الأحد، 3 يوليو 2022

البحرين خسرت نظاماً بيئياً فريداً

عندما كُنَّا صغاراً في نهاية الستينيات من القرن المنصرم، كانت لنا رحلات شبه أسبوعية إلى عين عذاري خاصة، حيث الأقرب من منزلي في الحورة، وبخاصة في فصل الصيف الطويل والمجهد، وعند نزول الحر والقيظ الشديد والرطوبة العالية الخانقة. وكانت هذه الرحلات هي المتنفس الوحيد لنا لقضاء أوقات ممتعة ومسلية مع الأهل والأصدقاء وجيران الحي، وكانت هي المنفذ الوحيد إلى الجو النظيف الجميل، والهواء الصافي النقي والعليل، والمياه الباردة العذبة الطبيعية.

 

وكانت هذه "الكَشْتات" والزيارات ليست لعين عذاري في حد ذاتها، وإنما لمنظومة بيئية عريقة في الزمن ولها جذورها العميقة الأصيلة في تاريخ البحرين، وتُعد رمزاً شامخاً من رموز التراث الطبيعي الفطري لمملكة البحرين، كما هي في الوقت نفسه منظومة بيئية فريدة من نوعها، فهي منظومة متكاملة ومترابطة من العلاقات بين عناصر ومكونات هذه المنظومة الحية وغير الحية، من ناحية التفاعل الموزون وبِقدر بين هذه العيون المنتشرة في البحرين براً وبحراً وبين الأحياء النباتية من غابات النخيل الكثيفة الباسقة التي تطال عنان السماء، والحيوانات البرمائية وغير البرمائية التي تسبح في أنهار العيون الجارية على الأرض، إضافة إلى الطيور المستوطنة المقيمة والمهاجرة التي تعيش تحت ظلها، وفي أكنافها آمنة مطمئنة منذ قرونٍ طويلة، وكانت هذه المنظومة البيئية ثرية وغنية بالتنوع الحيوي النباتي والحيواني، وفريدة من نوعها على المستويين القومي والدولي.

 

والآن عندما أرجع بالذاكرة إلى الوراء، إلى تلك الأيام والساعات الحلوة الجميلة التي نُقشت في صدري خالدة مخلدة لا أنساها، وإلى الأوقات المريحة السعيدة التي حُفرت في قلبي والتي كُنت أقضيها مع الأهل والأصحاب في ظل هذه البيئات الخضراء البكر، والغابات الغناء، والعيون الغزيرة الفرات النابعة من تحت الأرض، فعندما أتذكر هذه الأيام، يشدني ألم عميق، وحزن كبير، والدموع تذرف من عيني، وأتحسر بحرقة شديدة على ما فقده شعب البحرين من هذه البساتين والأحياء والعيون والغابات المترامية الأطراف في مواقع كثيرة من البلاد، وأتحسر أكثر عندما أعلم عن يقين بأن كل هذه البيئات الحية الجميلة ذهبت إلى الأبد وبدون رجعة، كما ذهبت وانقرضت معها الكثير من الكائنات الحية مثل سلحفاة المياه العذبة والضفادع وغيرهما. فقد استبدلنا الحياة بالموت، واستبدلنا هذه الغابات الحية التي تحيي القلب والنفس بالكتل الخرسانية الصماء التي تجعل القلب والروح أشد قسوة وصلابة، واستبدلنا غابات النخيل التي كانت تزين السماء والأرض وتجمل نفوسنا، بالأعمدة الحديدية الصماء والجوفاء من أي حياة أو روحانيات، واستبدلنا أصوات الطيور المغردة التي تبهج القلب وترطب الروح بالأصوات المزعجة المنفرة التي تكدر النفس والروح من أبواق السيارات وضجيج آليات الحفر والتكسير.

 

ولكن فقدان هذه البيئات الخضراء والغابات الكثيفة ليست ظاهرة محلية نشاهدها فقط في البحرين، وإنما في الحقيقة هي ظاهرة دولية تعاني منها كل دول العالم بدرجاتٍ مختلفة، فظاهرة انكماش الغابات، وانحسار مساحاتها مشهودة كقضية دولية عامة ومشتركة. وهناك عدة تقارير نشرتها المنظمات المعنية للأمم المتحدة

لتقييم حجم هذه المشكلة والتعرف عن كثب على خسارة الكرة الأرضية لبيئة الغابات حول العالم، منها سلسلة تقارير دورية حول "حالة الغابات على كوكبنا" والصادرة من منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة، وآخرها نُشر العام الجاري تحت عنوان: "غابات العالم: حول حالة الغابات والتنمية الاقتصادية المستدامة على المستوى الدولي لعام 2022". فقد تكَون التقرير من ستة فصول، وجاء فيه بأن الغابات تغطي قرابة 31% من مساحة الأرض، أو ما يقدر بنحو 4.06 بليون هكتار، وهذه المساحة الواسعة في انكماش سريع ومستمر مع الوقت، حيث خسرنا زهاء 420 مليون هكتار في الفترة من 1990 إلى 2020، أي قرابة عشرة ملايين هكتار سنوياً في الفترة من 2015 إلى 2020. كما أننا فقدنا في الفترة من 2000 إلى 2020 قرابة 47 مليون هكتار من الغابات الأولية الاستوائية العذراء البكر. كذلك أكد التقرير بأن فقدان هذه المساحات الشاسعة من الغابات أدى إلى خسائر لا تقدر بثمن للبشرية جمعاء من التنوع الحيوي بشقيه النباتي والحيواني، فالغابات تمثل مخزن الدواء والعلاج وصيدلية عامة للكثير من الأسقام، فهي كنز لا يفنى ولا ينبض من شتى أنواع الأدوية الجديدة التي تستخلص من النباتات والحيوانات الفريدة من نوعها التي تعيش في تلك الغابات النائية والفطرية كما خلقها الله سبحانه وتعالى أول مرة. وعلاوة على ذلك فإن الغابات توفر المأوى والسكن والغذاء لنسبة كبيرة من سكان الأرض، إضافة إلى أنها توفر ذلك لنحو 80% من الزواحف والبرمائيات، و75% من الطيور، و68% من الثدييات. ومن ناحية أخرى فإن الغابات تعد رئة العالم أجمع، وفي الوقت نفسه تخلص الأرض وتنقي الهواء من أحجام كبيرة من الملوثات التي نطلقها يومياً من سياراتنا، وطائراتنا، ومصانعنا، فنرفع بها درجة حرارة الأرض، ونسبب التغير المناخي الذي نشهده الآن في كل بقاع الأرض. كذلك فإن الغابات توفر مياه الشرب للناس، حيث نشرت مجلة "أبحاث الموارد المائية"(Water Resources Research) بحثاً في 12 مايو 2022 حول هذه الفائدة العظيمة للغابات. وقد أفادت الدراسة بأن الغابات تُعد مصدراً لمياه الشرب لنحو 125.5 مليون أمريكي، أو قرابة 38% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن قرابة 10% من مياه الشرب لهؤلاء البشر مصدرها غابات أمريكا.

 

ونظراً لأهمية الغابات لاستدامة حياة البشر على سطح الأرض، إضافة إلى أهميتها القصوى لمكافحة ظاهرة التغير المناخي العصيبة المهددة لأمن وسلامة وعطاء كوكبنا، فإن دول العالم تبذل جهوداً وتقدم تعهدات منذ عقود للتصدي لظاهرة انخفاض مساحات الغابات. وآخر هذه التعهدات كان في الاجتماع رقم (26) للدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي الذي عقد في نوفمبر عام 2021 في مدينة جلاسجو البريطانية إعلان حول ، حيث تعهدت 140 دولة ووقعت على إعلان "الغابات واستخدام الأرض"، والذي التزمت فيه على أنها ستوقف قطع الغابات كلياً بحلول عام 2030، وستعمل على إعادة تأهيل الغابات المتدهورة والمتضررة. ولكنني شخصياً غير متفائل من هذه التعهدات أثناء انعقاد الاجتماعات الأممية، فهي عادةً ما تكون سياسية وتعهدات علاقات عامة، وغير قابلة عملياً للتنفيذ فلا تخصص لها الموارد المالية المطلوبة، حيث إن هذه الدول نفسها قد تعهدت من قبل في عام 2014 في نيويورك تحت مسمى "إعلان نيويورك للغابات"، ولكن منذ ذلك الوقت وعملية قطع الغابات وإزالتها مازالت مستمرة في كل الدول الموقعة على الإعلان، فعلى سبيل المثال، تشير التقديرات بأن العالم خسر قرابة 3.75 مليون هكتار من الغابات الاستوائية الفطرية في عام 2021 فقط.

 

فظاهرة انخفاض مساحة الغابات واسعة الانتشار في كل دول العالم، ولكن في بعض الدول هناك وفرة كبيرة من هذه الغابات، وفقدان مساحات صغيرة نسبياً منها ربما لا تمثل انتحاراً بيئياً، ولكن في دولة صحراوية مثل البحرين حيث المساحة المحدودة جداً من الغابات، فإن فقدان أي جزءٍ صغير يعد نكسة بيئية كبيرة يصعب إصلاحها أو تعويضها.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق