الخميس، 10 مارس 2022

المضادات دواء ووباء!


لا شك بأن اعتماد المضادات الحيوية ضمن قائمة الأدوية التي يستعملها الإنسان والحيوان قد ساهم بشكل جذري كبير وعلى نطاق واسع في علاج الأمراض المتعلقة بالعدوي البكتيرية، وجنَّب الملايين من البشر في كل أنحاء العالم من السقوط في مصيبة الموت والانتقال إلى مثواهم الأخير.

 

ولكن بدأ تدريجياً بريق هذا الدواء في الأفول لأسباب كثيرة، وأخذت المؤشرات التي تُثبت فقدان المضادات لفاعليتها وقوتها تزيد مع الوقت، فقد اكتشف العلماء من خلال دراساتهم وأبحاثهم الميدانية أن هذه المضادات التي صُممت خصيصاً  كدواء للعلاج والشفاء، وتستهدف قتل البكتيريا المعدية والقضاء عليها وإخراجها من جسم الإنسان والحيوان، تحولت إلى وباء عام مستعصي على العلاج ويهدد الصحة العامة للخطر، فهذه المضادات نفسها أكسبتْ بعض أنواع البكتيريا المسببة للأسقام المناعة الكافية، فطورت بداخلها المقاومة الشرسة لهذه المضادات نفسها، بحيث إن هذه المضادات الحيوية أخذت مع كل سنة من الاستعمال المفرط تفقد فاعليتها وقوة تأثيرها إذا استخدمت ضد البكتيريا، فيكون استخدامها غير مجدٍ للقضاء على العدوى المرضية. بل وإن هذه الظاهرة الصحية العالمية كشفت النقاب عن تطورِ ونمو أنواع من البكتيريا أُطلق عليها البكتيريا الغول أو "السوبر"(superbugs)، والتي لها القدرة الذاتية المكتسبة على تحدي كل أنواع المضادات الحيوية والتغلب عليها عندما تستخدم لهزيمتها داخل أجسامنا. فمثل هذا النوع العملاق العقيم من البكتيريا قد طوَّر مع الوقت آليات لها القدرة على مقاومة المضادات الحيوية، مثل تطوير جدار أكثر سمكاً في الخلية، أو أقل نفاذية، أو أنها اكتسبت مناعة ضد الإنزيمات التي تقتل البكتيريا.

وقدَّرت منظمة الصحة العالمية بأن هناك قرابة 5 ملايين إنسان قضوا نحبهم في عام 2019 بسبب العدوى البكتيرية أو السوبر بج التي كانت مقاومة للمضادات الحيوية.

 

وهناك عدة أسباب تقف وراء بروز هذه المشكلة الصحية العقيمة، من أهمها سوء إدارة المضادات الحيوية بعد استخدامها، أو بعد انتهاء صلاحيتها، أو عدم فاعلية وكفاءة معالجة مياه المجاري، أو المياه الصناعية التي تحتوي على بقايا لهذه المضادات. ونتيجة لذلك فقد انتشرت هذه المضادات التي استخدمناها لعلاج أمراضنا في مكونات بيئتنا، وبخاصة في المسطحات المائية من أنهار، وبحار، وبحيرات، ومياه جوفية، والتي عادة ما تُستخدم للشرب، مما يعني تعرض الإنسان بشكلٍ مباشر لهذه الأدوية ومشتقاتها مرة ثانية.

 

والدراسات التي قيَّمت تركيز مختلف أنواع الأدوية ومنها المضادات، في ازدياد كل سنة، وأذكُر منها آخر دراسة منشورة في 22 فبراير 2022 حول تلويث الأدوية بشكلٍ عام للمسطحات المائية، وبالتحديد بيئة الأنهار في كل أنحاء العالم.

 

وقد نُشرت هذه الدراسة في مجلة أمريكية هي "وقائع الأكاديمية القومية للعلوم"(Proceedings of the National Academy of Sciences) تحت عنوان: "التلوث بالأدوية في أنهار العالم"، حيث خلُصتْ هذه الدراسة الشاملة والجامعة إلى استنتاجٍ خطير جداً هو أن "التلوث بالأدوية الأنشطة( active pharmaceutical ingredients) يُشكل تهديداً دولياً للبيئة وصحة الإنسان، كما إنه يعيق تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، وبالتحديد الهدف الثالث المتعلق بالصحة الجيدة والعيش الكريم. وهذا الاستنتاج مبني على نتائج هذه الدراسة التي قامت بتحليل وتقيم تركيز 61 نوعاً من الأدوية في مياه الأنهار في 1052 موقعاً في 258 نهراً في 104 دول حول العالم، ومن جميع القارات. كما شملت هذه الدراسة مواقع نهرية نائية وبعيدة عن أنشطة البشر مثل نهرٍ في آيسلاندا، وآخر في قرية يانوناميا(Yanonamei Village)، وهي من قرى فنزويلا التي يسكنها السكان الأصليون الذين لا يستخدمون الأدوية الحديثة، إضافة إلى الأنهار الواقعة في المدن الحضرية المكتظة بالسكان.

وقد أوجدتْ الدراسة العلاقة بين تركيز الأدوية في مياه الأنهار وعدة عوامل مختلفة منها أولاً أن تركيز الأدوية يكون مرتفعاً بشكلٍ عام في الأنهار الضحلة الموجودة في المدن الحضرية العمرانية الكبيرة والتي تُصرف فيها مباشرة مياه المجاري المعالجة وشبة المعالجة والمخلفات الصلبة، وثانياً علاقة ارتفاع التركيز بالمدن الفقيرة التي عادة ما لا توجد بها محطات ذات كفاءة عالية لمعالجة المياه المجاري، أو إدارة متكاملة وشاملة للتخلص من القمامة المنزلية. وأما العامل الثالث فهو متعلق بوعي الشعوب والحكومات ونمط استهلاكها للمضادات الحيوية. فعلى سبيل المثال في موقع واحد في نهر كاي تك(Kai Tak)في هونج كونج، تم اكتشاف 34 نوعاً من الأدوية والعقاقير وبمستويات مرتفعة، وكأن ماء النهر تحول إلى صيدلية عامة مفتوحة. كما أن معدل التركيز الكلي للعقاقير كان الأعلى في مدن الدول النامية، مثل مدينة لاهور في باكستان بتركيز بلغ 70.8 ميكروجرام من الأدوية لكل لتر من ماء النهر، ثم مدينة لا باز في بوليفيا، حيث وصل معدل التركيز إلى 68.9 ميكروجرام لكل لتر، ومدينة أديس أبابا في أثيوبيا.

أما بالنسبة لكل نوع من الأدوية في الأنهار، فقد تم اكتشاف المضادات الحيوية بمستويات مرتفعة في واحد من كل خمسة مواقع نهرية حول العالم. فعلى سبيل المثال، بلغ تركيز المضاد الحيوي الشائع استخدامه ميترونيدازول(metronidazole) وفي موقع واحد في أحد أنهار بنجلادش أكثر من 300 مرة من التركيز الآمن.

 

فهذه المضادات الحيوية تسير في عدة مسارات مختلفة حتى تصل أخيراً إلى المسطحات المائية، كالأنهار، ثم إلى جسم الإنسان عن طريق شرب مياه الأنهار. أما المسار الأول فيبدأ بالإنسان المريض الذي يتعالج من مرضٍ معد بتناول المضادات الحيوية، وهذه المضادات تخرج مع إفرازات الإنسان، كالبول والبراز، أو ما تبقى من مضادات لم تُستخدم فإنها إما أن تصرف في مياه المجاري، أو أن تُلقى في القمامة، فتجد مصيرها في المدافن، حسب الدراسة المنشورة في 17 أغسطس 2020 في مجلة "علوم وتقنية البيئة" تحت عنوان: "مدافن المخلفات البلدية الصلبة: مصدر للأدوية ومستلزمات العناية الشخصية في البيئة المائية"، ومن المدافن قد تترشح إلى طبقات الأرض السفلى وتنتقل إلى المياه الجوفية والمياه السطحية، وأخيراً إلى الإنسان والحياة الفطرية من أسماك وطيور مائية.

وأما المسار الثاني فهو من مياه المجاري إلى المسطحات المائية، إما بشكلٍ مباشر عن طريق صرفها دون معالجة، وإما بعد معالجة هذه المياه في محطة مياه المجاري حيث لا تتمكن أجهزة المعالجة من التخلص من كل هذه المضادات، والمسار الثالث والأخير فيكون من مصانع الأدوية، حيث إن بقايا المضادات الحيوية قد تصرف مع مياه الصرف الصناعي إلى المسطحات المائية.

وهناك عدة حلول لعلاج هذا الوباء القادم المتمثل في البكتيريا المضادة والمقاومة للمضادات الحيوية، منها تجنب أو خفض استخدام المضادات الحيوانية في القطاع الزراعي، وبالتحديد للحيوانات من أجل العلاج من أمراض الالتهاب والأمراض المعدية، أو لاستخدامها لرفع الإنتاج الحيواني من اللحوم، حسب التقرير المنشور في مجلة "شؤون خارجية" في 28 فبراير 2022 تحت عنوان: "عندما تكون المضادات الحيوية غير فاعلة: الوباء القادم موجود حالياً". كذلك يجب ترشيد استهلاك المضادات الحيوية، سواء خفض أعداد الوصفات بالنسبة للأطباء، أو خفض الاستهلاك بالنسبة للمرضى. ومن الحلول أيضاً لمواجهة هذا التهديد الصحي العام هو رفع كفاءة محطات معالجة مياه المجاري ومصانع الأدوية، بحيث تكون فاعلة في التخلص من المضادات والأدوية بشكلٍ عام. وأخيراً لا بد من الاستثمار في إجراء البحوث لتطوير جيلٍ جديد من المضادات الحيوية الشديدة المقاومة للبكتيريا والقادرة على التغلب عليها.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق