الأربعاء، 30 مارس 2022

الأجيال تتوارثُ تداعيات القرارات غير المدروسة

دروس من كافة الجوانب المتعلقة به، قد نتخذُه اليوم، ولكن تداعياته وانعكاساته السلبية يتوارثها جيل بعد جيل ولسنوات طويلة من الزمن، فتكتوي من نارها الأجيال المتلاحقة، ويعاني منها الناس لعقود طويلة من الزمن.

 

وفي المقابل أيضاً سياسة غير معتدلة وغير شاملة نضعها اليوم فتقع آثارها على الناس بعد سنوات طويلة، حتى ولو تم تغييرها أو إلغاؤها بعد عدة سنوات، فستظل هذه السياسة القديمة تنفذ وتطبق في أرض الواقع، لأنها قد أوقعت الضرر العام فتجذرت في المجتمع، وتغلغلت تداعياتها بعمق في جميع القطاعات.

 

ومثل هذه القرارات والسياسات غير المستدامة موجودة في معظم دول العالم، ومنها ما هو مُوثق على هيئة دراسات وأبحاث منشورة أُجريت لتُحققَ بأسلوب علمي منهجي وتؤكد عدم فاعليتها وخطئها واستمرارية تداعياتها السلبية لفترة طويلة من الزمن منذ إقرارها وتنفيذها.

 

ومن بين أمثلة كثيرة على هذه القرارات والسياسات غير الرشيدة وغير المستدامة، اُقدم لكم السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية في مجال تصنيف الأراضي في بعض المدن، والقرار الذي بُني على هذه السياسة منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم، والذي آثاره السلبية مازالت واقعة ومشهودة على المجتمع الأمريكي من الناحية الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية، والصحية، أي بعد صدور القرار بأكثر من تسعين عاماً، فهذا القرار العتيق ترك بصمة قوية حفرها في قلب المجتمع.

 

فالولايات المتحدة الأمريكية التي عانت من فترة الركود الاقتصادي العصيبة في الثلاثينيات من القرن المنصرم، قامت بإنشاء مؤسسة حكومية اتحادية في يونيو 1933 للتعامل مع سوق العقار والاستثمار العقاري، إضافة إلى إدارة وتنظيم الديون العقارية وأسس تمويلها، وأُطلقَ عليها (Home Owner’s Loan Corporation). وكانت أولى مهمات هذه المؤسسة تصنيف الأراضي في 239 مدينة أمريكية، حيث كان التصنيف على أساس عنصري وعرقي ولون وخلفية معظم السكان في تلك المنطقة من المدينة، إضافة إلى دخلهم السنوي ومستوى تعليمهم ونفوذهم السياسي والاجتماعي. وتألَّفَ هذا التصنيف للأراضي الاستثمارية من أربعة أقسام، الأول هو الدرجة "أ"(Grade A) وأُعطي اللون الأخضر، ويُعد الأفضل من الناحية الاستثمارية والأقل خطورة وتدهوراً من الناحية البيئية والإسكانية والأمنية، حيث يسكن المنطقة البيض وذوي السلطة والمال والنفوذ، وثانياً  الدرجة "باء"(B)، أو اللون الأزرق، وثالثاً الدرجة "سي"(C)، ورابعاً وأخيراً وهي المنطقة الأسوأ والأخطر من ناحية الأمن والسلامة ونوعية البيئة والسكان الذين يكونون عادة من السود والأقليات الأخرى الفقيرة وغير المتعلمة، وأعطيت الدرجة "دال" (D)، أو لون الأحمر الخطر.

 

ومثل هذه التصنيفات العنصرية البغيضة توارثتها الأجيال منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم، وتحولت إلى واقع تنفيذي مَوروث، فأسعار الأراضي في المنطقة الخضراء ارتفعت، ولذلك ابتعدت عنها المصانع بجميع أنواعها وأحجامها، ولم يجرؤ أحد على تحويل أي موقع أو عقار في هذه المنطقة إلى دفن المخلفات، أو تأسيس أية منشأة تضر بصحة البيئة وتؤثر على سلامة الإنسان، ولذلك فجميع هذه المنشآت الخطرة التي تُدهور الأمن الصحي والبيئي للإنسان، إضافة إلى خطوط القطارات والسيارات السريعة المزعجة، انتقلت وأخذت من المنطقة الحمراء الرخيصة الثمن مقراً لها ولأنشطتها وعملياتها الملوثة للبيئة. كما أن هذه المنطقة الحمراء لم تحظ بسكان يُدركون خطورة هذه المصانع، ولم تكن لهم السلطة، أو النفوذ، أو المال لمعارضة استيطان هذه المنشآت في مناطقهم وأمام منازلهم. وعلاوة على ذلك كله فإن التمييز بلغ إلى درجة حرمان هؤلاء السكان من القروض العقارية، مما زادهم بؤساً وشقاءً، وكرَّس الفقر وتدهور نوعية الحياة في مناطقهم.

 

وقد أثبتت دراسات علمية واقعيةْ هذه الظاهرة والسياسة العنصرية البيئية والصحية التي غُرست قبل قرابة تسعين عاماً، وأكدت مصداقيتها واستمراريتها حتى يومنا هذا، ومنها دراسة منشورة في التاسع من مارس من العام الجاري في مجلة "رسائل علوم وتقنية البيئة"، تحت عنوان: "العلاقة التاريخية بين تصنيف الأراضي في المدن الأمريكية وتلوث الهواء". وعلاوة على هذه الدراسات فقد نُشرت عدة تحقيقات في الصحف الأمريكية للتأكد من مصداقية هذا التمييز والفصل العنصري، وحالة عدم المساواة في نسبة التلوث في مدن البيض والأغنياء والمتنفذين، أو المناطق ذات التصنيف الأخضر والسمعة الطيبة، مقارنة بالمدن والمناطق الحمراء من الفقراء والمستضعفين ذات السمعة السيئة. فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمس في التاسع من مارس 2022، تحقيقاً تحت عنوان: "كيف يعكس تلوث الهواء في الولايات المتحدة السياسة العنصرية لأمريكا منذ الثلاثينيات"، كما نشرت صحيفة الواشنطن بوست تحقيقاً آخر في التاسع من مارس من العام الجاري تحت عنوان: "التصنيف الأحمر يعني بأن 45 مليون أمريكي يستنشقون هواءً ملوثاً بعد خمسين عاماً من إلغاء التصنيف".

 

وكل هذه الدراسات والتحقيقات الإعلامية توصلت إلى استنتاجٍ واحد هام هو أن التصنيف غير المدروس وغير المستدام للأراضي في المدن الأمريكية في الثلاثينيات من القرن المنصرم خلق ظاهرة التمييز العنصري البيئي والصحي، وحالة من عدم المساواة الممنهجة طوال العقود الماضية بين الشعب الأمريكي بالنسبة للتعرض للملوثات والإصابة بالأمراض المتعلقة بالتلوث عامة، مثل الربو. وهذا التصنيف بالرغم من إلغائه في فبراير 1954 إلا أن الأجيال توارثت حتى يومنا هذه النظرة الخاطئة لمدن ومناطق الفقراء والأقليات، واتُبعت هذه الممارسة غير السليمة سنوات طويلة من الزمن، فالعدوى تعمقت وتجذرت، وانتقلت من جيل إلى آخر دون رجعة.  

 

وهذه الظاهرة الاجتماعية، والبيئية، والصحية المتفشية في المجتمع الأمريكي وبين الشعب الواحد تعدت الآن اهتمام العلماء ورجال الإعلام فبلغت رجال السياسة والنفوذ، بل وأعلى هرم تنفيذي في البلاد وهو البيت الأبيض، حيث أصدر بايدن أمراً تنفيذياً في 27 يناير 2021 لمعالجة هذه الظاهرة العنصرية، وتعميق مبدأ العدالة البيئية، كما أسس مبادرة أَطلق عليها "العدالة 40"( Justice40 Initiative)، إضافة إلى مجلس البيت الأبيض الاستشاري للعدالة البيئية.

 

فهذا مثال واحد فقط على قرار غير مستدام، وسياسية غير مدروسة اتخذتها الحكومة الأمريكية، فكم من هذه القرارات والسياسات وضعتْ في دولنا ولم تأخذ بعين الاعتبار ضمان استدامة عطاء هذا القرار عبر الأجيال المتلاحقة؟

فالقرار المستدام الذي يحقق أهداف التنمية المستدامة في كافة القطاعات لن يكون إلا من خلال دراسة متوازنة وعادلة ودقيقة لثلاثة جوانب رئيسة، هي الجانب الاجتماعي، والاقتصادي، والبيئي، ثم التوفيق والسداد بين هذه الجوانب لكي لا يطغى أحد الجوانب على الجانب الآخر فيتحول إلى قرار متحيز، ومعوق، وغير مستدام يخدم فئة واحدة قليلة، أو قطاع واحد من المجتمع.

الخميس، 24 مارس 2022

المناطق المنكوبة بيئياً حول العالم


عندما كنتُ أستاذاً في جامعة الخليج العربي، تلقيتُ دعوة من سفارة جمهورية ألمانيا الاتحادية في البحرين لزيارة ألمانيا بهدف الاطلاع على أهم القضايا البيئية التي تواجهها، والاستفادة من خبرات هذه الدولة العريقة في إدارة هذه القضايا، والسياسات البيئية التي تتبعها للتعامل معها وعلاجها.

 

ومن أهم المواقع والمدن التي زُرتها أثناء هذه الجولة البيئية في نوفمبر 1992 كانت لمدن ألمانيا الشرقية، أي بعد نحو عامين من تدمير وإزالة سور برلين الذي كان يفصل بين الجزء الشرقي والغربي من ألمانيا، حيث شاهدت بأم عيني، ولمست عن قرب نتائج السياسات والممارسات غير المستدامة التي كانت مُتبعة في بعض مدن ألمانيا الشرقية، والتي ألحقت ضرراً شديداً متأصلاً ومتغلغلاً في كافة مكونات البيئة الحية وغير الحية، وانتقلت هذه الأضرار إلى إهدار الأمن الصحي للسكان، وتكونت مواقع في هذه المدن تهدد سلامة البيئة والصحة العامة على حدٍ سواء، فأَطلقتُ عليها المناطق المنكوبة بيئياً وصحياً.

 

ومن هذه المناطق المنكوبة الكثيرة، أختارُ لكم منطقة يُطلقُ عليها السكان بالمثلث القاتل، أو المثلث الاسود، وتتكون من ثلاث مدن صناعية على شكل مثلث، وهي مدينة ليبزج، وهاله، وبترفيلد. ومن المواقع المشهودة التي تؤكد الأزمة البيئية الخانقة في مثلث الموت هي بحيرة تسمى زيلبرزي(Silbersee)، أو بحيرة الفضة. فعند وصولي إلى البحيرة وجدتُ لوحة مكتوب عليها: "ابتعد! هناك خطر على حياتك"، حيث كانت مقفلة بسورٍ حديدي يمنع الاقتراب منها، فقد كانت لسنوات طويلة مقبرة جماعية للنفايات الصناعية السائلة، ومياه المجاري من المصانع والمنازل، ولذلك لم تستطع هذه البحيرة المغلوبة على أمرها أن تقاوم هذه السموم التي ترمى في بطنها، فضعفت، وانهارت قواها ثم ماتت، وماتت الحياة فيها، ولم يبق على الانسان إلا أن ينقلها الى مثواها الاخير !

 

ومثل هذه المناطق المنكوبة بيئياً وصحياً ليست من ذكريات ومظاهر الماضي، وإنما هي موجودة وبكثرة في العديد من دول العالم، سواء أكانت غنية ومتقدمة، أم فقيرة ومتأخرة. وقد تنبه مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى هذا التهديد البيئي الصحي العام للإنسانية في هذه الدول، كما تنبه إلى حقيقة مهمة جداً هي أن مثل هذه المناطق المنكوبة تعتبر تعدياً صارخاً لحقوق الإنسان الأساسية، والمتمثلة في حق الإنسان في العيش في بيئة صحية ونظيفة ومستدامة.

 

فقد تم توزيع تقرير من المقرر الخاص حول قضايا حقوق الإنسان المتعلقة بالتمتع ببيئة آمنة، نظيفة، صحية، ومستدامة، تحت عنوان: "الحق في بيئة نظيفة، صحية، ومستدامة: بيئة غير سامة"، في 12 يناير من العام الجاري على اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ثم عُرض التقرير نفسه على مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في أعمال دورته التاسعة والأربعين في جنيف في الفترة من   28 فبراير إلى الأول من أبريل من العام الجاري. 

 

فهذا التقرير يصف ظاهرة المناطق المنكوبة المستمرة منذ زمن طويل، والمتعلقة بقضية العدالة البيئية بين البشر في كل أنحاء العالم، حيث إن حالة عدم المساواة البيئية، وفقدان العدالة البيئية وتَرسُخ ممارسة العنصرية البيئية، ولَّدت هذه المناطق المنكوبة شديدة التلوث، ويُطلقُ عليها التقرير "مناطق التضحية"(sacrifice zones). وقد تم تخصيص الجزء الثالث من التقرير تحت عنوان: "فقدان العدالة البيئية ومناطق التضحية" لمناقشة وبيان تفشي ظاهرة هذه المناطق المنكوبة، إضافة إلى تقديم قائمة لهذه المواقع في مختلف دول العالم.

 

وعادة ما يكون سكان هذه المناطق في مدن العالم من الفقراء وغير المتنفذين، ومن الطبقات السفلى وغير المتعلمين في المجتمع، ولذلك ليست لديهم القدرة المالية، أو السياسية، أو الوعي بحقوقهم للدفاع عن أنفسهم ضد هذه العنصرية البيئية والتمييز الممنهج والمتعمد في أغلب الأحيان.

 

وبالرغم من أن مثل هذه المناطق المنكوبة، أو "مناطق الضحية" كانت مرتبطة سابقاً، ومنذ السبعينيات من القرن المنصرم بالمناطق التي أُجريت فيها التفجيرات والتجارب النووية فتحولت إلى مناطق ذات إشعاع مرتفع ومهلك لصحة البشر والحجر، إلا أن هذه المناطق معظمها الآن قد تغيرت في نوعيتها، فهي تكون مواقع صناعية، أو مواقع لدفن المخلفات الصلبة البلدية والصناعية، أو مواقع للتخلص من القمامة المنزلية ودفنها، أو محارق المخلفات، ومثل هذه المواقع قد تشبعت بها معظم مدن العالم.

 

ولذلك كان لا بد من المنظمات الحقوقية الدولية المهتمة بحقوق الإنسان التقليدية المعروفة من الناحية الاجتماعية، والسياسية، والتعليمية، أن تتحرك لتتناول قضية حقوق الإنسان من الناحية البيئية المرتبطة بالتمتع في العيش في بيئة سليمة وصحية غير ملوثة، وشرب مياه نقية وصافية، واستنشاق الهواء النظيف الصحي. وقد جاء الاعتراف الأممي الرسمي الأول بهذا الحق في القرار رقم (48/L.23) حول "حق الإنسان في بيئة آمنة، نظيفة، صحية ومستدامة"، والذي صدر في الثامن من أكتوبر 2021 من مجلس حقوق الإنسان التابع للأم المتحدة. كما شجع المجلس في قراره التاريخي الدول إلى تبني سياسات مناسبة على المستوى الوطني للتمتع بالحق في بيئة آمنة، نظيفة، صحية، ومستدامة، ويتضمن ذلك احترام التنوع الحيوي والأنظمة البيئية. كذلك دعا القرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لأخذ هذا الأمر في الاعتبار والعمل مع بعض لتفعيل هذا الحق الإنساني المشترك والجديد.

 

وانطلاقاً من هذه القرارات النابعة من منظمات الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان البيئية، ومواكبة من البحرين لأحدث القوانين المتعلقة بالبيئة، كنتُ أتمنى أن يكون دستور مملكة البحرين رائداً ومبادراً في وضع مادة محددة تتناول هذا الحق الإنساني، فالمادة الوحيدة الموجودة في دستورنا حول حماية البيئة بشكلٍ عام هي المادة التاسعة(ح)، والتي جاء فيها: "تأخذ الدولة التدابير اللازمة لصيانة البيئة والحفاظ على الحياة الفطرية"، وهي المادة نفسها الموجودة في ميثاق العمل الوطني. كما كنتُ أتمنى من قانون البيئة الجديد رقم 7 لسنة 2022 بشأن البيئة، والذي صدر في 15 مارس، أن يتفادى هذه الثغرة القانونية فيُخصص بنوداً واضحة حول حق المواطن في التمتع بمكونات بيئية صحية ومستدامة، سواء أكانت الهواء، أو الماء، أو التربة.

السبت، 19 مارس 2022

هل سنشهد معاهدة دولية للبلاستيك؟

مركبات كثيرة اكتشفها الإنسان وأنتج منها الملايين من الأطنان، واعتبرها هي المنتجات السحرية المنقذة للبشرية، ولكنها مع الوقت وبعد استخدامها لبضع سنوات، تأكد الإنسان نفسه الذي أدخلها في بيئته وفي منزله وفي مكتبه، بأنها نقمة وليست نعمة، وأنها وباء وليس دواء، وأن أضرارها أكثر من منافعها، وأن سلبياتها أشد من ايجابياتها، فعمل جاهداً على تجنبها وإخراجها من الأسواق، ومنع استخدامها كلياً.

 

ومن أمثلة هذه المركبات والمنتجات مجموعة من الغازات العضوية التي تحتوي على الفلور وتُعرف بالفريون، أو الفلورو كلورو كربون، فهذه المنتجات حلَّت محل مركبات سامة وخطرة كانت تُستخدم في التبريد على سبيل المثال، ونظراً لخصائصها الفريدة المتمثلة في استقرارها وخمولها كيميائياً، وعدم اشتعالها، وعدم سميتها، تبناها الإنسان واستخدمها في تطبيقات لا تُعد ولا تحصى. ولكن مع مرور الوقت اكتشف هو نفسه بأن هذه الغازات تنتقل مع الوقت وتتراكم في طبقات الجو العليا، وبالتحديد طبقة الأوزون، فتدمر غاز الأوزون في تلك الطبقة التي تحمي وتقي الكرة الأرضية ومن عليها من شر الأشعة فوق البنفسجية القاتلة الصادرة من طبقات الجو العليا، فقام مجدداً بإخراجها من دائرة الاستخدام واستبدالها بمركبات أخرى من خلال معاهدة دولية اُطلق عليها "بروتوكول مونتريال".

 

واليوم نشهد الدورة نفسها، ونتعامل مع حالة مطابقة لحالة مركبات الفريون التي لوثت الطبقات العليا من كوكبنا، وتتمثل هذه الحالة الجديدة في المواد البلاستيكية التي ملأت الآن البر، والبحر، والجو، ودخلت في كل جانب من جوانب حياتنا.

 

فنظراً للخصائص النادرة والفريدة التي يتميز بها كل مركب من المركبات البلاستيكية المتنوعة والكثيرة، فقد تم إنتاج الملايين من الأطنان منها سنوياً في كل أنحاء العالم، ودخلت هذه المنتجات بجميع أشكالها، وأحجامها، وأنواعها، صغيرة كانت أم كبيرة في معظم المجالات والتطبيقات في حياتنا اليومية، بحيث إنك نادراً ما لا ترى أي منتج تستخدمه يومياً لا يحتوي في مكوناته، أو أجزائه على هذه المواد البلاستيكية.

 

فعلى سبيل المثال، أنتجت دول العالم في عام 1950 قرابة 2 مليون طن من البلاستيك على المستوى العالمي، وارتفع هذا الإنتاج إلى 20 مليون طن متري عام 1966، ثم ارتفع مرة ثانية في عام 2018 إلى 360، وأخيراً وصل إلى 367 مليون عام 2020، ومن المتوقع أن يزيد إلى بليون طن سنوياً بحلول عام 2050، حسب البيانات المنشورة في 28 أكتوبر 2021 في مجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية: الكيمياء والهندسة المستدامة(ACS Sustainable Chemistry & Engineering)، تحت عنوان:" تقدير كمية الطاقة وانبعاث غازات الدفيئة أثناء شبكة التجارة الدولية للبلاستيك الأولي". كما أفادت الدراسة بأن صناعة البلاستيك على المستوى الدولي تُقدر قيمتها بأكثر من 522 بليون دولار، وقد تتضاعف بحلول عام 2040. كذلك أضافت هذه الدراسة بأن مجموع مع صنعه الإنسان من منتجات بلاستيكية بلغ زهاء 9.2 بليون طن، وقرابة سبعة بلايين طن من هذه المنتجات تحولت بعد الاستعمال وبعد انتهاء عمرها إلى مخلفات، فمنها ما كان مصيرها إلى مدافن المخلفات، ومنها نحو 11 مليون طن دخلت في المسطحات المائية، وبخاصة المحيطات. وعلاوة على تلوث بيئتنا بهذه المخلفات البلاستيكية الصلبة، فإن عملية صناعة البلاستيك أفسدت الهواء الجوي بالملوثات المتهمة بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض، حيث تم إطلاق قرابة 350 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون في عام 2018، وقُدِّرت كُلفة هذا التلوث للهواء الجوي والمحيطات وتداعياتها على قطاعات اقتصادية كثيرة كالسياحة، والأسماك، والغابات بنحو 6 إلى 19 بليون دولار.

 

فهذا الوضع المزمن الناجم عن التلوث البلاستيكي الشامل لكل مكونات بيئتنا، حفز وشجع العلماء منذ عقد من الزمن إلى الدعوة لمواجهة هذا الوباء الدولي الجديد الذي استشري في شرايين كوكبنا، وتغلغل في أعماق كل شبرٍ منه، في أعالي السماء، وفي الجبال الشاهقة النائية والبعيدة عن أي نشاط بشري، وفي الثلوج والمحيطات الثلجية في القطبين الشمالي والجنوبي، وفي الأعماق المظلمة والسحيقة في أبعد موقع في خنادق المحيط الهادئ وعلى عمق 10 كيلومترات تحت سطح البحر، بل وانتقل هذا التلوث البلاستيكي العقيم إلى كل عضو صغير أم كبيرة من أعضاء أجسامنا وإلى الجنين في بطن أمه. ومن أخطر المخلفات البلاستيكية تهديداً لصحة البشر هي الميكروبلاستيك، أو النانوبلاستيك، وهي المخلفات البلاستيكية المتناهية في الصغر في أحجامها، والتي تستطيع إختراق أجسامنا والدخول في الدورة الدموية، ثم إلى كل خلية من أعضاء أجسامنا.

 

فهذه الحالة العقيمة اضطرت العلماء إلى مواجهة هذا التلوث بدعوة دول العالم إلى اتخاذ الإجراءات الدولية الجماعية المشتركة للوقوف سداً منيعاً أمام المزيد من غزو هذا التلوث. فكانت آخر محاولة للعلماء في 25 فبراير 2022 عندما أصدروا بياناً جماعياً قبيل الاجتماع الخامس لجمعية الأمم المتحدة للبيئة( The U.N. Environment Assembly) الذي عُقد في العاصمة الكينية، نيروبي في الفترة من 28 فبراير إلى الثاني من مارس. وقد أعلن هؤلاء العلماء إلى الحاجة الماسة إلى معاهدة دولية شاملة تتبنى منهج الاقتصاد الدائري، وتُعنى بدورة حياة البلاستيك، أي تعالج كافة الجوانب المتعلقة بالبلاستيك، من المهد إلى اللحد، أو بعبارة أخرى من مرحلة التصميم البيئي والتصنيع لأي منتج بلاستيكي، ثم النقل والاستخدام، وأخيراً مرحلة التدوير وإعادة الاستعمال والتخلص النهائي.

 

وقد نجح العلماء هذه المرة، وبعد محاولات كثيرة، في اقناع الدول على الموافقة على مبدأ المعاهدة، حيث اتخذ الممثلون من 175 دولة القرار تحت عنوان: "أَنْهِي التلوث البلاستيكي: نحو آلية دولية ملزمة قانونياً"، وجاء فيه عدة نقاط منها إنشاء لجنة شبه حكومية لإجراء المفاوضات(Intergovernmental Negotiating Committee (INC))، ومن مهامها الإعداد لمسودة معاهدة ملزمة بحلول عام 2024، ثم تطرح للتفاوض والتوقيع عليها أخيراً من الدول الراغبة في الانضمام.   

 

ولكن السؤال الآن هو: هل سترى هذه المعاهدة النور وتنفذ بنودها في أرض الواقع؟

ففي تقديري فإن المعاهدات الدولية البيئية تحتاج أولاً إلى استحسان وموافقة الشركات الدولية المعنية، وذلك قبل موافقة ممثلي البيئة في دول العالم الذين شاركوا في اجتماع جمعية الأمم المتحدة للبيئة. فهذه الشركات العملاقة تمتلك النفوذ والقوة، وفي الكثير من الأحيان تمتلك تحريك وتوجيه القرار السياسي على المستوي القومي والإقليمي والدولي، فلا يمكن لأية معاهدة أن ترى النور وتنجح في تنفيذها إلا بعد إرضاء مصالح هذه الشركات الكبرى، والتأكد بأن أعمالهم ومكاسبهم وأرباحهم السنوية لن تتأثر بتاتاً. 

 

فالتحدي الأول الذي يقف حجر عثرة أمام لجنة صياغة المعاهدة هو كيفية صياغة بنود هذه المعاهدة بحيث إنها تتوافق مع أهواء رجال الأعمال والشركات المصنعة لكافة أنواع المنتجات البلاستيكية في كل دول العالم، فلا تتضرر أعمالهم، ولا تتوقف مصانعهم، ولا تقل أرباحهم؟

والتحدي الثاني ما هي الآلية الدولية القانونية التي تستطيع إلزام دول العالم إلى تنفيذ بنود المعاهدة إذا تمت المصادقة عليها؟ فحتى الآن لا توجد أية آلية تستطيع الفرض على أية دولة في العالم إلى تطبيق المعاهدات الدولية بشكلٍ عام، إلا إذا كانت هذه من الدول النامية، والفقيرة، والتي لا نفوذ لها من الناحيتين السياسية والاقتصادية على المسرح الدولي.

 

الخميس، 10 مارس 2022

المضادات دواء ووباء!


لا شك بأن اعتماد المضادات الحيوية ضمن قائمة الأدوية التي يستعملها الإنسان والحيوان قد ساهم بشكل جذري كبير وعلى نطاق واسع في علاج الأمراض المتعلقة بالعدوي البكتيرية، وجنَّب الملايين من البشر في كل أنحاء العالم من السقوط في مصيبة الموت والانتقال إلى مثواهم الأخير.

 

ولكن بدأ تدريجياً بريق هذا الدواء في الأفول لأسباب كثيرة، وأخذت المؤشرات التي تُثبت فقدان المضادات لفاعليتها وقوتها تزيد مع الوقت، فقد اكتشف العلماء من خلال دراساتهم وأبحاثهم الميدانية أن هذه المضادات التي صُممت خصيصاً  كدواء للعلاج والشفاء، وتستهدف قتل البكتيريا المعدية والقضاء عليها وإخراجها من جسم الإنسان والحيوان، تحولت إلى وباء عام مستعصي على العلاج ويهدد الصحة العامة للخطر، فهذه المضادات نفسها أكسبتْ بعض أنواع البكتيريا المسببة للأسقام المناعة الكافية، فطورت بداخلها المقاومة الشرسة لهذه المضادات نفسها، بحيث إن هذه المضادات الحيوية أخذت مع كل سنة من الاستعمال المفرط تفقد فاعليتها وقوة تأثيرها إذا استخدمت ضد البكتيريا، فيكون استخدامها غير مجدٍ للقضاء على العدوى المرضية. بل وإن هذه الظاهرة الصحية العالمية كشفت النقاب عن تطورِ ونمو أنواع من البكتيريا أُطلق عليها البكتيريا الغول أو "السوبر"(superbugs)، والتي لها القدرة الذاتية المكتسبة على تحدي كل أنواع المضادات الحيوية والتغلب عليها عندما تستخدم لهزيمتها داخل أجسامنا. فمثل هذا النوع العملاق العقيم من البكتيريا قد طوَّر مع الوقت آليات لها القدرة على مقاومة المضادات الحيوية، مثل تطوير جدار أكثر سمكاً في الخلية، أو أقل نفاذية، أو أنها اكتسبت مناعة ضد الإنزيمات التي تقتل البكتيريا.

وقدَّرت منظمة الصحة العالمية بأن هناك قرابة 5 ملايين إنسان قضوا نحبهم في عام 2019 بسبب العدوى البكتيرية أو السوبر بج التي كانت مقاومة للمضادات الحيوية.

 

وهناك عدة أسباب تقف وراء بروز هذه المشكلة الصحية العقيمة، من أهمها سوء إدارة المضادات الحيوية بعد استخدامها، أو بعد انتهاء صلاحيتها، أو عدم فاعلية وكفاءة معالجة مياه المجاري، أو المياه الصناعية التي تحتوي على بقايا لهذه المضادات. ونتيجة لذلك فقد انتشرت هذه المضادات التي استخدمناها لعلاج أمراضنا في مكونات بيئتنا، وبخاصة في المسطحات المائية من أنهار، وبحار، وبحيرات، ومياه جوفية، والتي عادة ما تُستخدم للشرب، مما يعني تعرض الإنسان بشكلٍ مباشر لهذه الأدوية ومشتقاتها مرة ثانية.

 

والدراسات التي قيَّمت تركيز مختلف أنواع الأدوية ومنها المضادات، في ازدياد كل سنة، وأذكُر منها آخر دراسة منشورة في 22 فبراير 2022 حول تلويث الأدوية بشكلٍ عام للمسطحات المائية، وبالتحديد بيئة الأنهار في كل أنحاء العالم.

 

وقد نُشرت هذه الدراسة في مجلة أمريكية هي "وقائع الأكاديمية القومية للعلوم"(Proceedings of the National Academy of Sciences) تحت عنوان: "التلوث بالأدوية في أنهار العالم"، حيث خلُصتْ هذه الدراسة الشاملة والجامعة إلى استنتاجٍ خطير جداً هو أن "التلوث بالأدوية الأنشطة( active pharmaceutical ingredients) يُشكل تهديداً دولياً للبيئة وصحة الإنسان، كما إنه يعيق تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، وبالتحديد الهدف الثالث المتعلق بالصحة الجيدة والعيش الكريم. وهذا الاستنتاج مبني على نتائج هذه الدراسة التي قامت بتحليل وتقيم تركيز 61 نوعاً من الأدوية في مياه الأنهار في 1052 موقعاً في 258 نهراً في 104 دول حول العالم، ومن جميع القارات. كما شملت هذه الدراسة مواقع نهرية نائية وبعيدة عن أنشطة البشر مثل نهرٍ في آيسلاندا، وآخر في قرية يانوناميا(Yanonamei Village)، وهي من قرى فنزويلا التي يسكنها السكان الأصليون الذين لا يستخدمون الأدوية الحديثة، إضافة إلى الأنهار الواقعة في المدن الحضرية المكتظة بالسكان.

وقد أوجدتْ الدراسة العلاقة بين تركيز الأدوية في مياه الأنهار وعدة عوامل مختلفة منها أولاً أن تركيز الأدوية يكون مرتفعاً بشكلٍ عام في الأنهار الضحلة الموجودة في المدن الحضرية العمرانية الكبيرة والتي تُصرف فيها مباشرة مياه المجاري المعالجة وشبة المعالجة والمخلفات الصلبة، وثانياً علاقة ارتفاع التركيز بالمدن الفقيرة التي عادة ما لا توجد بها محطات ذات كفاءة عالية لمعالجة المياه المجاري، أو إدارة متكاملة وشاملة للتخلص من القمامة المنزلية. وأما العامل الثالث فهو متعلق بوعي الشعوب والحكومات ونمط استهلاكها للمضادات الحيوية. فعلى سبيل المثال في موقع واحد في نهر كاي تك(Kai Tak)في هونج كونج، تم اكتشاف 34 نوعاً من الأدوية والعقاقير وبمستويات مرتفعة، وكأن ماء النهر تحول إلى صيدلية عامة مفتوحة. كما أن معدل التركيز الكلي للعقاقير كان الأعلى في مدن الدول النامية، مثل مدينة لاهور في باكستان بتركيز بلغ 70.8 ميكروجرام من الأدوية لكل لتر من ماء النهر، ثم مدينة لا باز في بوليفيا، حيث وصل معدل التركيز إلى 68.9 ميكروجرام لكل لتر، ومدينة أديس أبابا في أثيوبيا.

أما بالنسبة لكل نوع من الأدوية في الأنهار، فقد تم اكتشاف المضادات الحيوية بمستويات مرتفعة في واحد من كل خمسة مواقع نهرية حول العالم. فعلى سبيل المثال، بلغ تركيز المضاد الحيوي الشائع استخدامه ميترونيدازول(metronidazole) وفي موقع واحد في أحد أنهار بنجلادش أكثر من 300 مرة من التركيز الآمن.

 

فهذه المضادات الحيوية تسير في عدة مسارات مختلفة حتى تصل أخيراً إلى المسطحات المائية، كالأنهار، ثم إلى جسم الإنسان عن طريق شرب مياه الأنهار. أما المسار الأول فيبدأ بالإنسان المريض الذي يتعالج من مرضٍ معد بتناول المضادات الحيوية، وهذه المضادات تخرج مع إفرازات الإنسان، كالبول والبراز، أو ما تبقى من مضادات لم تُستخدم فإنها إما أن تصرف في مياه المجاري، أو أن تُلقى في القمامة، فتجد مصيرها في المدافن، حسب الدراسة المنشورة في 17 أغسطس 2020 في مجلة "علوم وتقنية البيئة" تحت عنوان: "مدافن المخلفات البلدية الصلبة: مصدر للأدوية ومستلزمات العناية الشخصية في البيئة المائية"، ومن المدافن قد تترشح إلى طبقات الأرض السفلى وتنتقل إلى المياه الجوفية والمياه السطحية، وأخيراً إلى الإنسان والحياة الفطرية من أسماك وطيور مائية.

وأما المسار الثاني فهو من مياه المجاري إلى المسطحات المائية، إما بشكلٍ مباشر عن طريق صرفها دون معالجة، وإما بعد معالجة هذه المياه في محطة مياه المجاري حيث لا تتمكن أجهزة المعالجة من التخلص من كل هذه المضادات، والمسار الثالث والأخير فيكون من مصانع الأدوية، حيث إن بقايا المضادات الحيوية قد تصرف مع مياه الصرف الصناعي إلى المسطحات المائية.

وهناك عدة حلول لعلاج هذا الوباء القادم المتمثل في البكتيريا المضادة والمقاومة للمضادات الحيوية، منها تجنب أو خفض استخدام المضادات الحيوانية في القطاع الزراعي، وبالتحديد للحيوانات من أجل العلاج من أمراض الالتهاب والأمراض المعدية، أو لاستخدامها لرفع الإنتاج الحيواني من اللحوم، حسب التقرير المنشور في مجلة "شؤون خارجية" في 28 فبراير 2022 تحت عنوان: "عندما تكون المضادات الحيوية غير فاعلة: الوباء القادم موجود حالياً". كذلك يجب ترشيد استهلاك المضادات الحيوية، سواء خفض أعداد الوصفات بالنسبة للأطباء، أو خفض الاستهلاك بالنسبة للمرضى. ومن الحلول أيضاً لمواجهة هذا التهديد الصحي العام هو رفع كفاءة محطات معالجة مياه المجاري ومصانع الأدوية، بحيث تكون فاعلة في التخلص من المضادات والأدوية بشكلٍ عام. وأخيراً لا بد من الاستثمار في إجراء البحوث لتطوير جيلٍ جديد من المضادات الحيوية الشديدة المقاومة للبكتيريا والقادرة على التغلب عليها.