الخميس، 28 يوليو 2022

التغير المناخي حالة طارئة


ربما شاهد الجميع الصور المنشورة في وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي في 21 يوليو 2022، وهي صور لمتنزه "هايد بارك" المشهور عالمياً في وسط العاصمة البريطانية لندن، وقد تحول هذا المتنزه الأخضر الجميل الذي كان يشرح النفس ويسعد القلب إلى صحراء قاحلة جرداء يابسة، حيث مات الحشيش وتدهور الغطاء الأخضر نتيجة للحرارة المرتفعة وعدم سقوط الأمطار.

 

فهذا المشهد الحزين لمتنزه هايد بارك العريق لا يستطيع أحد أن ينكره أو يتجاهله فهو يعد مثالاً صارخاً مشهوداً للجميع على تداعيات الموجات المناخية المرتفعة الحرارة التي نشهدها اليوم والتي حطَّمت في شدة حرارتها الأرقام القياسية للأعوام الماضية، إضافة إلى حرائق الغابات المستعرة والمستمرة التي نراها الآن في مناطق واسعة من الكثير من الدول في كل عام. وكل هذه المشاهد ليست ناجمة عن حوادث عرضية مؤقتة، ولم تقع بمحض الصدفة، وليست من باب الدورات المناخية الطبيعية المختلفة من عامٍ إلى آخر، فهذه الكوارث المناخية المفرطة في شدتها وتكرار وقوعها والتي تنزل الآن في مناطق شاسعة من الكرة الأرضية تنجم جزئياً من برامجنا التنموية غير المتناهية منذ قرابة قرنين من الزمان، فأعمالنا وأيدينا تتحملان مسؤولية ما ينزل علينا منذ سنوات، فهذه الحالات المناخية العصيبة غير العادية وتداعيتها علينا وعلى كوكبنا هي في الحقيقة بما كسبت أيدينا ونتيجة لسياساتنا التنموية غير الرشيدة وغير المستدامة التي لم يحدث عليها أي تغيير شكلٍ جذري عبر القرنين الماضيين.

 

فانبعاثات الغازات المتهمة بسخونة الأرض وإصابتها بالحمى المزمنة، وبخاصة غاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان وغيرهما لم تتوقف منذ قرابة 200 عام، بل وزادت مع الزمن واتسعت رقعتها ودائرة انبعاثها. فمنذ أكثر من مائة عام كانت أعداد الدول المتقدمة والصناعية التي تُطلق هذه الغازات معدودة وقليلة، ولكن اليوم كل دول العالم بدأت على المستوى القومي ببرامجها التنموية والتي تنبعث منها غازات الاحتباس الحراري، مما يعني أن دائرة المشكلة توسعت كثيراً، ونتيجة لذلك فحجم الانبعاثات زاد وارتفع بدرجة كبيرة جداً، فجميع دول العالم بها سيارات وقطارات وطائرات تنبعث عنها الملوثات المناخية، وكل دول العالم تمتلك الآن محطات لتوليد الكهرباء بالفحم أو الغاز الطبيعي وتطلق ملوثات الاحتباس الحراري، وجميع دول العالم لديها مصانع تعمل بالوقود الأحفوري وتنبعث عنها الملوثات، فالقضية أصبحت اليوم جماعية ومشتركة من ناحية أسباب وقوعها ومن ناحية نزول تداعياتها على كوكبنا، ولكن مسؤولية حلها ومواجهتها تعتمد على دور كل دولة التاريخي في نشوئها وتكوينها، وتعتمد على مساهمتها خلال القرنين في وقوعها.

 

فدول العالم ومنذ قمة الأرض في ريو دي جانيرو في عام 1992 والتي وضعت حجر الأساس لمفاوضات دولية لمواجهة قضية التغير المناخي من خلال التوقيع على "الاتفاقية الإطارية حول التغير المناخي" ، أي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تسعى نحو هدف واحد هو الوصول إلى اتفاقية جماعية مشتركة وملزمة للجميع لمواجهة هذه الكارثة المناخية التي نعايشها منذ عقود، وتعتمد هذه الاتفاقية آليات دولية وأدوات للمراقبة ومُحاسبة ومعاقبة كل من يتخلف عن تعهداته لمواجهة هذه القضية الدولية وخفض انبعاثاته من الغازات المسؤولة عن وقوعها، ولكن كلما خطا المجتمع الدولي خطوة واحدة إيجابية إلى الأمام، ونحو تحقيق هذا الهدف، تراجع خطوات كبيرة إلى الوراء وإلى نقطة البداية والانطلاق.

 

وهناك عدة أسباب تقف وراء هذه الحالة الدولية المتذبذبة والمتضاربة، منها عدم استقرار الأوضاع السياسية في حكومات دول العالم، وبخاصة في أكبر دولة عظمى مسؤولة عن وقوع المشكلة وتتحمل العبء الأكبر لعلاجها ومكافحتها، وهي الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، وافقت دول العالم في الاجتماع الثالث الذي عقد في مدينة كيوتو اليابانية في عام 1997 على "بروتوكول كيوتو" للتغير المناخي. ولكن هذا البروتوكول لم يحقق الهدف الكلي المنشود، فقد جاء ناقصاً وغير شامل، حيث ألزم البروتوكول فقط الدول الصناعية المتقدمة الكبرى على وضع سقفٍ لانبعاثاتها من الغازات المتهمة بوقوع التغير المناخي، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، واستثنى البروتوكول الدول النامية غير المتقدمة من وضع حدودٍ تتعهد بها لخفض انبعاثاتها. ومن جانب آخر أيضاً، فإن الهدف الرئيس لم يتحقق أيضاً في أن البروتوكول فشل في وضع آلية أممية تراقب وتحاسب وتعاقب أية دولة لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها التي قطعتها على نفسها لخفض انبعاث الملوثات المناخية. كما أن هذا البروتوكول في نهاية المطاف لم ير النور، ولم ينفذ في الواقع الميداني، وبخاصة بعد انسحاب أكبر دولة مسؤولة عن حدوث التغير المناخي وهي الولايات المتحدة الأمريكية، فعندما وقع الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق بل كلينتون على البروتوكول جاء جورج بوش الابن الجمهوري ورفض التصديق عليه، فانتهى البروتوكول وانتقل إلى مثواه الأخير. وبعد سنوات عجاف من المفاوضات الدولية، توصل العالم إلى تفاهمات باريس لعام 2015 ووقع عليها الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق أوباما، ثم تولى الجمهوري ترمب مقاليد الحكم فانسحب من الاتفاقية، وأرجع العالم إلى الوراء مرة ثانية بالنسبة للجهود الدولية لخفض حرارة الأرض.

 

كذلك حالة عدم الاستقرار الأمني في بعض مناطق العالم خلقت ظروفاً خاصة عرقلت وجمدت كل المساعي الدولية للتصدي للتغير المناخي، ووجهت كل أنظار وجهود العالم نحو حل هذه المشكلة الأمنية الطارئة، حتى ولو كان على حساب التغير المناخي. فالغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 والمقاطعة النفطية الغربية للبترول الروسي، اضطر الرئيس الأمريكي بايدن إلى التدخل لوضع حدٍ لأزمة الطاقة الحادة المشتعلة في الدول المقاطعة، فأمر في 31 مارس 2022 بسحب مليون برميل يومياً ولمدة ستة أشهر من النفط الخام من المخزون الاستراتيجي الأمريكي الطارئ(Strategic Petroleum Reserve)، أي بإجمالي 180 مليون برميل. وفي الوقت نفسه حث الرئيس الأمريكي شركات النفط الأمريكية العاملة في الأراضي الاتحادية على زيادة استخراج وإنتاج البترول الخام، كما دعا الدول الصديقة والحليفة إلى ضخ ما يتراوح بين 30 إلى 50 مليون برميل. فهذا القرار الأمريكي بضخ البترول والفحم في الولايات المتحدة والدول الغربية عامة يعني حرق المزيد من الوقود الحفري الذي يتحمل المسؤولية العظمى في انبعاث غازات الدفيئة التي تسبب التغير المناخي وترفع من درجة حرارة كوكبنا، كما يعني تجميد القرار الدولي حول التخلص التدريجي من استخدام الوقود الأحفوري وخفض الاستثمار في مصادر الطاقة البديلة والمتجددة غير الملوثة للبيئة.

 

وبالرغم من هذا الوضع غير المشجع بالنسبة لمكافحة لتداعيات التغير المناخي، إلا أن الوضع السياسي الحالي في الولايات المتحدة الأمريكي ووجود رئيس ديمقراطي يؤمن بأن التغير المناخي واقعي ويهدد الأمن والسلم الدوليين، إضافة إلى التداعيات الكثيرة الأخرى، يُطمئنني قليلاً في الأقل خلال السنتين القادمتين من حكم بايدن. فبايدن منذ حملته الانتخابية للرئاسة وهو يقدم برنامجاً طموحاً لخفض الانبعاثات بنسبة 50% من مستويات عام 2005 بحلول عام 2030، إضافة إلى تحقيق الانبعاث الصفري من محطات توليد الكهرباء العاملة بالفحم بحلول عام 2035. كما أنه أعلن في العشرين من يوليو 2022 عن سلسلة من الأوامر التنفيذية تصب في مكافحة التغير المناخي، حيث أعلن بأن التغير المناخي "حالة طارئة"، ويشكل حَرْفياً تهديداً وجودياً لأمتنا وللعالم قائلاً:" "بصفتي رئيساً لدي مسؤوليات للتنفيذ والتصرف بشكلٍ عاجل وإيجاد الحلول عندما تواجه أمتنا خطراً واضحاً وقائماً، وهذا هو التغير المناخي...فهو خطر قائم وواضح"، كما وصف الموجات الحرارية الناجمة عن التغير المناخي بأنها "حالة طارئة".

 

فكل هذه النوايا الحسنة والوعود المتكررة تواجه في الواقع الميداني صعوبات وعوائق سياسية وقانونية داخلية، منها عدم موافقة الكونجرس على كل توجهات وبرامج الرئيس في مجال التغير المناخي، ومنها قرار المحكمة العليا في الثلاثين من يونيو 2022 الذي قيَّد صلاحيات وكالة حماية البيئة الأمريكية في تنظيم الانبعاثات، وبالتحديد بالنسبة لثاني أكسيد الكربون من محطات توليد الكهرباء التي تعتبر ثاني أكبر مصدر لهذا الغاز المسؤول عن التغير المناخي للأرض، كما أن هذا القرار حدَّ من قدرة وسلطات وكالة حماية البيئة على وضع المواصفات الخاصة بخفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون من مصانع إنتاج الطاقة على مستوى أمريكا.

 

فهذا هو حالنا منذ ثلاثة عقود طويلة بالنسبة لقضية العصر، قضية التغير المناخي، فتشخيص القضية معروف، والعلاج معروف أيضاً، والدواء تم وصفه من قبل المختصين والخبراء، ولكن المشكلة العقيمة تكمن في التنفيذ على كافة المستويات الدولية والقومية.

الاثنين، 25 يوليو 2022

الشعب الأمريكي فئران التجارب

في 11 يونيو 2022، قدَّم كريستوفر كولر(Christopher Koller)، رئيس مؤسسة مالية عريقة موجودة في مدينة نيويورك الأمريكية منذ عام 1905 تحت اسم (Milbank Memorial Fund)، اعتذاراً خالصاً عبَّر فيه عن أسفه الشديد لممارسة شنيعة قامت بها هذه المؤسسة في الفترة من 1932 إلى 1972. وهذا الاعتذار أُعلن في حفلٍ خاص أُقيم في مدينة تسكيجي(Tuskegee) في مقاطعة ماكون(Macon County) بولاية ألباما الجنوبية المشهورة تاريخياً بعنصريتها وتمييزها البغيض ضد السود، حيث قال رئيس هذه المؤسسة المعروفة: "لقد كان خطأً. نحن جميعاً نخجل من دَوْرِنَا. نحن نتأسف بشدة".

 

وفي المقابل هناك اعتذار آخر حول هذه الممارسة اللاإنسانية، ولكن هذه المرة كان من أعلى سلطة سياسية تنفيذية في الحكومة الأمريكية، وبالتحديد من الرئيس الأسبق بيل كلينتون في 16 مايو عام 1997، حيث اعتذر نيابة عن الحكومة الأمريكية الاتحادية لهذا الفعل الشنيع قائلاً: "ما تم فِعله لا يمكن تغييره، ولكننا سنُنهي الصمت....ما فعلته حكومة الولايات المتحدة كان مُخجلاً، وأنا أُعبر عن أسفي".

 

فماذا حدث في تلك الحقبة الزمنية التي استمرت أربعين عاماً لكي يستحق هذه الاعتذارات المتكررة والشعور بالأسف والندم من عدة جهات سياسية ومالية كبيرة، وحتى يومنا هذا؟

 

وفي الحقيقة فإن هذا العمل اللاأخلاقي كاد أن يستمر أكثر من أربعة عقود لولا أن أحد الشرفاء من الشعب الأمريكي أطلق صفارة الإنذار، وكشف عن هذه الفضيحة النكراء من خلال تسريب المعلومات لوسائل الإعلام الأمريكية، حيث قامت أسوشيتد برس(Associated Press) بنشر مقالٍ في صحيفة النيويورك تايمس في 25 يوليو 1972 تحت عنوان: "ضحايا السفلس في دراسة الولايات المتحدة لم يُعَالجُوا لمدة 40 عاماً". فهذا المقال شكل المنعطف الرئيس في توقف الأعمال البحثية التجريبية السرية التي كانت تقوم بها حكومة الولايات المتحدة، ممثلة في "خدمات الصحة العامة" (US Public Health Service) وبدعمٍ من هذه المؤسسة المالية العائلية العريقة، كما أدى هذا المقال الصحفي إلى إغلاق ملف التجربة العملية الميدانية وتوقفها كلياً، ولكن في الوقت نفسه فَتَحَ ملفات كثيرة لن تُغلق أبداً، منها ملف أخلاقيات التجارب العلمية، وملف العنصرية وعدم المساواة بين الشعب الأمريكي، وملف ظلم السود واستصغارهم واعتبارهم مختلفين عن البيض في أعضاء أجسادهم، وملف فساد بعض قادة الحكومة الأمريكية وتغليبهم البحث العلمي على إنسانية البشر واستغلالهم كفئران التجارب في المختبرات الطبية، ومنها أيضاً التداعيات النفسية لهذه التجارب على أسر الضحايا والشعوب بشكلٍ عام في أمريكا وخارجها والمستمرة حتى كتابة هذه السطور.

 

ففي مطلع عام 1900 انتشر مرض السفلس الجنسي(الزهري) بين الشعب الأمريكي، وكان الأطباء يريدون التعرف عن كثب على عدة جوانب متعلقة بالمرض، منها أعراض هذا المرض منذ الإصابة به حتى آخر نفسٍ من حياة المريض، وما هي التغييرات العضوية الظاهرية وغير الظاهرية التي تحدث عليه في جميع مراحل المرض، ولذلك كان لا بد من تشريح المريض بعد موته حتى يتعرفوا على نوعية وحجم الضرر الذي يصيب أعضاء الجسم في الداخل، كما أن البعض من الأطباء من الجنس الأبيض كان يؤمن بأن السود مختلفين عن البيض من حيث الأعضاء الجسدية والعقلية، مما يعني بأن تجاوبهم وردة فعل أعضاء أجسامهم مع المرض من الممكن أن تكون مختلفة. ومن أجل تحقيق كل هذه الأهداف غير المعلنة، والإجابة عن هذه الأسئلة، استغلوا السود من الفقراء والمستضعفين والأميين لتضليلهم واستخدامهم كفئران التجارب، حيث قاموا بإقناع نحو 620 من هؤلاء المعدومين المصابين وغير المصابين بالمرض، وأغروهم بعدة أمور بسيطة، ولكنها كانت تُعتبر بالنسبة لهؤلاء الشديدي الفقر والحاجة، مشجعه ومغرية جداً، منها المواصلات والوجبات والرعاية الصحية المجانية، ثم الدفن المجاني، على أن يوافقوا على تشريح جثثهم بعد الموت، ولكن دون علمهم بالمآرب الحقيقية لهذه التجربة، ودون علمهم بإصابتهم بالسفلس، كما أنهم كذبوا عليهم بأن هذا البرنامج الصحي الذي سيسجلون فيه سيستغرق فقط ستة أشهر، في حين أنه استمر أربعة عقود.

 

وعلاوة على ذلك كله، فقد ارتكبت الحكومة الأمريكية والأطباء المشرفين والممولين للتجربة جريمة أخلاقية لا تغتفر، حيث تركوا مرضى السفلس متعمدين وهم يعانون أمام أعينهم وتحت مسامعهم من شدة آلام المرض دون علاج، ومَنعُوا عنهم الدواء الذي قد يشفيهم من المرض، مما يعني بأن المريض طوال سنوات حياته، وطوال مراحل مرضه رفضوا أن يعالجهم أحد، أو أن يُقدم لهم الدواء، حتى يتمكنوا من ملاحظة ومشاهدة وتدوين أعراض هذا المرض حتى آخر رمقٍ من حياته، وحتى يقضي نحبه، فقد كان المريض يموت أمامهم موتة بطيئة، ومؤلمة، وهو يتجرع كأس العذاب يوماً بعد يوم، علماً بأن المضاد الحيوي المعروف، البنسلين(penicillin) تم استخدامه في كل أنحاء العالم منذ عام 1943 لمعالجة هذا المرض، ولكن بالرغم من توافره إلا أن هؤلاء السفاحين من الأطباء استمروا في جريمتهم، ومنعوا المرضى من هذا المضاد الشافي، فقد كانوا دائماً يحتالون على المرضى، ويكذبون على أسرهم ويقولن لهم بأنهم يعانون من مشكلة الدم الفاسد( bad blood)، فارتكبت أيديهم طوال هذه السنوات الطويلة العجاف إبادة جماعية بطيئة لمجتمع السود من المهمشين وذوي الحاجة، ممن لا علم لهم، ولا نفوذ، ولا ثقافة، ولا جهة تحميهم وتدافع عن حقوقهم وعن الجريمة التي ارتكبت في حقهم.

 

وهذه الدراسة الطبية أُجريت رسمياً تحت عنوان: "دراسة تسكجي من ذكور النيجرو الذين لم يتلقوا العلاج من السفلس"( Tuskegee study of untreated syphilis in the Negro male)، ولكن الاسم الذي اشتهرت بها الدراسة هو "تجربة تسكجي"، أو "دراسة تسكجي للسفلس"، وكان مسرح هذه الجريمة "مستشفى أندرو"(John A. Andrew Memorial Hospital) الواقع في "معهد تسكجي"، أو "جامعة تسكجي حالياً"، حيث يقوم "صندوق ميل بانك" الآن الذي لعب دوراً في تمويل الجريمة، بتخليد ذكرى ضحايا هذه التجربة من البشر بعمل نصب تذكاري في جامعة تسكجي، إضافة إلى تخصيص مبلغ مالي لأسر الضحايا.

 

ومن هذه التجربة المؤلمة نؤكد بأن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لا تستغل فقط بعض فئات الشعب الأمريكي المستضعفة في الأرض كفئران التجارب، وإنما الشعوب الأخرى على حدٍ سواء، كما حدث في جمهورية جواتيمالا(Guatemala) في أمريكا الجنوبية عندما قام أطباء أمريكا وفي سرية تامة في مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم بحقن 1500 من الأطفال الأيتام، والسجناء، والجنود، والمرضى المتخلفين عقلياً، بحقنٍ ملوثةٍ بجراثيم تُصيب الإنسان بالأمراض التناسلية، وبالتحديد مرض الزهري، كما استخدموا في ذلك أبشع الوسائل والسبل لتحقيق أهدافهم، مثل استخدام العاهرات المصابات بالمرض، أو الحَقْنْ الجبري وبالقوة في النخاع الشوكي، أو رش الجراثيم على وجوه وأعضاء هؤلاء الأفراد بشكلٍ مباشر لإصابتهم بالمرض، ثم دراسة الأعراض المرضية التي تنكشف عليهم، وبعد ذلك حقنهم بالبنسلين الذي ظهر في تلك الفترة لمعرفة مدى فاعليته في علاج ومنع هذا المرض الجنسي. وبعد أن فُضح أمرهم، اضطرت الإدارة الأمريكية ممثلة في وزيرة الخارجية ووزيرة الصحة إلى إصدار اعتذار عن وقوع هذه الجريمة البشعة في أكتوبر 2010 ، كما اتصل أوباما نفسه برئيس جواتيمالا ألافرو كولم كاباليروس(Alvaro Colom Caballeros) ليعتذر عن العمل المشين الذي قامت به الأجهزة الصحية الأمريكية الاتحادية، وليُعبر عن أسفه الشديد لشعب جواتيمالا وكافة المتضررين من التجارب المفزعة والقاتلة التي أُجريت عليهم، ووصفها بأنها "جريمة ضد الإنسانية"(لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى مقالي في أخبار الخليج في 17 يونيو 2011 تحت عنوان "إنها تجارب أمريكا الشيطانية"). 

 

فهذه التجارب والسلوكيات لا تمثل فقط فترة زمنية مظلمة من تاريخ أمريكا الأسود الذي عفا عليه الدهر، وإنما هذه سياسة أمريكية متجذرة في أعماقها وفي الكثير من مؤسساتها الحكومية وغير الحكومية، وهذه ممارسات بشعة لا تتخلى عنها، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة.

الأربعاء، 20 يوليو 2022

قرارات أمريكية داخلية تؤثر علينا

كيف يمكن لقرار تتخذه الولايات المتحدة على مستوى البيت الأبيض، أو الكونجرس، أو المحكمة الاتحادية العليا، أي يؤثر علي كشخص بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، أو يؤثر علينا كدول على المستوى القومي، أو الإقليمي، أو الدولي؟

 

فهناك الكثير من الأمثلة والوقائع التي يمكن تقديمها لإثبات أن قرارات أمريكا الداخلية، أو بعض قرارات الدول العظمى المتقدمة تنعكس على كل دول العالم بدون استثناء، ولها تداعيات إيجابية أو سلبية على كل سكان هذا الكوكب اعتماداً على نوعية القرار أو السياسة التي تنتهجها، وبخاصة في مجال القضايا البيئية العابرة للحدود الجغرافية للدول والمؤثرة على كل شبرٍ من كوكبنا، سواء المتعلقة بالمسطحات المائية المشتركة بين عدة دول، أو الهواء والغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية والذي نشترك فيه جميعاً.

 

فقضية التغير المناخي وإصابة الأرض بالسخونة والحمى المزمنة كانت بسبب تلوث الهواء الجوي من العديد من الملوثات مثل غاز ثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، وأكسيد النيتروز، ومن أخطرها وأكثرها انبعاثاً وشيوعاً منذ أكثر من مائة عام هو ثاني أكسيد الكربون الذي له مصادر لا تُعد ولا تحصى، وينطلق من احتراق أي نوعٍ من أنواع الوقود الأحفوري في السيارات، والطائرات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع.

 

وتأثير هذا الغاز مجموعي وتراكمي، ويظهر مع الوقت، لأنه غاز مستقر وثابت فترة طويلة من الزمن بعد انتقاله إلى الهواء الجوي، حيث يرتفع تدريجياً إلى طبقات الجو العليا ويشكل غطاءً ومظلة لا تسمح بالموجات الحرارية المنعكسة من الأرض من الانتقال إلى طبقات الجو العليا، فيحبسها في الطبقات السفلى، ويؤدي مع الوقت إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض، وحدوث التغير المناخي على مستوى كوكب الأرض، كما هو الواقع الآن، إذ ارتفعت حرارة الأرض نحو درجة ونصف الدرجة المئوية أعلى من مستويات ما قبل الثورة الصناعية. ولذلك الدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تحرق الوقود منذ قرابة قرنين من الزمان، وتتحمل المسؤولية الكبرى لوقوع التغير المناخي، فإن أية سياسة تتبناها، وأي قرار تتخذه له مردوداته على كل إنسان يعيش على سطح الأرض، وعلى سلامة كوكبنا وأمنه الصحي. فإذا كان القرار إيجابياً ويصب في مصلحة خفض انبعاث الغازات المتهمة برفع حرارة الأرض، فإن هذا القرار يستفيد منه الجميع، وينعكس إيجاباً على صحة الأرض وصحة البشر والشجر والحجر، وفي الوقت نفسه إذا كان القرار لا يؤدي إلى خفض الانبعاث فإن الجميع سيكون في خطر وتهديد دائم من تأثيرات هذا التغير المناخي وتداعياته الكثيرة، البيئية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، والصحية.

 

فالقرار الذي اتخذته المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في الثلاثين من يونيو 2022 في قضية ولاية وست فيرجينيا ضد وكالة حماية البيئة لا يصب في المصلحة العليا للبيئة وبالتالي يضر كل كائن حي يعيش على سطح الأرض، أينما كان في المدن أو في القرى. فهذا القرار يقيد من صلاحيات وكالة حماية البيئة الأمريكية في تنظيم الانبعاثات، وبالتحديد بالنسبة لثاني أكسيد الكربون من محطات توليد الكهرباء التي تعتبر ثاني أكبر مصدر لهذا الغاز المسؤول عن التغير المناخي للأرض، كما أن هذا القرار يحد من قدرة وسلطات وكالة حماية البيئة على وضع المواصفات الخاصة بخفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون من مصانع إنتاج الطاقة على مستوى أمريكا.

 

فهذا القرار إذن لا يشجع المحطات التي تولد الكهرباء بالفحم الذي يُعد أكبر وأشد مصدرٍ للتلوث بالنسبة لثاني أكسيد الكربون وغيره من الملوثات من الانتقال سريعاً إلى مصادر الطاقة البديلة المتجددة والنظيفة كالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة النووية، كما أن هذا القرار لا يحفز هذه المحطات إلى خفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون، مما يعني أن انبعاثات أكبر دولة في العالم ستستمر كما هي عليها الآن، وستتواصل في تدمير هوائنا، وإفساد بيئتنا، ورفع درجة حرارة كوكبنا في كل بقعة صغيرة أو كبيرة يعيش عليها الإنسان، سواء في البحرين ودول الخليج، أو في أدغال الأمازون، أو في الغابات الاستوائية في دول آسيا، أو في الدول الأفريقية. وفي الوقت نفسه فإن هذا القرار سيُعيد الإدمان على استخدام الفحم من جديد وسيطيل في عمره التشغيلي، كما سيرفع من نسبة الاستثمار في هذا النوع من الوقود الشديد التلوث للبيئة، فيُرجع العالم إلى الوراء عشرات السنين بعد أن اتخذ قرارات دولية مشتركة مهمة، منها قرار اجتماع جلاسجو للتغير المناخي في نوفمبر 2021 الذي وافق فيه المجتمعون على التخلص التدريجي مع الوقت للفحم، وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى.

 

كذلك فإن هذا القرار يُعقِّد ويبطئ من وفاء الولايات المتحدة بتعهداتها والتزاماتها أمام المجتمع الدولي في خفض انبعاثاتها إلى النصف، وبلوغ الانبعاث الصفري بحلول عام 2035، حسب وعود بايدن وخطته حول التغير المناخي. ومن جانب آخر فإن هذا القرار سيؤثر على مصداقية الولايات المتحدة في تنفيذ التزاماتها الخاصة بالتغير المناخي، وسيزعزع من ثقة دول العالم بأمريكا، وخاصة أنها دولة نكثت عدة مرات بوعودها في خفض الانبعاث، بل وإنها اتخذت إجراءات خطيرة جداً وهي أنها انسحبت من معاهدات دولية حول التغير المناخي بعد أن وقعت عليها، منها بروتوكول كيوتو لعام 1997 في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، إضافة إلى معاهدة باريس لعام 2015 والتي انسحب منها ترمب بشكلٍ رسمي.

 

فالولايات المتحدة الأمريكية تعتبر تاريخياً هي المسؤول الأول عن وقوع ظاهرة التغير المناخي، فهي بذلك أخلاقياً مسؤولة عن خفض انبعاثاتها إلى مستويات منخفضة وفاعلة. وهناك العديد من الدراسات التي صدرت في أمريكا نفسها، ومنها الدراسة التاريخية الشاملة التي نشرتها منظمة(Carbon Brief) في الخامس من أكتوبر 2021 تحت عنوان: "المسؤولية التاريخية للتغير المناخي يقع في قلب الحوار حول العدالة المناخية". وهذه الدراسة تُوجه أصابع الاتهام نحو الدول المسؤولة في إحداث ظاهرة التغير المناخي على المستوى الدولي منذ قيام الثورة الصناعية الأولى، أي منذ عام 1850 حتى يومنا هذا، وبالتحديد عام 2021، حيث قدَّمت تحليلاً تاريخياً لمصادر وحجم انبعاثات كل دولة من دول العالم، مثل حرق الوقود الأحفوري في محطات توليد الكهرباء، والسيارات، والمصانع، وعلى رأسها مصانع إنتاج الأسمنت، ثم التغير في استخدامات الأرض من حيث قطع الأخشاب، وإزالة الغابات لزراعة المحاصيل وإنتاج الوقود الحيوي. وكانت نتيجة هذا التقييم أن دول العالم أجمع أطلقت زهاء 2504 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي منذ 1850، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي المتهمة الأولى في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، حيث بلغ حجم الغاز المنطلق على مدى أكثر من مائتي عام قرابة 509 جيجا طن، أي أن أمريكا تتحمل نسبة 20.3% من مجموع الانبعاثات الكلية على مستوى الكرة الأرضية، وهي بهذه النسبة رفعت وحدها درجة حرارة الأرض 0.2 درجة مئوية ووضعت كوكبنا والناس أجمعين والكائنات الحية الأخرى في وضع حرجٍ جداً.

 

فقرار المحكمة الاتحادية العليا سيزيد الطين بله من المواقف الأمريكية غير المستقرة، ومن السياسات غير الثابتة، كما سيعرقل جهود الحكومة الأمريكية الحالية في القيام بدورها وواجباتها تجاه سكان العالم من خلال تحمل مسؤولية خفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون المسبب لحمى الأرض، فالذي يدفع الثمن من عدم التزام أمريكا هو الإنسان أولاً وسائر الأحياء الأخرى، ثم الكرة الأرضية برمتها.

 

 

الخميس، 14 يوليو 2022

ماذا يقول العلم عن سبب انتشار جدري القرود؟


قال مدير عام منظمة الصحة العالمية في الأول من يونيو 2022 في مؤتمر صحفي حول أسباب تفشي مرض جدري القردة في بعض دول العالم بأن: "معظم الحالات التي تم رصدها كانت عند الرجال الذين مارسوا الجنس مع الرجال". ولا شك بأن تصريح مدير عام هذه المنظمة الأممية التي تعتبر الغطاء الصحي لدول العالم أجمع لم يأت من فراغ، ولم يستند إلى انطباعات عامة غير ثابتة، وإنما جاء نتيجة أدلة مخبرية دامغة، وحالات مَرَضية مشهودة بين مجتمع الشاذين جنسياً، ووقائع ملموسة على المستوى الدولي وقعت بين المنحرفين جنسياً، وبخاصة في دول قارة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

فهذا المرض الفيروسي النادر والغريب تم اكتشافه في عام 1958، وسُجلت أول حالة مرضية أكيدة مصابة بفيروس جدري القردة في جمهورية الكونجو الديمقراطية في عام 1970، ومنذ تلك الفترة الزمنية كانت الحالات القليلة التي تُكتشف كلها في القارة الأفريقية، وبالتحديد في دول غرب ووسط أفريقيا، مما يؤكد بأن هذا المرض "مستوطن" في هذه الدول في أفريقيا في غاباتها الاستوائية، حيث مصدر الفيروس من الحيوانات، ولا علاقة له بشكلٍ مباشر خارج حدود هذه الدول.

وعلاوة على ذلك فإن طرق انتقال هذا الفيروس المعدي إلى الإنسان يكون عادة من الحيوان المصاب، أو من إنسان آخر يحمل هذا الفيروس فيُعدي البشر إذا توافرت ظروف العدوى، ومن أهم طرق انتقال الفيروس وأكثرها فاعلية في العدوى من إنسان إلى آخر هي الاتصال الجنسي الجسدي المباشر بين شخص مصاب وآخر غير مصاب، أو استعمال أدوات المعدي الشخصية كالسرير والمناشف واللباس وغيرها، فهذا الفيروس ينتقل إلى جسم الإنسان غير المصاب عبر التلاصق الجلدي، وعن طريق سوائل الفم والأنف والجسم بشكلٍ عام.

ومنذ أن خرج الفيروس مجدداً إلى عالم البشر، وبالتحديد في الدول التي لا يستوطن فيها الفيروس، ولا تُعرف بتفشي هذا المرض فيها على نطاق واسع، ودراسات الحالات الجديدة لا تنتهي من أجل كشف مصادر المرض، وأسباب العدوى، وتحويرات الفيروس، كما أن منظمة الصحة العالمية والمراكز الأمريكية للتحكم ومنع المرض تنشر تقارير دورية حول آخر المستجدات. فمن أول هذه التقارير للمنظمة كان في 29 مايو 2022، حيث أفاد بأنه منذ 13 مايو تم تسجيل المرض في 23 دولة لم تُعرف من قبل بانتشار هذا المرض، كما أضاف التقرير بأن: "الدراسات الوبائية الأولية حول الحالات الأولى تفيد بأنها سُجلت بشكل رئيس بين الرجال الذين مارسوا الجنس مع الرجال". أما بالنسبة لعدد الحالات، فقد أفادت تقارير لاحقة للمنظمة بأنه مع نهاية يونيو سُجلت أكثر من 4100 حالة معظمها بين الرجال في أمريكا والشرق الأوسط وآسيا وأستراليا. وفي الجانب العددي للإصابة بمرض جدري القردة، فقد ذكرتْ النشرة الصادرة من المراكز الأمريكية للتحكم ومنع المرض  في 21 مايو تحت عنوان "أخبار انتشار المرض"( Disease Outbreak News)، بأنه حتى 26 مايو سُجلت 257 حالة أكيدة، و 120 حالة محتملة، ومعظم هذه الحالات المؤكدة كانت في كندا(26)، وأمريكا(10)، وبلجيكا(3)، وألمانيا(5)، وهولندا(12)، وإيطاليا(4)، وفرنسا(7)، والبرتغال(49)، وبريطانيا(106). ويمكن مقارنة هذه مع  المعلومات أيضاً التي تنشرها "مراكز التحكم ومنع المرض" في أمريكا تحت عنوان: "الخارطة الدولية وعد الحالات 2022"(2022 Global Map & Case Count)، حيث كان حتى 28 يونيو العدد 4769 في 52 دولة، منها بريطانيا(1076)، ألمانيا(838)، فرنسا(330)، إسبانيا(800)، أمريكا(305)، كندا(257)، بلجيكا(77)، والبرتغال(373).

وبعد ذلك نَشرتْ المجلة الأوروبية حول الأمراض المعدية وعلم الأوبئة ومنع والتحكم في المرض(Eurosurveillance) في الثاني من يونيو 2022، دراسة لبعض الحالات المرضية القائمة في إيطاليا، تحت عنوان: "خواص أربع حالات لجدري القردة نتيجة للاتصال الجنسي، مايو 2022، إيطاليا". فهذه الدراسة تابعت أربع حالات لجدري القردة من 17 إلى 22 مايو، وأكدت الدراسة أن جميع هذه الحالات الأربع كانت لرجال مارسوا الجنس مع رجال آخرين، وخلصت على أن "انتقال المرض من إنسان إلى آخر في هذه الحالات كانت بسبب الاتصال الجنسي الجسدي المباشر".

ثم جاءت الدراسة على الحالات المرضية في المملكة المتحدة، والتي قامت بها "وكالة الأمن الصحي"( UK Health Security Agency)، تحت عنوان: "مستويات تفشي المرض في إنجلترا"، من 6 مايو حتى 6 يونيو، حيث شملت 336 حالة موثقة معظمهم في لندن. كما أن الدراسة استخدمت أيضاً أداة الاستبانة للتعرف أكثر على تفاصيل هذه الحالات، حيث شارك فيها 152 من المرضى المصابين. وكانت النتيجة أن 151 من الذين شاركوا في المقابلة الشخصية من بين 152، كانوا جميعهم من الشاذين جنسياً والذين مارسوا الجنس مع ذكور آخرين، ولذلك أكدت الدراسة أن تفشي المرض كان بسبب شبكة الممارسات الجنسية بين الرجال، وبين هذا الوسط المنحرف جنسياً والشاذ عن باقي المجتمع.

وعلاوة على هذه الاستنتاجات الواضحة من الدراسات الطبية الميدانية، فقد نشرت مجلة "العلوم" المرموقة مقالاً في 22 يونيو 2022 تحت عنوان: "لماذا يؤثر مرض جدري القردة على الرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال؟"، حيث أجاب المقال عن هذا السؤال، وأكد على أن هذه السلوكيات المنحرفة، وهذه الممارسات الشاذة هي ليست سبب تفشي مرض جدري القردة فحسب، وإنما هناك أمراضاً أخرى جنسية انتشرت في المجتمعات الغربية بداية ثم انتقلت عبر دول العالم، وكلها كانت تنبع من بؤرة واحدة هي شبكات الانحراف الجنسي الدولية بين الرجال والنساء، ومثل هذه الأمراض الإيدز والسيلان.

كذلك نُشرت دراسة في 13 يونيو في (medRxiv) تحت عنوان: "الشبكة الجنسية وانتشار مرض جدري القردة في المناطق المستوطنة، مايو 2022"، حيث توصل الباحثون بعد استخدام النماذج الصحية إلى استنتاج بأنه: "بدون التدخل الفاعل، أو تغيير السلوكيات، فإن هناك احتمال الانتشار للمرض لأكثر من عشرة آلاف حالة على المستوى الدولي بين الذين يمارسون الجنس بين الرجال".

كما نشرت صحيفة النيويورك تايمس تحقيقاً حول هذا المرض المعدي في 27 يونيو 2022 تحت عنوان: "أمريكا ستعاني قريباً من مرض جنسي معدي آخر"، حيث حذر التحقيق على أن "العدوى حالياً متركزة بين المنحرفين جنسياً من الرجال، وهذه العلاقات الجنسية بين الكثير من الرجال قد تسهم في تفاقم انتشار جدري القردة بين باقي أفراد هذا المجتمع".

وبالرغم من وضوح الأدلة وإجماعها حول دور الانحراف الجنسي والشواذ جنسياً في تفشي المرض، إلا أن منظمة الصحة العالمية ووزارات الصحة والمنظمات المعنية حول العالم مازالت تتبنى سياسة العلاج من المرض بتقديم الدواء واللقاح بعد الإصابة به، وليس السياسة الصحية المعروفة وهي الوقاية والمنع من المرض بدلاً من العلاج من خلال تتبع أسبابه ومصدره واجتثاثه من جذوره، ألا وهي محاربة هذه المجموعات المنحرفة الرجعية جنسياً، والوقوف ضد السلوكيات الجنسية الشاذة، ومنعها بقرارات وتشريعات واضحة في كل دول العالم.

وإذا لم نفعل ذلك فالأمراض والأوبئة الجديدة التي لم تكن موجودة في من قبلنا سنسقط فيها، ونعاني من ويلاتها.