السبت، 19 مارس 2022

هل سنشهد معاهدة دولية للبلاستيك؟

مركبات كثيرة اكتشفها الإنسان وأنتج منها الملايين من الأطنان، واعتبرها هي المنتجات السحرية المنقذة للبشرية، ولكنها مع الوقت وبعد استخدامها لبضع سنوات، تأكد الإنسان نفسه الذي أدخلها في بيئته وفي منزله وفي مكتبه، بأنها نقمة وليست نعمة، وأنها وباء وليس دواء، وأن أضرارها أكثر من منافعها، وأن سلبياتها أشد من ايجابياتها، فعمل جاهداً على تجنبها وإخراجها من الأسواق، ومنع استخدامها كلياً.

 

ومن أمثلة هذه المركبات والمنتجات مجموعة من الغازات العضوية التي تحتوي على الفلور وتُعرف بالفريون، أو الفلورو كلورو كربون، فهذه المنتجات حلَّت محل مركبات سامة وخطرة كانت تُستخدم في التبريد على سبيل المثال، ونظراً لخصائصها الفريدة المتمثلة في استقرارها وخمولها كيميائياً، وعدم اشتعالها، وعدم سميتها، تبناها الإنسان واستخدمها في تطبيقات لا تُعد ولا تحصى. ولكن مع مرور الوقت اكتشف هو نفسه بأن هذه الغازات تنتقل مع الوقت وتتراكم في طبقات الجو العليا، وبالتحديد طبقة الأوزون، فتدمر غاز الأوزون في تلك الطبقة التي تحمي وتقي الكرة الأرضية ومن عليها من شر الأشعة فوق البنفسجية القاتلة الصادرة من طبقات الجو العليا، فقام مجدداً بإخراجها من دائرة الاستخدام واستبدالها بمركبات أخرى من خلال معاهدة دولية اُطلق عليها "بروتوكول مونتريال".

 

واليوم نشهد الدورة نفسها، ونتعامل مع حالة مطابقة لحالة مركبات الفريون التي لوثت الطبقات العليا من كوكبنا، وتتمثل هذه الحالة الجديدة في المواد البلاستيكية التي ملأت الآن البر، والبحر، والجو، ودخلت في كل جانب من جوانب حياتنا.

 

فنظراً للخصائص النادرة والفريدة التي يتميز بها كل مركب من المركبات البلاستيكية المتنوعة والكثيرة، فقد تم إنتاج الملايين من الأطنان منها سنوياً في كل أنحاء العالم، ودخلت هذه المنتجات بجميع أشكالها، وأحجامها، وأنواعها، صغيرة كانت أم كبيرة في معظم المجالات والتطبيقات في حياتنا اليومية، بحيث إنك نادراً ما لا ترى أي منتج تستخدمه يومياً لا يحتوي في مكوناته، أو أجزائه على هذه المواد البلاستيكية.

 

فعلى سبيل المثال، أنتجت دول العالم في عام 1950 قرابة 2 مليون طن من البلاستيك على المستوى العالمي، وارتفع هذا الإنتاج إلى 20 مليون طن متري عام 1966، ثم ارتفع مرة ثانية في عام 2018 إلى 360، وأخيراً وصل إلى 367 مليون عام 2020، ومن المتوقع أن يزيد إلى بليون طن سنوياً بحلول عام 2050، حسب البيانات المنشورة في 28 أكتوبر 2021 في مجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية: الكيمياء والهندسة المستدامة(ACS Sustainable Chemistry & Engineering)، تحت عنوان:" تقدير كمية الطاقة وانبعاث غازات الدفيئة أثناء شبكة التجارة الدولية للبلاستيك الأولي". كما أفادت الدراسة بأن صناعة البلاستيك على المستوى الدولي تُقدر قيمتها بأكثر من 522 بليون دولار، وقد تتضاعف بحلول عام 2040. كذلك أضافت هذه الدراسة بأن مجموع مع صنعه الإنسان من منتجات بلاستيكية بلغ زهاء 9.2 بليون طن، وقرابة سبعة بلايين طن من هذه المنتجات تحولت بعد الاستعمال وبعد انتهاء عمرها إلى مخلفات، فمنها ما كان مصيرها إلى مدافن المخلفات، ومنها نحو 11 مليون طن دخلت في المسطحات المائية، وبخاصة المحيطات. وعلاوة على تلوث بيئتنا بهذه المخلفات البلاستيكية الصلبة، فإن عملية صناعة البلاستيك أفسدت الهواء الجوي بالملوثات المتهمة بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض، حيث تم إطلاق قرابة 350 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون في عام 2018، وقُدِّرت كُلفة هذا التلوث للهواء الجوي والمحيطات وتداعياتها على قطاعات اقتصادية كثيرة كالسياحة، والأسماك، والغابات بنحو 6 إلى 19 بليون دولار.

 

فهذا الوضع المزمن الناجم عن التلوث البلاستيكي الشامل لكل مكونات بيئتنا، حفز وشجع العلماء منذ عقد من الزمن إلى الدعوة لمواجهة هذا الوباء الدولي الجديد الذي استشري في شرايين كوكبنا، وتغلغل في أعماق كل شبرٍ منه، في أعالي السماء، وفي الجبال الشاهقة النائية والبعيدة عن أي نشاط بشري، وفي الثلوج والمحيطات الثلجية في القطبين الشمالي والجنوبي، وفي الأعماق المظلمة والسحيقة في أبعد موقع في خنادق المحيط الهادئ وعلى عمق 10 كيلومترات تحت سطح البحر، بل وانتقل هذا التلوث البلاستيكي العقيم إلى كل عضو صغير أم كبيرة من أعضاء أجسامنا وإلى الجنين في بطن أمه. ومن أخطر المخلفات البلاستيكية تهديداً لصحة البشر هي الميكروبلاستيك، أو النانوبلاستيك، وهي المخلفات البلاستيكية المتناهية في الصغر في أحجامها، والتي تستطيع إختراق أجسامنا والدخول في الدورة الدموية، ثم إلى كل خلية من أعضاء أجسامنا.

 

فهذه الحالة العقيمة اضطرت العلماء إلى مواجهة هذا التلوث بدعوة دول العالم إلى اتخاذ الإجراءات الدولية الجماعية المشتركة للوقوف سداً منيعاً أمام المزيد من غزو هذا التلوث. فكانت آخر محاولة للعلماء في 25 فبراير 2022 عندما أصدروا بياناً جماعياً قبيل الاجتماع الخامس لجمعية الأمم المتحدة للبيئة( The U.N. Environment Assembly) الذي عُقد في العاصمة الكينية، نيروبي في الفترة من 28 فبراير إلى الثاني من مارس. وقد أعلن هؤلاء العلماء إلى الحاجة الماسة إلى معاهدة دولية شاملة تتبنى منهج الاقتصاد الدائري، وتُعنى بدورة حياة البلاستيك، أي تعالج كافة الجوانب المتعلقة بالبلاستيك، من المهد إلى اللحد، أو بعبارة أخرى من مرحلة التصميم البيئي والتصنيع لأي منتج بلاستيكي، ثم النقل والاستخدام، وأخيراً مرحلة التدوير وإعادة الاستعمال والتخلص النهائي.

 

وقد نجح العلماء هذه المرة، وبعد محاولات كثيرة، في اقناع الدول على الموافقة على مبدأ المعاهدة، حيث اتخذ الممثلون من 175 دولة القرار تحت عنوان: "أَنْهِي التلوث البلاستيكي: نحو آلية دولية ملزمة قانونياً"، وجاء فيه عدة نقاط منها إنشاء لجنة شبه حكومية لإجراء المفاوضات(Intergovernmental Negotiating Committee (INC))، ومن مهامها الإعداد لمسودة معاهدة ملزمة بحلول عام 2024، ثم تطرح للتفاوض والتوقيع عليها أخيراً من الدول الراغبة في الانضمام.   

 

ولكن السؤال الآن هو: هل سترى هذه المعاهدة النور وتنفذ بنودها في أرض الواقع؟

ففي تقديري فإن المعاهدات الدولية البيئية تحتاج أولاً إلى استحسان وموافقة الشركات الدولية المعنية، وذلك قبل موافقة ممثلي البيئة في دول العالم الذين شاركوا في اجتماع جمعية الأمم المتحدة للبيئة. فهذه الشركات العملاقة تمتلك النفوذ والقوة، وفي الكثير من الأحيان تمتلك تحريك وتوجيه القرار السياسي على المستوي القومي والإقليمي والدولي، فلا يمكن لأية معاهدة أن ترى النور وتنجح في تنفيذها إلا بعد إرضاء مصالح هذه الشركات الكبرى، والتأكد بأن أعمالهم ومكاسبهم وأرباحهم السنوية لن تتأثر بتاتاً. 

 

فالتحدي الأول الذي يقف حجر عثرة أمام لجنة صياغة المعاهدة هو كيفية صياغة بنود هذه المعاهدة بحيث إنها تتوافق مع أهواء رجال الأعمال والشركات المصنعة لكافة أنواع المنتجات البلاستيكية في كل دول العالم، فلا تتضرر أعمالهم، ولا تتوقف مصانعهم، ولا تقل أرباحهم؟

والتحدي الثاني ما هي الآلية الدولية القانونية التي تستطيع إلزام دول العالم إلى تنفيذ بنود المعاهدة إذا تمت المصادقة عليها؟ فحتى الآن لا توجد أية آلية تستطيع الفرض على أية دولة في العالم إلى تطبيق المعاهدات الدولية بشكلٍ عام، إلا إذا كانت هذه من الدول النامية، والفقيرة، والتي لا نفوذ لها من الناحيتين السياسية والاقتصادية على المسرح الدولي.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق