الجمعة، 22 سبتمبر 2023

هل الفقراء يستنشقون هواءً أكثر تلوثاً من الأغنياء؟


من المظاهر العامة في كل دول العالم بدون استثناء هو الفرق البَيِّن والواسع بين مناطق الفقراء والمحرومين ومناطق الأثرياء والمتنفذين، أو مناطق الذين يتمتعون بوضع اجتماعي واقتصادي جيد مقارنة بالذين يقاسون من شظف العيش وصعوباته، فالشوارع في الأحياء الفقيرة والمتدنية اجتماعياً واقتصادياً ومناطق الأقليات العرقية والعنصرية مقارنة بالأحياء الغنية والثرية تكون أضيق وأكثر تدهوراً، ولا توجد فيها مسارات للمشاة أو مواقف للسيارات، أو أرصفة يمشي عليها عامة الناس، كما أن مؤشرات ضعف وانخفاض مستوى النظافة ووجود المخلفات على الأرض والشوارع تكون مشهداً يومياً مقارنة بالمناطق التي يسكن فيها ذوي الجاه والنفوذ والتي تكون عادة واسعة وفسيحة وتظهر عليها علامات النظافة العامة.

 

وعلاوة على هذه المظاهر العامة فهناك الاختلاف الكبير في نوعية حجم وجودة وجمال المباني والمساكن في المناطق والمجتمعات المستضعفة التي يعاني سكانها من فقر في التعليم والثقافة والدخل العام، مقارنة بمجمعات ذوي الدخل المرتفع والتعليم العالي. كما أن هذه الفروقات تمتد إلى نوعية المرافق والتسهيلات الموجودة في هاتين المنطقتين، فمناطق الفقراء عادة ما تخلو من الحدائق الكبيرة والمتنزهات الغناء والشوارع الخضراء، كما أن هذه المناطق أيضاً تكون احتمالية وجود المصانع والمناطق الصناعية ومواقع دفن المخلفات فيها أعلى من مناطق ذوي النفوذ والقوة السياسية والاقتصادية.

 

ولكن ماذا عن جودة الهواء في منطقة الأغنياء مقارنة بالفقراء؟ فهل هناك فروق واختلافات في نسبة الملوثات في الهواء الجوي في هاتين المنطقتين؟

وبعبارة أخرى: هل مناطق الفقراء والأقليات وغير المتعلمين أشد تلوثاً وفساداً من الناحية البيئية، وبالتحديد من ناحية جودة الهواء مقارنة بمجتمعات الأغنياء والأغلبية؟ 

 

وإذا كانت الإجابة بنعم، فهذا يعني بأن الفقير يستنشق هواءً ملوثاً أكثر من الغني، وهذا يعني أيضاً عدم وجود مساواة وعدالة بين الفقراء والأغنياء من ناحية نسبة التعرض للملوثات بين الفئتين، كما أن هذا يعني بأن الفقراء ترتفع عندهم احتمالية الإصابة بالأمراض الناجمة عن تلوث الهواء مقارنة بالأغنياء.

وهناك تقرير نُشر في 28 يوليو 2023 صادر من "سلطة لندن"(London Authority)، أو من مكتب عمدة لندن يتناول هذه القضية، ويُقدم جواباً شافياً وكافياً عن هذه التساؤلات. فهذا التقرير الذي يُعد امتداداً وتحديثاً لتقارير سابقة نُشرت منذ عام 2013، يبحث في مسألة عدم المساواة بين اللندنيين والبريطانيين في التعرض للهواء الجوي، ويسبر غور علاقة جودة الهواء في مناطق لندن المختلفة بالمستوى المعيشي وحالة الفقر الاجتماعي والاقتصادي للناس في تلك المناطق، ويصدر التقرير الحالي تحت عنوان: "التعرض وعدم المساواة". أما تقرير عام 2023 فقد درس بعمق ومنهجية علمية العلاقة بين تركيز الملوثات في الهواء الجوي، وبالتحديد الجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين، وخمسة مؤشرات اجتماعية اقتصادية رئيسة هي: مؤشر الفقر والحُرمان(deprivation)، والأنماط العِرقية في المناطق المختلفة، ومجتمعات الشتات، إضافة إلى المواقع الحساسة في كل منطقة، مثل المدارس، والمستشفيات، ودور الرعاية، وأخيراً المجتمعات التي تعيش بالقرب من شبكات المواصلات في لندن، أو ما يُطلق عليها الخطوط الحمراء.

وقد توصل هذا التقرير، والتقارير السابقة إلى استنتاجات مماثلة، وهي أولاً أن تلوث الهواء من عوادم السيارات خاصة يُعد الخطر الصحي الأكبر في المملكة المتحدة، والمدينة الأعلى تركيزاً لملوثات الهواء الجوي هي لندن، وثانياً أفادت الدراسات بأن أعلى تركيز للملوثات بشكلٍ عام كان في مناطق السود والأقليات العرقية مقارنة بمناطق البيض، أي الناس الأكثر فقراً يعيشون في المناطق الأكثر تلوثاً، والعرق الأبيض هو الأقل تعرضاً لملوثات الهواء الجوي، مما يعني بأن هناك حالة من عدم المساواة بين البشر في بريطانيا من ناحية جودة الهواء والتعرض لملوثات الهواء الجوي، وهذه الحالة تنعكس مباشرة وبشكلٍ فوري، حسب الكثير من الدراسات العلمية على تدهور صحة الفقراء والمهمشين الذين يعيشون في مناطق البؤس والفقر مقارنة بغيرهم من الأغنياء والمتنفذين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

فهذه الظاهرة المتمثلة في تدهور نوعية الهواء في مناطق الفقراء، وتعرض الفقراء لهواء أشد تلوثاً وضرراً للصحة مقارنة بالأثرياء تكاد تكون عالمية وواقعية في الكثير من دول العالم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية نُشرت الكثير من الدراسات التي أثبتت ظاهرة عدم وجود عدالة بيئية بين الشعب الأمريكي، وعدم المساواة بين الفقراء والأغنياء من ناحية تدهور المكونات البيئية في المناطق الفقيرة مقارنة بمناطق الأغنياء، إضافة إلى وجود المرافق الشديدة التلوث من مصانع، ومحارق، ومدافن القمامة والمخلفات الصناعية واستقرارها في مناطق الأقليات الضعفاء وغير المتعلمين والمهمشين من الشعب الأمريكي.

ومن آخر هذه الدراسات تلك المنشورة في مجلة "شؤون صحة البيئة"(Environmental Health Perspectives) في 5 يوليو 2023 تحت عنوان: "التفاوت في التعرض للجسيمات الدقيقة وملوثات الهواء الأخرى حسب الدَخْل والعِرقْ والمنطقة في مدينة سياتل بولاية واشنطن الأمريكية". فقد أشارت الدراسة إلى عدة حقائق علمية منها علاقة التعرض للدخان الدقيق بأمراض القلب والجهاز التنفسي، ومنها الحقيقة التاريخية أن المناطق الفقيرة والمهمشة والمستضعفة أكثر تعرضاً للملوثات. وهذه الدراسة تسبر غور العلاقة بين تلوث الهواء والعرق والعنصرية ودخل الفرد الأمريكي على مستوى ولاية واشنطن، حيث أكدت على حقيقة سابقة وهي أن التلوث في هذه الولاية كان أعلى وأشد في المناطق الفقيرة ذوي الدخل المنخفض والسكان السود والآسيويين والأمريكيين الأصليين مقارنة بالمناطق التي يسكنها البيض، كما أن نسبة المرضى والوفيات مرتبطة بسكن المواطن والمنطقة التي يعيش فيها، والعرق الذي ينتمي إليه.

فالفقير والمستضعف كما هو يعاني اقتصادياً واجتماعياً في دول العالم، فهو يعاني في الوقت نفسه بيئياً من ناحية تدهور جودة البيئة والهواء الذي يعيش فيهما، مما يحتم توجيه عناية الدول والمنظمات نحو هذا الواقع المُرْ للفقراء، وإخراجهم من هذه الحالة المأساوية التي يقعون تحت وطأتها، وتحقيق هذا المطلب يقع ضمن تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق