من كوكبنا.

 

فتشير الدراسات بأن هناك أكثر من 6000 نوع من الأحياء النباتية والحيوانية المخزنة للبشرية جمعاء في تلك المناطق الشاسعة، وأن العلماء تعرفوا فقط على 436 نوعاً منها. وعمليات التعدين التي تُستخدم فيها سفناً عملاقة يزيد طولها على 250 متراً، وعليها معدات وآليات الحفر والشفط الضخمة التي تزن أكثر من 6 أطنان وتسبب تلوثاً ضوئياً وضوضائياً، كما لا بد وأنها ستحدث تدميراً هائلاً للبيئة القاعية، وتوقع زلزالاً شديداً يغير كلياً من سطح هذه البيئة المنتجة، وتسبب موتاً جماعياً للكثير من الأنواع المجهولة والنادرة والفريدة من نوعها، والتي تمثل خسارة لا رجعة لها للتراث الجيني الحي فتختفي كلياً من الأرض. وهذا التدمير ليس "موقعياً"، أي في موقع العملية فقط، وإنما ينتقل إلى مسافات طويلة أفقياً ورأسياً، فالسحب البيضاء وحبيبات الرمل والمعادن الصغيرة التي تنتج من الحفر والشفط تدخل في عمود الماء، وتنتقل إلى مسافات طويلة خارج الموقع فتضر بالأحياء الموجودة في طريقها.

 

كذلك فقد أكدت الدراسات بأن هذه العقيدات الصخرية تحتوي أيضاً على عناصر مشعة طبيعياً كاليورانيوم، ومع تحلل اليورانيوم تنبعث أشعة ألفا المسببة للسرطان، إضافة إلى عناصر مشعة أخرى ناجمة من التحلل، كالثوريم، والريديوم، والرادون. وهذه الاشعاعات تسبب مشكلات صحية للعاملين في هذه المهنة، حسب الدراسة المنشورة في مجلة "تقارير علمية"(Scientific Reports) في 17 مايو 2023 تحت عنوان: "اشعاع جسيمات ألفا من قاع المحيطات الذي يحتوي على المعادن والمخاطر الصحية للتعدين في أعماق البحار".

 

وختاماً فإن مسار الدول المتقدمة وشركاتها يجري سريعاً، وعلى حساب كل شيء نحو استغلال ثروات وموارد الأرض في البر، والبحر، والفضاء، والكواكب، ومسار منظمات الأمم المتحدة يمشي بطيئاً ولا يمكنه اللحاق بمسار الشركات القوية، ولا يمكنه السيطرة عليها وتنظيم تنقلها وحركتها، ولذلك فهما لا يلتقيان في معظم الحالات.

الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

423 مليار دولار كلفة الكائنات الغازية والأجنبية 423 مليار دولار كلفة الكائنات الغازية والأجنبية

 

هناك الكثير ممن لا يستوعب، ولا يهتم، ولا يُقدر حجم الضرر العقيم الذي ينجم عن غزو كائن حي أجنبي وغريب، نباتي كان أم حيواني، أم كائنات مجهرية دقيقة، للبيئة الجديدة غير الفطرية التي يدخل فيها ويستوطنها، فتقديرات آخر تقرير للأمم المتحدة حول الخسائر الاقتصادية للغزو الحيوي وصلت إلى قرابة 423 بليون دولار سنوياً على المجتمع الدولي برمته، حيث نُشر هذا التقرير الحديث من "الهيئة شبه الحكومية للعلوم والسياسات في مجال التنوع الحيوي وخدمات النظم البيئية " في 4 سبتمبر 2023 تحت عنوان: "تقرير التقييم المواضيعي حول الأنواع الغازية الغريبة ومكافحتها".

 

ولذلك أُقدم لكم بعض الأمثلة الحية والواقعية لكي أُبين لكم الآثار الخطيرة، والتهديدات العميقة التي تنتج عن ظاهرة غزو الكائنات الأجنبية الغريبة على النظام البيئي العام في تلك المنطقة، وعلى أمن وسلامة الكائنات الحية الفطرية وعلى الإنسان على حدٍ سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وبعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن.

 

ففي بعض الأحيان نسمع عن هروب وغزو حيوان مفترس كالأسد، أو النمر، أو دب، أو غيرها من الحيوانات من حديقة للحيوانات، أو من منزل ومزرعة شخصٍ له هواية تربية مثل هذه الحيوانات التي تهدد أمن وسلامة الإنسان. وفي مثل هذه الحالات المستعجلة تُعلن حالة الطوارئ الأمنية في المنطقة، وتُستنفر القوات الأمنية مدججة بالسلاح للقبض عليها حياً أو ميتاً. ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذه الحيوانات قد دخلت وتوغلت في بيئة غير بيئتها الفطرية الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيها، فتعيش في توازن دقيق وتعايش مع باقي الحيوانات الأخرى ضمن السلسلة الغذائية الطبيعية في ذلك النظام البيئي، ولكن وجود هذا الحيوان المفترس في بيئة حضرية، أو بيئة غريبة لم تتواجد فيها طبيعياً وفطرياً يمثل تهديداً خطيراً للإنسان، وباقي الحيوانات الأخرى، ويشكل هدماً كلياً للنظام البيئي والسلسلة الغذائية في تلك المنطقة.

 

فمثل هذه الحالة إذا وقعت سيستشعر تهديداتها كل إنسان، وكل الكائنات الحية الأخرى، ولكن هناك حالات غزوٍ مشابهة تحدث في البيئات المائية السطحية، كالأنهار، والبحيرات، والمحيطات، وتمثل خطراً مزمناً لتلك البيئات والحياة الفطرية فيها، ولكننا كبشر عاديين غير مختصين لا نحس بخطورتها، ولا نستشعر تهديداتها لأنها غير مرتبطة مباشرة بحياتنا اليومية على المدى القريب، ولا نحسب أضرارها الاقتصادية والاجتماعية إلا بعد أن يستفحل الأمر، وتتفشى في كل شرايين تلك البيئة، وتتوسع دائرة تأثيراتها على نطاق جغرافي واسع، فتظهر فوق السطح كأزمة واقعية مشهودة تمس حياة الناس ومعاشهم ومعيشتهم، فلا يمكن عندئذٍ تجاهلها، أو غض الطرف عنها.

 

ومن أكثر الأمثلة شيوعاً وتأثيراً على البيئة والحياة الفطرية والإنسان في الأنهار والبحيرات هي غزو ودخول سمكة الكارب الفضية اللون الأجنبية إلى بيئة نهر مسيسيبي الأمريكي التي لا توجد فيها فطرياً وطبيعياً، فمثلها كمثل دخول الأسد في بيئتنا من ناحية التداعيات الأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية. فهذه السمكة الضخمة التي يصلها طولها إلى مترٍ واحد، ووزنها إلى أكثر من 60 كيلوجراماً، مقارنة بأسماك نهر المسيسيبي الوادعة والصغيرة نسبياً، أُدخلت بحسن نية وطواعية في البيئة الأمريكية قادمة من بيئتها الأصلية الفطرية في شرق آسيا، ووُضعت في الأحواض السمكية لتصفية المياه وتنقية مياه هذه البرك. ولكن مع الوقت فلتت هذه السمكة من موقعها الأصلي المحجوز، فتسربت مع مياه الفيضانات من هذه الأحواض النهرية، وانتقلت إلى بيئة جديدة عليها كلياً، فتكاثرت بدون منافس بشكلٍ كبير وبأحجام عملاقة افترست معظم الأسماك التجارية التي يعيش عليها الناس، وعملت أزمة غذائية للأسماك المحلية المستوطنة طبيعياً وتسببت في إخلال التوازن البيئي في تلك المياه العذبة، حتى إنها مع الوقت توغلت فعبرت واخترقت  الحدود المائية وانتقلت يوماً بعد يوم من بيئة النهر إلى القنوات المائية ثم أخيراً إلى بيئة البحيرات العظمى في أمريكا وكندا. وهناك هددت بالفعل الثروة السمكية فيها، والأمن الغذائي للمواطنين. فهذه الحالة دقت ناقوس الخطر في الولايات المتحدة الأمريكية برمتها، فاستنفرت الخبراء والمختصين من رجال العلم، والسياسة، والقانون، حتى المهندسين في الجيش الأمريكي، لمكافحة هذه الآفة السمكية الفتاكة بشكلٍ شامل وجذري، فأنفقت أمريكا المليارات من الدولارات على مدى سنواتٍ طويلة للحد من أعدادها وانتشارها، واتخذت الإجراءات الحاسمة والقاتلة للتخلص منها كلياً في بيئة المسطحات المائية في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالرغم من كل هذه النفقات الباهظة، والجهود الكبيرة المضنية لسنوات عجاف طويلة، وبالرغم من الحلول المبتكرة واستخدام التقنيات الحديثة وكافة أنواع الأسلحة، إلا أنها لم تنجح حتى اليوم من استئصالها من بيئة النهر والبحيرات.

 

وهناك مثال حي آخر أضربه لكم لأُقدم التداعيات الاقتصادية والأمنية الناجمة عن إدخال أحد أنواع الأعشاب والحشائش إلى بيئة جديدة غير بيئتها الفطرية الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيها. فالجميع شاهد كارثة حريق هاواي العظمى في أغسطس 2023، والتي أودت بحياة 115 إنساناً، وقضت على مساحات واسعة من الأرض، وأتلفت ودمرت المرافق العامة السكنية والتجارية، وكلفت الولاية خسائر مالية تقدر بالمليارات. وتفيد الدراسات، مثل الدراسة المنشورة في مجلة "المحيط البيئي"(ECOSPHERE) في 8 مارس 2023 إن هذه الأعشاب والحشائش الطويلة الحجم والشديدة والسريعة الانتشار، وبالتحديد من نوع(Guinea grass) بدأت تظهر في معظم غابات هاواي، وتتميز بأنها سريعة الاشتعال، ولذلك كانت وقوداً ممتازاً وقوياً للحريق الذي نشب في مدينة ماياي(Maui) والتهم مرافقها بسرعة غير متوقعة. كما أكدت الدراسة على أن هذه الحشائش الغريبة والأجنبية تم إدخالها من بيئة أفريقيا إلى بيئة جزر هاواي في القرن المنصرم، ومع الوقت نمت وترعرعت في هذه البيئة الجديدة على حساب النباتات الفطرية الأصيلة المستوطنة، وأخذت تزحف بسرعة فائقة في غابات هاواي، مما سهل نشوب الحريق وانتشاره في مناطق واسعة.

 

وفي بلادنا أستطيع أن أُقدم لكم مثلاً يشهده الجميع من عالم الطيور الغازية والدخيلة، فمن المعروف الآن لدى الجميع بأن الغراب غزا بيئتنا عن طريق سفن الشحن أو غيرها من الطرق، وهذا الطائر الأجنبي بدأ في القضاء على طائر البلبل المغرد الوطني الفطري في بلادنا ويهدده بالانقراض، كما تنطبق هذه الحالة على طائر المينا الذي لم يكن جزءاً من طيور بيئتنا الأصلية.

 

ولذلك فقضية الأنواع الغازية والغريبة واقعية وملموسة وانعكاساتها تجاوزت البعد البيئي لتصل إلى البعد الاقتصادي، والاجتماعي، والأمني. وهذا التقرير الأممي الأخير الذي يُعد امتداداً وتحديثاً للتقرير السابق المنشور عام 2019، ركز على الجانب الاقتصادي لهذه الظاهرة العالمية المشتركة، كما أكد التقرير على أن هناك زهاء 37 ألف كائن حي دخيل وأجنبي موجود حالياً على كوكبنا، وأن الدراسات قد وثقت أضرار وتأثيرات قرابة 3500 نوع منها.

 

فكل هذه التقارير والدراسات العلمية من المفروض أن تُوجه أنظارنا واهتمامنا نحو هذه القضية التي تدخل ضمن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ونعمل على تجنب وقوعها في بلادنا من خلال منع دخول أي كائن حي دخيل وغريب، والتحقق من هويته، ونوعه، ودوره في البيئة المحلية.