الاثنين، 7 مارس 2022

التحديات البيئية الدولية

نَشرَ برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وهو الذراع البيئي للأمم المتحدة، في 17 فبراير من العام الجاري تقريراً حول التحديات البيئية الرئيسة الحالية والمستقبلية التي تواجه كوكبنا عامة، والتهديدات الصحية التي يعاني منها البشر سكان الأرض بسبب هذه التحديات وتفاقم تأثيراتها واتساع نطاق وقوعها الجغرافي.

 

ويأتي هذا التقرير الجديد من ضمن سلسلة تقارير يُطلق عليها(Frontiers Report)، وهي عبارة عن تقارير دورية تستشرف المستقبل البيئي والصحي للإنسان الناجم عن هذه التحديات البيئية، كما تعمل هذه التقارير على تحديد وتوقع نوعية وحجم التحديات الجديدة القادمة. أما الدراسة المنشورة الآن فهي الرابعة من نوعها في هذه السلسلة، حيث نشر التقرير الأول في عام 2016، وعنوان التقرير الحالي الرابع هو: "الضوضاء، الحرائق والتحولات الحيوية: قضايا جديدة ذات اهتمام بيئي"(Noise, Blazes and Mismatches: Emerging Issues of Environmental Concern).

 

وقد تم تلخيص التحديات والتهديدات للبشرية والبيئة في ثلاث قضايا جامعة أساسية تم تسليط الضوء عليها، وهي أولاً التلوث الضوضائي في المدن الحضرية المكتظة بالسكان ووسائل النقل والمواصلات، وثانياً حرائق الغابات التي زادت في السنوات الأخيرة في تكرار حدوثها وتأثيرها في منطقة جغرافية واسعة، بحيث إنها شملت دولاً جديدة لم تك تشهد من قبل هذه الوتيرة الكثيفة والشديدة من الحرائق، وثالثاً وأخيراً هو التحولات والتغيرات في دورة حياة الكائنات الحية الفطرية النباتية منها والحيوانية، من حيث تغير مواعيد العمليات الحيوية الدورية والمتكررة التي تقع في فترة زمنية محددة ومعروفة منذ سنوات طويلة، فيقع اضطراب عام في هذه الحوادث الدورية، والمعروفة علمياً بالتحولات الفنولوجية(phenological shifts).

 

أما بالنسبة للتحدي البيئي الدولي الخاص بالتلوث الضوضائي والأصوات المرتفعة، فلا أظن بأن الكثير مِنا كان يتوقع بأن الأصوات العالية والضوضاء قد تُشكل مثل هذا التحدي العصيب للبشرية جمعاء، وأن لها مردودات تهدد الصحة العامة على هذا المستوى الكبير.

 

فالضوضاء حسب هذا التقرير الأممي تشكل أزمة بيئية وصحية متفاقمة، سواء الصحة المهنية بالنسبة للعاملين في مواقع يتحتم عليهم التعرض للأصوات المرتفعة أثناء العمل لساعات طويلة من اليوم والليلة بالقرب من المولدات، ومحطات توليد الكهرباء، والمطارات، ومواقف الحافلات، والآلات التي تنطلق منها أصوات عالية ومزعجة، أو بالنسبة للصحة العامة للذين يعيشون بالقرب من الشوارع المزدحمة بالسيارات والشاحنات، وحركة القطارات والطائرات، أو الأنشطة الترفيهية الصاخبة، فكل هؤلاء الناس يقعون مباشرة تحت وطأة الضوضاء والأصوات المزعجة والمنفرة، فتتأثر صحتهم العضوية والنفسية على حدٍ سواء، فهم يقاسون من الاضطرابات النفسية، وقد تتحول في بعض الحالات المزمنة إلى الشعور بالقلق والاكتئاب، وتنعكس على عدم قدرتهم على النوم، والاستمتاع بالراحة والسكينة أثناء وجودهم في المنزل بعد العناء الجسدي والتعب من العمل في اليوم كله.

 

وهناك الكثير من الدراسات والأبحاث الميدانية المنشورة التي وثقتْ وأكدت التأثيرات الصحية للضوضاء على الناس، سواء الصحة الجسمية الفسيولوجية، أو النفسية، أو العقلية. فقد أثبتت الدراسات بأن التعرض للأصوات المرتفعة ساعات طويلة من اليوم، أو الليلة يؤدي إلى ضعف، أو فقدان نعمة السمع مع الوقت، كما ينجم عنها أمراض القلب، ومرض السكري، ثم إذا لم تُعالج هذه الأزمة الصحية المزمنة في وقتها فإنها ستؤدي إلى الموت المبكر. فعلى سبيل المثال، نَشرَ المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا دراسة مفصلة حول علاقة الضوضاء بتدهور الصحة العامة في المجتمع الأوروبي. فقد أفاد التقرير بأن زهاء 22 مليون أوروبي يعانون من ظاهرة الضوضاء والأصوات المرتفعة المزمنة، ونحو 6.5 مليون منهم يعانون من اضطرابات وعدم القدرة على النوم، كما أشارت الدراسة إلى هذه القضية البيئية تؤدي إلى زيادة حالات الإصابة بأمراض القلب، حيث إن قرابة 48 حالة جديدة من المصابين بمرض في القلب يضافون سنوياً إلى الحالات السابقة، وكل ذلك يقضي على شباب أوروبا، فنحو 12 ألف أوروبياً سنوياً يقضون نحبهم ويُنقلون إلى مثواهم الأخير في سن مبكرة.

 

وفي الجانب الآخر فإن هذه الأصوات العالية تهدد سلامة الحياة الفطرية الحيوانية، وتنجم عنها اضطرابات في السلوك والتصرفات اليومية الدورية، وعرقلة التواصل والتخاطب مع بعضها البعض ، إضافة إلى إحداث خلل في العمليات الحيوية الدورية والموسمية، سواء أكانت الطيور، وبخاصة الطيور المهاجرة، أو الحشرات الليلية، أو الزواحف، وهذه التأثيرات تظهر أيضاً على الكائنات البحرية، وبالتحديد تلك الكائنات التي تتواصل وتتحدث مع بعض عن طريق إطلاق الأصوات للتغذية الجماعية، أو التزاوج، أو التحذير والتنبيه من وجود عدوٍ خارجي يغزو مواقعهم، أو الهجرة والحركة من منطقة إلى أخرى، فوجود الضوضاء من مصادر غير طبيعية كثيرة في البحر، سواء من سفن الصيد والأبحاث، أو من عمليات استخراج النفط والغاز البحرية، أو من عمليات البناء، فإنها كلها تتداخل وتتضارب مع الأصوات الطبيعية المتناغمة التي تصدر من هذه الحيوانات، فتفقد هذه الكائنات بوصلتها الصوتية الطبيعية، وتسبب لها إرباكاً وإزعاجاً شديدين، وتنعكس سلبياً على نموها وتكاثرها واستدامة حياتها.

 

فهذه القضية البيئية إذن تُشكل على المدى البعيد تهديداً عاماً صحياً على الكائنات الحية جميعاً، سواء من البشر، أو الحياة الفطرية، وتشكل تهديداً واقعياً وحقيقياً للتنوع الإحيائي وتؤثر على استدامة حياتها ونموها وازدهارها فوق سطح الأرض.

 

وأما التحدي الثاني لسكان الأرض فهو حرق الغابات بدرجةٍ غير طبيعية وغير مسبوقة في التاريخ البشري، من حيث أولاً تكرار وقوع الحرائق وازديادها بشكل سنوي، وثانياً شدة وضرارة هذه الحرائق وتوسع دائرة انتشارها الجغرافي، وثالثاً اشتعال هذه الحرائق للغابات في دول ومناطق لم تُعرفْ سابقاً بشدتها بهذه الدرجة المشهودة الآن.

 

 فالتقرير يفيد بأنه في الفترة من 2002 إلى 2016 احترق في هذه السنوات قرابة 4.23 مليون كيلومتر مربع من الغابات الموجودة فوق سطح الأرض، وهذا الحرائق في زيادة مستمرة كل سنة  من ناحية تكرار وقوعها، وفي مواقع لم تعرف من قبل بشدة الحرائق، أو من ناحية الرقعة الجغرافية التي تلتهمها. كما أن هناك تقريراً آخر من برنامج الأمم المتحدة للبيئة بالتعاون مع منظمة دولية(GRID_Arenda) نُشر في 23 فبراير من العام الجاري ويتوقع بأن حرائق الغابات ستزيد بنسبة 50% بحلول عام 2050. وأما السلبيات التي تنجم عن هذه الحرائق مشهودة ومتعددة، منها تلوث الهواء الجوي بالدخان، أو الجسيمات الدقيقة وتكون سحبٍ شديدة التلوث تؤثر على الحرث والنسل والشجر والحجر، ومنها القضاء على التنوع الإحيائي في مواقع الحريق، سواء أكانت الحيوانات، أو النباتات. كذلك فإن فقدان الغابات والمساحات الخضراء الكثيفة يعني عدم قدرة كوكبنا على امتصاص الملوثات من الهواء الجوي، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون المتهم الأول في رفع درجة حرارة الأرض وإحداث مشكلة التغير المناخي.

 

وأما التهديد الأخير الذي من الممكن أن يقف حجر عثر أمام استدامة الأنشطة التنموية للإنسان ويسبب له مشكلات صحية مستقبلية هو التغير في دورة حياة الكائنات الحية التي تعيش في البر، أو البحر، أو الجو بسبب المشكلات البيئية الأخرى التي نزلت علينا بأيدينا، مثل التغير المناخي بشكلٍ خاص، والتلوث الضوئي، وغيرها من القضايا التي أثرت على الحياة اليومية "الروتينية" والسلوكيات المتكررة التي تقوم بها الحياة الفطرية الحيوانية والنباتية. وهذه التغيرات تؤثر على عدة مظاهر طبيعية، مثل البيات الشتوي عند بعض الحيوانات، وموعد حلول الفصول الأربعة، وبالتحديد فصلي الربيع والخريف حيث انفتاح الأزهار أو سقوط الأوراق في أوقات معروفة تاريخياً ومسبقاً في دول العالم، أو مواعيد قطف ثمار المحاصيل الزراعية التي تعتمد كلياً على موعد سقوط الأمطار، أو هجرة الطيور من منطقة إلى أخرى، أو مواعيد التزاوج والتغذية. فكل هذه التغيرات لها تأثيرات جذرية على صحة الأنظمة البيئية وسلامة الكائنات التي تعيش فيها، مما يهدد استدامة حياتها، ثم حياة الإنسان معها.

 

فهذه التحديات الدولية التي تهدد أمن الإنسان وسلامة الحياة الفطرية لا يمكن أن تقوم بها دولة واحدة بشكلٍ مستقل، وإنما هي بحاجة ماسة إلى جهود جماعية مشتركة، وتعاون وتنسيق في العمل بين كل دول العالم، ولكن الواقع يفيد عدم إمكانية تحقيق هذا التعاون المشترك، فما أشاهده أمامي هو ضعف العمل الدولي المشترك في مجال حل القضايا البيئية الدولية، وعلى رأسها، على سبيل المثال قضية التغير المناخي التي دخلت جدول أعمال المجتمع الدولي بشكلٍ رسمي في عام 1992، وبالرغم من مرور ثلاثين عاماً على هذا الحدث التاريخي إلا أن دول العالم فشلت في الوصول إلى اتفاقية دولية مشتركة ملزمة قانونياً للجميع، كما فشلت في تطوير واستحداث آلية مراقبة، ومتابعة، ومحاسبة لأية اتفاقية دولية تلتزم بها دول العالم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق