الأربعاء، 30 مارس 2022

الأجيال تتوارثُ تداعيات القرارات غير المدروسة

دروس من كافة الجوانب المتعلقة به، قد نتخذُه اليوم، ولكن تداعياته وانعكاساته السلبية يتوارثها جيل بعد جيل ولسنوات طويلة من الزمن، فتكتوي من نارها الأجيال المتلاحقة، ويعاني منها الناس لعقود طويلة من الزمن.

 

وفي المقابل أيضاً سياسة غير معتدلة وغير شاملة نضعها اليوم فتقع آثارها على الناس بعد سنوات طويلة، حتى ولو تم تغييرها أو إلغاؤها بعد عدة سنوات، فستظل هذه السياسة القديمة تنفذ وتطبق في أرض الواقع، لأنها قد أوقعت الضرر العام فتجذرت في المجتمع، وتغلغلت تداعياتها بعمق في جميع القطاعات.

 

ومثل هذه القرارات والسياسات غير المستدامة موجودة في معظم دول العالم، ومنها ما هو مُوثق على هيئة دراسات وأبحاث منشورة أُجريت لتُحققَ بأسلوب علمي منهجي وتؤكد عدم فاعليتها وخطئها واستمرارية تداعياتها السلبية لفترة طويلة من الزمن منذ إقرارها وتنفيذها.

 

ومن بين أمثلة كثيرة على هذه القرارات والسياسات غير الرشيدة وغير المستدامة، اُقدم لكم السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية في مجال تصنيف الأراضي في بعض المدن، والقرار الذي بُني على هذه السياسة منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم، والذي آثاره السلبية مازالت واقعة ومشهودة على المجتمع الأمريكي من الناحية الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية، والصحية، أي بعد صدور القرار بأكثر من تسعين عاماً، فهذا القرار العتيق ترك بصمة قوية حفرها في قلب المجتمع.

 

فالولايات المتحدة الأمريكية التي عانت من فترة الركود الاقتصادي العصيبة في الثلاثينيات من القرن المنصرم، قامت بإنشاء مؤسسة حكومية اتحادية في يونيو 1933 للتعامل مع سوق العقار والاستثمار العقاري، إضافة إلى إدارة وتنظيم الديون العقارية وأسس تمويلها، وأُطلقَ عليها (Home Owner’s Loan Corporation). وكانت أولى مهمات هذه المؤسسة تصنيف الأراضي في 239 مدينة أمريكية، حيث كان التصنيف على أساس عنصري وعرقي ولون وخلفية معظم السكان في تلك المنطقة من المدينة، إضافة إلى دخلهم السنوي ومستوى تعليمهم ونفوذهم السياسي والاجتماعي. وتألَّفَ هذا التصنيف للأراضي الاستثمارية من أربعة أقسام، الأول هو الدرجة "أ"(Grade A) وأُعطي اللون الأخضر، ويُعد الأفضل من الناحية الاستثمارية والأقل خطورة وتدهوراً من الناحية البيئية والإسكانية والأمنية، حيث يسكن المنطقة البيض وذوي السلطة والمال والنفوذ، وثانياً  الدرجة "باء"(B)، أو اللون الأزرق، وثالثاً الدرجة "سي"(C)، ورابعاً وأخيراً وهي المنطقة الأسوأ والأخطر من ناحية الأمن والسلامة ونوعية البيئة والسكان الذين يكونون عادة من السود والأقليات الأخرى الفقيرة وغير المتعلمة، وأعطيت الدرجة "دال" (D)، أو لون الأحمر الخطر.

 

ومثل هذه التصنيفات العنصرية البغيضة توارثتها الأجيال منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم، وتحولت إلى واقع تنفيذي مَوروث، فأسعار الأراضي في المنطقة الخضراء ارتفعت، ولذلك ابتعدت عنها المصانع بجميع أنواعها وأحجامها، ولم يجرؤ أحد على تحويل أي موقع أو عقار في هذه المنطقة إلى دفن المخلفات، أو تأسيس أية منشأة تضر بصحة البيئة وتؤثر على سلامة الإنسان، ولذلك فجميع هذه المنشآت الخطرة التي تُدهور الأمن الصحي والبيئي للإنسان، إضافة إلى خطوط القطارات والسيارات السريعة المزعجة، انتقلت وأخذت من المنطقة الحمراء الرخيصة الثمن مقراً لها ولأنشطتها وعملياتها الملوثة للبيئة. كما أن هذه المنطقة الحمراء لم تحظ بسكان يُدركون خطورة هذه المصانع، ولم تكن لهم السلطة، أو النفوذ، أو المال لمعارضة استيطان هذه المنشآت في مناطقهم وأمام منازلهم. وعلاوة على ذلك كله فإن التمييز بلغ إلى درجة حرمان هؤلاء السكان من القروض العقارية، مما زادهم بؤساً وشقاءً، وكرَّس الفقر وتدهور نوعية الحياة في مناطقهم.

 

وقد أثبتت دراسات علمية واقعيةْ هذه الظاهرة والسياسة العنصرية البيئية والصحية التي غُرست قبل قرابة تسعين عاماً، وأكدت مصداقيتها واستمراريتها حتى يومنا هذا، ومنها دراسة منشورة في التاسع من مارس من العام الجاري في مجلة "رسائل علوم وتقنية البيئة"، تحت عنوان: "العلاقة التاريخية بين تصنيف الأراضي في المدن الأمريكية وتلوث الهواء". وعلاوة على هذه الدراسات فقد نُشرت عدة تحقيقات في الصحف الأمريكية للتأكد من مصداقية هذا التمييز والفصل العنصري، وحالة عدم المساواة في نسبة التلوث في مدن البيض والأغنياء والمتنفذين، أو المناطق ذات التصنيف الأخضر والسمعة الطيبة، مقارنة بالمدن والمناطق الحمراء من الفقراء والمستضعفين ذات السمعة السيئة. فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمس في التاسع من مارس 2022، تحقيقاً تحت عنوان: "كيف يعكس تلوث الهواء في الولايات المتحدة السياسة العنصرية لأمريكا منذ الثلاثينيات"، كما نشرت صحيفة الواشنطن بوست تحقيقاً آخر في التاسع من مارس من العام الجاري تحت عنوان: "التصنيف الأحمر يعني بأن 45 مليون أمريكي يستنشقون هواءً ملوثاً بعد خمسين عاماً من إلغاء التصنيف".

 

وكل هذه الدراسات والتحقيقات الإعلامية توصلت إلى استنتاجٍ واحد هام هو أن التصنيف غير المدروس وغير المستدام للأراضي في المدن الأمريكية في الثلاثينيات من القرن المنصرم خلق ظاهرة التمييز العنصري البيئي والصحي، وحالة من عدم المساواة الممنهجة طوال العقود الماضية بين الشعب الأمريكي بالنسبة للتعرض للملوثات والإصابة بالأمراض المتعلقة بالتلوث عامة، مثل الربو. وهذا التصنيف بالرغم من إلغائه في فبراير 1954 إلا أن الأجيال توارثت حتى يومنا هذه النظرة الخاطئة لمدن ومناطق الفقراء والأقليات، واتُبعت هذه الممارسة غير السليمة سنوات طويلة من الزمن، فالعدوى تعمقت وتجذرت، وانتقلت من جيل إلى آخر دون رجعة.  

 

وهذه الظاهرة الاجتماعية، والبيئية، والصحية المتفشية في المجتمع الأمريكي وبين الشعب الواحد تعدت الآن اهتمام العلماء ورجال الإعلام فبلغت رجال السياسة والنفوذ، بل وأعلى هرم تنفيذي في البلاد وهو البيت الأبيض، حيث أصدر بايدن أمراً تنفيذياً في 27 يناير 2021 لمعالجة هذه الظاهرة العنصرية، وتعميق مبدأ العدالة البيئية، كما أسس مبادرة أَطلق عليها "العدالة 40"( Justice40 Initiative)، إضافة إلى مجلس البيت الأبيض الاستشاري للعدالة البيئية.

 

فهذا مثال واحد فقط على قرار غير مستدام، وسياسية غير مدروسة اتخذتها الحكومة الأمريكية، فكم من هذه القرارات والسياسات وضعتْ في دولنا ولم تأخذ بعين الاعتبار ضمان استدامة عطاء هذا القرار عبر الأجيال المتلاحقة؟

فالقرار المستدام الذي يحقق أهداف التنمية المستدامة في كافة القطاعات لن يكون إلا من خلال دراسة متوازنة وعادلة ودقيقة لثلاثة جوانب رئيسة، هي الجانب الاجتماعي، والاقتصادي، والبيئي، ثم التوفيق والسداد بين هذه الجوانب لكي لا يطغى أحد الجوانب على الجانب الآخر فيتحول إلى قرار متحيز، ومعوق، وغير مستدام يخدم فئة واحدة قليلة، أو قطاع واحد من المجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق